الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( إنك لمن المرسلين )

                                                                                                                                                                                                                                            وقوله تعالى : ( إنك لمن المرسلين ) مقسم عليه ، وفيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : الكفار أنكروا كون محمد مرسلا ، والمطالب تثبت بالدليل لا بالقسم ، فما الحكمة في الإقسام ؟ نقول فيه وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : هو أن العرب كانوا يتوقون الأيمان الفاجرة ، وكانوا يقولون : إن اليمين الفاجرة توجب خراب العالم ، وصحح النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله : " اليمين الكاذبة تدع الديار بلاقع " ثم إنهم كانوا يقولون : إن [ ص: 37 ] النبي صلى الله عليه وسلم يصيبه من آلهتهم عذاب ، وهي الكواكب ، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يحلف بأمر الله وإنزال كلامه عليه وبأشياء مختلفة ، وما كان يصيبه عذاب بل كان كل يوم أرفع شأنا وأمنع مكانا ، فكان ذلك يوجب اعتقاد أنه ليس بكاذب .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : هو أن المتناظرين إذا وقع بينهما كلام ، وغلب أحدهما الآخر بتمشية دليله وأسكته ، يقول المطلوب : إنك قررت هذا بقوة جدالك وأنت خبير في نفسك بضعف مقالك ، وتعلم أن الأمر ليس كما تقول وإن أقمت عليه صورة دليل وعجزت أنا عن القدح فيه وهذا كثير الوقوع بين المتناظرين فعند هذا لا يجوز أن يأتي هو بدليل آخر ، لأن الساكت المنقطع يقول في الدليل الآخر ما قاله في الأول فلا يجد أمرا إلا اليمين فيقول : والله إني لست مكابرا ، وإن الأمر على ما ذكرت ، ولو علمت خلافه لرجعت إليه ، فههنا يتعين اليمين ، فكذلك النبي صلى الله عليه وسلم لما أقام البراهين ، وقالت الكفرة : ( ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم ) ( سبأ : 43 ) ( وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم إن هذا إلا سحر مبين ) ( سبأ : 43 ) تعين التمسك بالأيمان لعدم فائدة الدليل .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : هو أن هذا ليس مجرد الحلف ، وإنما هو دليل خرج في صورة اليمين ؛ لأن القرآن معجزة ودليل كونه مرسلا هو المعجزة والقرآن كذلك ، فإن قيل : فلم لم يذكر في صورة الدليل ؟ وما الحكمة في ذكر الدليل في صورة اليمين ؟ قلنا : الدليل أن ذكره في صورة اليمين قد لا يقبل عليه سامع فلا يقبله فؤاده فإذا ابتدئ به على صورة اليمين ، واليمين لا يقع لا سيما من العظيم الأعلى أمر عظيم ، والأمر العظيم تتوفر الدواعي على الإصغاء إليه ، فلصورة اليمين تشرئب إليه الأجسام ، ولكونه دليلا شافيا يتشربه الفؤاد ، فيقع في السمع وينفع في القلب .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : كون القرآن حكيما عندهم لكون محمد رسولا ، فلهم أن يقولوا : إن هذا ليس بقسم ، نقول : الجواب عنه من وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : أن كون القرآن معجزة بين إن أنكروه ، قيل لهم : فأتوا بسورة من مثله .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أن العاقل لا يثق بيمين غيره إلا إذا حلف بما يعتقد عظمته ، فالكافر إن حلف بمحمد لا نصدقه كما نصدقه لو حلف بالصليب والصنم ، ولو حلف بديننا الحق لا يوثق بمثل ما يوثق به لو حلف بدينه الباطل ، وكان من المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعظمون القرآن ، فحلفه به هو الذي يوجب ثقتهم به .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية