الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الثانية : حسن الخلق وذلك أصل مهم في طلب الفراغة والاستعانة على الدين فإنها إذا كانت سليطة بذية اللسان سيئة الخلق كافرة للنعم كان الضرر منها أكثر من النفع والصبر على لسان النساء مما يمتحن به الأولياء .

قال بعض العرب لا تنكحوا من النساء ستة لا : أنانة ولا منانة ولا حنانة ولا تنكحوا حداقة ولا براقة ولا شداقة .

أما الأنانة فهي التي تكثر الأنين والتشكي وتعصب رأسها كل ساعة فنكاح الممراضة أو نكاح المتمارضة لا خير فيه والمنانة : التي تمن على زوجها فتقول : فعلت لأجلك كذا وكذا والحنانة التي تحن إلى زوج آخر أو ولدها من زوج آخر ، وهذا أيضا مما يجب اجتنابه والحداقة التي ترمي إلى كل شيء بحدقتها فتشتهيه وتكلف الزوج شراءه والبراقة تحتمل معنيين .

أحدهما : أن تكون طول النهار في تصقيل وجهها وتزيينه ليكون لوجهها بريق محصل بالصنع .

والثاني أن تغضب على الطعام فلا تأكل إلا وحدها وتستقل نصيبها من كل شيء وهذه لغة يمانية يقولون : برقت المرأة وبرق الصبي الطعام إذا غضب عنده والشداقة المتشدقة الكثيرة الكلام ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : " إن الله تعالى يبغض الثرثارين المتشدقين .

وحكي "
أن السائح الأزدي لقي إلياس عليه السلام في سياحته فأمره بالتزوج : ونهاه عن التبتل ثم قال : لا تنكح أربعا المختلعة والمبارية والعاهرة والناشز فأما المختلعة : فهي التي تطلب الخلع كل ساعة من غير سبب والمبارية : المباهية بغيرها المفاخرة بأسباب الدنيا والعاهرة : الفاسقة التي تعرف بخليل وخدن وهي التي قال الله تعالى : ولا متخذات أخدان والناشز : التي تعلو على زوجها بالفعال والمقال .

والنشز العالي من الأرض وكان علي رضي الله عنه يقول : شر خصال الرجال خير خصال النساء .

البخل والزهو ، والجبن ، فإن المرأة إذا كانت بخيلة حفظت مالها ومال زوجها وإذا كانت مزهوة استنكفت أن تكلم كل أحد بكلام لين مريب وإذا كانت جبانة فرقت من كل شيء فلم تخرج من بيتها واتقت مواضع التهمة خيفة من زوجها فهذه الحكايات ترشد إلى مجامع الأخلاق المطلوبة في النكاح .

التالي السابق


( الثانية: حسن الخلق) بضم الخاء واللام هيئة للنفس راسخة تصدر عنها الأفعال فيصير من غير حاجة إلى فكر وروية ، فإذا كانت الهيئة مما يصدر عنها الأفعال الجميلة عقلا وشرعا بسهولة سميت الهيئة خلقا حسنا، وهو المراد هنا ( وذلك أصل مهم في طلب الفراغة) عن الاشتغال ( والاستعانة على الدين فإنها إذا كانت سلطة) أي: جريئة ( بذئة اللسان) أي: فاحشة ( سيئة الخلق كافرة للنعم) أي: جاحدة لها ( كان الضرر منها أكثر من النفع) ؛ لأن تلك الأوصاف القبيحة غالبة على أوصافها الممدوحة ، ( والصبر على لسان النساء) أي: مما يتكلمن به من فحش القول ( مما يمتحن به الأولياء) فهم الذين يصبرون على ذلك لعلو مقامهم. ( قال بعض) حكماء ( العرب) .وفي "القوت " وأوصى بعض العرب أولاده فقال: ( لا تنكحوا من النساء ستا: أنانة ولا منانة ولا حنانة) هؤلاء ثلاث ، ( ولا تنكحوا حداقة ولا براقة ولا شداقة) تفسير ذلك:

( أما الأنانة) بالتشديد ( فإنها التي تكثر الأنين والتشكي وتعصب رأسها كل ساعة) وتعصيب الرأس علامة وجع الرأس، ( فنكاح الممراضة) مفعالة من المرض وهي التي تصيبها الأمراض كثيرا ( والمتمارضة) هي التي تظهر أنها مريضة وليس كذلك ( لا خير فيه) ، أما الممراضة فظاهر ، وأما المتمارضة فإنها لا يتهيأ لقبول النكاح فلا تصادف محله .

( والمنانة: التي تمن على زوجها فتقول: فعلت لك) و ( لأجلك كذا وكذا) وهذا مذموم، فإن ذكر مثل ذلك مما يغير الحب وينقص الألفة .

( والحنانة) تكون على وجهين قد تكون ( تحن) بقلبها ( إلى زوج آخر) قبله ( أو) تكون ذات ولد فتحن إلى ( ولدها من زوج آخر ، وهذا أيضا مما يجب اجتنابه) ، فإنه لا خير فيها على كلتا الحالتين .

( والحداقة) هي ( التي ترمي إلى كل شيء بحدقتها فتشتهيه وتكلف الزوج شراءه) بما لا يستطيع .

( والبراقة تحتمل معنيين: أن تكون طول النهار في تصقيل وجهها وتزيينه) في المرآة بلقط شعر ونتفه والتخصيب والادهان بما يحمره ( ليكون لوجهها بريق) ولمعان ( يحصل بالتصنع) والتكلف وهو مذموم ، ( والثاني أن) تبرق أي: ( تغضب على الطعام) لقلته أو لسوء خلقها ( فلا) تكاد البراقة ( تأكل إلا وحدها و) تكون أيضا ( تستقل نصيبها من كل شيء وهذه لغة يمانية) فاشية فيهم، ( يقولون: برقت المرأة وبرق الصبي الطعام إذا) تقلله و ( غضب عنده) هكذا نقله صاحب "القوت " ، ويحتمل أن يكون من برقت إذا تهددت وتوعدت ، أو من برقت إذا تزينت وتحسنت وتعرضت لذلك وأظهرته على عهده ، وهذه المعاني كلها مناسبة .

( والشداقة) العظيمة الأشداق ( الكثيرة الكلام) بشدقيها الذربة اللسان المغوصة في المنطق يقال: تشدق بالكلام إذا كثر منه ، ( ومنه قوله -صلى الله عليه وسلم-: " إن الله يبغض الثرثارين المتشدقين ") قال العراقي : روى الترمذي وحسنه من حديث جابر: " وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون " ولأبي داود والترمذي وحسنه من حديث عبد الله بن عمرو : " إن الله يبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه تخلل الباقرة بلسانها " .

( ويحكى أن السائح الأردني) منسوب إلى أردن كأفلس جمع فلس واد بالشام ( لقي إلياس) النبي ( عليه السلام في سياحته فأمره بالتزويج وقال: هو خير لك ونهاه عن التبتل) هو الانقطاع عن النكاح ، ( ثم قال: لا تنكح) من النساء ( أربعا) وأنكح سواهن. ( المختلعة والمبارية والعاهر والناشزة) ، نقله هكذا صاحب "القوت " ثم فسر فقال: ( أما المختلعة: فهي التي تطلب من زوجها الخلع كل ساعة من غير سبب) يوجبه وهو مع ذلك يحبها ( والمبارية: المباهية لغيرها المفاخرة بأسباب الدنيا) في كل شيء، ( والعاهرة: الفاسقة التي تعرف بخليل وخدن) أي: صاحب أجنبي، ( وهي التي قال تعالى: ولا متخذات أخدان ) هو جمع خدن ، ( والناشزة: التي تعلو على زوجها بالفعال والمقال) وهو [ ص: 342 ] مأخوذ من (النشز) ، بفتح فسكون، (العالي من الأرض) ، أهل اللغة يقولون: نشوزها: بغضها لزوجها، ورفع نفسها عن طاعته، والفقهاء يقولون: نشوزها: امتناعها مما يجب عليها له، وهذه القصة أوردها صاحب القوت .

ونقل ابن عبد البر عن مالك: أن المختلعة: هي التي اختلعت عن جميع مالها، والمفتدية: هي التي افتدت ببعضه، والمبارية: من بارت زوجها قبل الدخول، قال: وقد يستعمل بعض ذلك موضع بعض. اهـ .

وأخرج ابن الجوزي في مثير العزم بسنده إلى داود بن يحيى مولى عوف الطفاوي، عن رجل كان مرابطا في بيت المقدس بعسقلان قال: بينما أنا أسير في واد الأردن، إذا برجل في ناحية الوادي قائم يصلي، فإذا سحابة تظله من الشمس، فوقع في قلبي أنه إلياس النبي -عليه السلام- فأتيت فسلمت عليه، فانفتل من صلاته، فرد علي السلام، فقلت له: من أنت رحمك الله؟ فلم يرد علي شيئا، فأعدت القول مرتين، فقال: أنا إلياس النبي، فأخذتني رعدة شديدة، خشيت على عقلي أن يذهب، قلت له: إن رأيت -رحمك الله- أن تدعو لي أن يذهب عني ما أجد; حتى أفهم حديثك، فدعا لي بثمان دعوات، قال: يا بر، يا رحيم، يا حي، يا قيوم، يا حنان، يا منان، يا هيا شراهيا، فذهب عني ما كنت أجد، فقلت له: إلى من بعثت؟ فقال: إلى أهل بعلبك، قلت: فهل يوحى إليك اليوم؟ قال: منذ بعث محمد -صلى الله عليه وسلم- خاتم النبيين فلا، قلت: فكم من الأنبياء في الحياة؟ قال: أربعة: أنا، والخضر في الأرض، وإدريس، وعيسى في السماء، قلت: فهل تلتقي أنت والخضر؟ قال: نعم، بعرفات، يأخذ من شعري وآخذ من شعره. وأورد هذه القصة هكذا الحافظ ابن حجر في الإصابة، في ترجمة الخضر، ولم يذكر فيها ما ذكره صاحب القوت .

(و) قد (كان علي -رضي الله عنه- يقول: شر خصال الرجال خير خصال النساء، البخل، والزهد، والجبن، فإن المرأة إذا كانت بخيلة حفظت مالها ومال زوجها) ، والبخل مذموم في الرجال، (وإذا كانت مزهوة) ، أي: معجبة في نفسها، (استنكفت أن تكلم كل أحد) من الرجال (بكلام لين) ، يريب، أي: يوقع في الريب، والتهمة، وهذا الوصف مذموم في الرجال، فقد ورد: المؤمن كل هين لين، (وإذا كانت جبانة) ، والجبن: هيئة حاصلة للقوة الغضبية، بها تحجم عن مباشرة ما ينبغي، (فرقت) ، أي: خافت (من كل شيء) ، فلم تخرج من بيتها، (واتقت مواضع التهم خيفة من زوجها) . أورده صاحب القوت دون قوله: واتقت، إلخ .

(فهذه حكايات ترشد إلى مجامع الأخلاق المطلوبة في النكاح) ، والمنكوحة .




الخدمات العلمية