الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيرا )

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيرا ) .

                                                                                                                                                                                                                                            لما خوف الله المكذبين بمن مضى ، وكانوا من شدة عنادهم وفساد اعتقادهم يستعجلون بالعذاب ويقولون : عجل لنا عذابنا ، فقال الله : للعذاب أجل والله لا يؤاخذ الناس بنفس الظلم فإن الإنسان ظلوم جهول ، وإنما يؤاخذ بالإصرار وحصول يأس الناس عن إيمانهم ووجود الإيمان ممن كتب الله إيمانه فإذا لم يبق فيهم من يؤمن يهلك المكذبين ولو آخذهم بنفس الظلم لكان لكل يوم إهلاك ، وفيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : إذا كان الله يؤاخذ الناس بما كسبوا فما بال الدواب يهلكون ؟ نقول : الجواب من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : إن خلق الدواب نعمة ، فإذا كفر الناس يزيل الله النعم ، والدواب أقرب النعم ؛ لأن المفرد أولا ثم المركب ، والمركب إما أن يكون معدنيا ، وإما أن يكون ناميا ، والنامي إما أن يكون حيوانا وإما أن يكون نباتا ، والحيوان إما إنسان وإما غير إنسان ، فالدواب أعلى درجات المخلوقات في عالم العناصر للإنسان .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : هو أن ذلك بيان لشدة العذاب وعمومه فإن بقاء الأشياء بالإنسان كما أن بقاء الإنسان بالأشياء وذلك لأن الإنسان يدبر الأشياء ويصلحها فتبقى الأشياء ثم ينتفع بها الإنسان فإذا كان الهلاك عاما لا يبقى من الإنسان من يعمر ، فلا تبقى الأبنية والزروع ، ولا تبقى الحيوانات الأهلية ؛ لأن بقاءها بحفظ الإنسان إياها عن التلف والهلاك بالسقي والعلف .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : هو أن إنزال المطر هو إنعام من الله في حق العباد ، فإذا لم يستحقوا الإنعام قطعت الأمطار عنهم فيظهر الجفاف على وجه الأرض فتموت جميع الحيوانات ، وقوله تعالى : ( ما ترك على ظهرها من دابة ) .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثالث : لأن بسبب انقطاع الأمطار تموت حيوانات البر ، أما حيوانات البحر ، فتعيش بماء البحار .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : قوله تعالى : ( على ظهرها ) كناية عن الأرض وهي غير مذكورة ، فكيف علم ؟ نقول : مما تقدم ومما تأخر ، أما ما تقدم فقوله : ( وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض ) فهو أقرب [ ص: 34 ] المذكورات الصالحة لعود الهاء إليها ، وأما ما تأخر فقوله : ( من دابة ) لأن الدواب على ظهر الأرض ، فإن قيل : كيف يقال لما عليه الخلق من الأرض وجه الأرض وظهر الأرض ، مع أن الوجه مقابل الظهر كالمضاد ؟ نقول : من حيث إن الأرض كالدابة الحاملة للأثقال ، والحمل يكون على الظهر يقال له : ظهر الأرض ، ومن حيث إن ذلك هو المقابل للخلق المواجه لهم يقال له : وجهها ، على أن الظهر في مقابلة البطن ، والظهر والظاهر من باب والبطن والباطن من باب ، فوجه الأرض ظهر لأنه هو الظاهر وغيره منها باطن وبطن .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : في قوله تعالى : ( ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى ) وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : إلى يوم القيامة ، وهو مسمى مذكور في كثير من المواضع .

                                                                                                                                                                                                                                            ثانيها : يوم لا يوجد في الخلق من يؤمن على ما تقدم .

                                                                                                                                                                                                                                            ثالثها : لكل أمة أجل ولكل أجل كتاب ، وأجل قوم محمد صلى الله عليه وسلم أيام القتل والأسر كيوم بدر وغيره .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الرابعة : قوله تعالى : ( فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيرا ) تسلية للمؤمنين ، وذلك لأنه تعالى لما قال : ( ما ترك على ظهرها من دابة ) وقال : ( لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ) ( الأنفال : 25 ) قال : فإذا جاء الهلاك فالله بالعباد بصير ، إما أن ينجيهم أو يكون توفيهم تقريبا من الله لا تعذيبا ، لا يقال : قد ذكرت أن الله لا يؤاخذ بمجرد الظلم ، وإنما يؤاخذ حين يجتمع الناس على الضلال ، ونقول بأنه تعالى عند الإهلاك يهلك المؤمن فكيف هذا ؟ نقول : قد ذكرنا أن الإماتة والإفناء إن كان للتعذيب فهو مؤاخذة بالذنب وإهلاك ، وإن كان لإيصال الثواب فليس بإهلاك ولا بمؤاخذة ، والله لا يؤاخذ الناس إلا عند عموم الكفر ، وقوله : ( بصير ) اللفظ أتم في التسلية من العليم وغيره ؛ لأن البصير بالشيء الناظر إليه أولى بالإنجاء من العالم بحالة دون أن يراه ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية