الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

فقه التنزيل عند الإمام ابن تيمية

الأستاذة / جميلة حسن تلوت

المطلب الثاني: ركنية اعتبار المآل في عملية تنـزيل الأحكام:

يعتـبر أصـل اعتبار المـآل ضربا من الاجتهاد التنـزيلي [1] ، لذلك فلا مناص للمجتهد من النظر إلى ما تؤول إليه الأفعال قبل الحكم عليها، لأنه قد ينـزل حكما لمصلحته الحالية الآنية ولم ينظر إلى مفسدته المآلية.

والمآلات إنما اعتبرت لكي تعالج غلو ما يفضي إليه التطبيق الآلي للنصوص على ما يندرج تحتها من وقائع جزئية لاتقاء النتائج الضرورية غير المقصودة للشارع، فهذا الأصل ينبني على أن الفعل يشرع لما يترتب عليه من المصالح واقعيا، ويمنع لما يؤدي إليه من المفاسد، وأن الناظر إذا بلغ به النظر في المآلات إلى توقع حدوث المصلحة التي تشرع الحكم لأجلها حكم بمشروعية هذا الفعل، وإذا بلغ به اجتهاده أن هذا الفعل في بعض الحالات غير محصل لهذه المصلحة، أو كان مع تحصيله لها مفوتا لمصلحة أهم أو مؤديا [ ص: 111 ] إلى حدوث ضرر أكبر منع الناظر منه، وبالمثل يحكم الناظر بالمنع من الفعل دفعا لمفسدته، طالما كان منه لا يؤدي إلى تساو أو تزيد [2] ، وهذا هو منهج الشارع، فهو "نهى عن المحرمات لإفضائها إلى فساد خارج عنها، فالجمع بين الأختين نهى عنه لإفضائه إلى قطيعة الرحم، والقطيعة أمر خارج عن النكاح، والخمر والميسر حرما، وجعلا رجسا من عمل الشيطان، لأن ذلك يفضي إلى الصد عن الصلاة، وإيقاع العداوة والبغضاء، وهو أمر خارج عن الخمر والميسر، والربا حرام، لأن ذلك يفضي إلى أكل المال بالباطل" [3] .

لذلك كان على المؤهل للتنـزيل أن لا يكتفي بالنظر إلى ما هو واقع وإنما يتطلع إلى المتوقع حتى لا يؤدي ذلك إلى حصول مفسدة أشد من المفسدة التي قصد بالمنع من الفعل درؤها؛ لأن الواجب تحصيل أرجح المصلحتين ودفع أشد الضررين، وفي هذا يقول الإمام ابن تيمية: "إن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وأنها ترجح خير الخيرين وشر الشرين، وتحصل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، وتدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما" [4] ، ويقـول أيضا: "رب قاعدة لو علم صاحبها ما تفضي إليه لم يقلها" [5] . [ ص: 112 ]

كما أن الفعل وإن استجمع الأسباب والشرائط مع انتفاء الموانع فهو معلق حتى يحقق في مآله، فقد يسفر التحقيق في المآل على مانع من موانع ذلك الفعل.

إن النظر في المـآل يحصـل لدى المجتهد قدرا من الاطمئنـان إلى تحقق المقصد من الحكم وإلى إفضاء تنـزيل الحكم على الفعـل إلى المصلحـة. ذلك أن التحقيق في مناطات الأحـكام يفضـي إلى أن فعلا ما يندرج ضمن الحكم المعين في نوعه وفي عينه، ولكن ذلك لا يكفي للتأكد من أن تطبيق الحكم على ذلك الفعل سيفضي إلى المصلحة المطلقة، إذ الفعل وإن تحقق مقصد حكمه فيه فقد يكون وقوعه مؤديا إلى حصول مفسدة أكبر من المصلحة التي تحققت به في ذاته، ومن ثمة فإن التنـزيل يحتاج إلى أصل آخر يكون به تتبع آثار الفعل عند إجراء حكمه عليه في دوائر أخرى خـارج دائرته لتبين ما ستـكون عليه تلك الآثار من منفعة أو مفسدة، وحينئذ يقع إجراء الفعل على الوجه الذي يجلب المنفعة ويدرأ المفسدة صرفا له عن مجال حكمه المقرر له إلى حكم آخر، أو تطبيقا لذلك الحكم عليه. [6] فمثلا في النهي عن المنكر ينبغي أن يراعى ألا يؤول إلى منكر أعظم منه [7] . [ ص: 113 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية