الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان إهلاكهم بسبب إغضابهم لله وبالكبر على رسله، كانوا سببا لأن يتعظ بحالهم من يأتي بعدهم فلذلك قال تعالى: فجعلناهم أي بأخذنا لهم على هذه الصورة من الإغراق وغيره مما تقدمه سلفا متقدما لكل من يهلك بعدهم إهلاك غضب في الهلاك في الدنيا والعذاب في الآخرة وقدوة لمن يريد العلو في الأرض فتكون عاقبته في الهلاك في الدارين أو إحداهما عاقبتهم كما قال سبحانه عز من قائل وتبارك وتعالى وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ومثلا أي حديثا عجيبا سائرا مسير المثل للآخرين الذين خلفوا بعدهم من زمنهم إلى آخر الدهر فيكون حالهم عظة لناس وإضلالا لآخرين، فمن قضى أن يكون على مثل حالهم عمل مثل أعمالهم، ومن أراد [ ص: 453 ] النجاة مما نالهم تجنب أفعالهم، فمن أريد به الخير وفق لمثل خير يرده عن غيه، ومن أريد به الشر، وجعل له منهم مثلا يجترئ به على شره، ويقوى على خبثه ومكره، فيجعل الشرير ما أوتوه من الدنيا من النعمة والحبرة الرفاهية والنصرة مثلا له في التوصل إليه مما كانوا عليه من الظلم، ويجعل الخير إهلاكهم مثلا له فيبعد عن أفعالهم لينجو من مثل نكالهم، يقول أحدهم: أخذ الفلانيون أخذ آل فرعون، أي لم يفلت منهم إنسان ونحو ذلك من أمثالهم في جميع أحوالهم، ونقول نحن: إنا نهلك من ظلم وتمادى في ظلمه بعد تحذيرنا له وغشم وإن عظم آله وأتباعه، وظن عزه وامتناعه، كدأب آل فرعون، ويقول من أريد به الشر: ليس على ظهرها أحد يبقى إن خاف العواقب فأحجم عن شهواته وانهمك في رياض أهويته وإرادته وشهي طيباته وكذا ذاته كما وقع لفرعون فإنه لم يرجع لشيء عن رئاسته، وبلوغ النهاية من صلفه ونفاسته إلى أن ذهب به كما ذهب بغيره سواء سار بسيره أو بغير سيره، ولقد ضل به قوم وأضلوا، وحلوا لمن داناهم [ ص: 454 ] عرى الدين فزلوا، وما كفاهم ذلك حتى ادعوا أنه من أعز المقربين لأن الذي كان آخر كلامه الإيمان، فجب ما كانا قبله ولم يتدنس بعده فمات طاهرا مطهرا ليس فيه شيء من الدنس مع أن ذلك ما كان إلا عند اليأس حيث لا نفع فيه، وغروا الضعفاء بأن قالوا: إنه لا صريح في القرآن بعذابه بعد الموت تعمية عن الدليل القطعي المنتظم من قوله تعالى وإن فرعون لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين وأن المسرفين هم أصحاب النار المنتج من غير شك أن فرعون من أصحاب النار، وقوله تعالى فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد إلى أن قال إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب غير ذلك من محكم الآيات وصريح الدلالات البينات، وكذا غير فرعون وقومه من الصالحين والطالحين جعلهم سبحانه سلفا ومثلا للآخرين، فمن أراد به خيرا يسر له مثل خير احتذى به، ومن أراد به شرا أضله بمثل سوء اقتدى به، فقد جعل الله عيسى عليه الصلاة والسلام مثلا لتمام قدرته على اختراع الأشياء بأسباب وبغير أسباب، وكان أعبد أهل زمانه وأعلمهم وأزهدهم وأقربهم إلى الخير وأبعدهم عن الشر، فاقتدى [ ص: 455 ] به من أراد الله به الخير في مثل ذلك فاهتدى به، وضل به آخرون وضربوا به لأنفسهم أمثال الآلهة، وصاروا يفرحون بما لا يرضاه عاقل ولا يراه، وضربه قومك مثلا لآلهتهم لما أخبرنا أنهم معهم حصب جهنم وسروا بذلك وطربوا وظنوا أنهم فازوا وغلبوا:

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية