الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

قالت الأمة الغضبية: قد حظرت التوراة أمورا كانت مباحة من قبل، ولم تأت بإباحة محظور.

والنسخ الذي يمنعه هو ما أوجب إباحة محظور، لا ما أوجب تحريم ما كان مباحا.

[ ص: 447 ] قالوا: وشريعتكم جاءت بإباحة كثير مما حرمته التوراة، مع أنه إنما حرم؛ لما فيه من المفسدة.

وتبطل شبهتهم هذه بثبوت رفع البراءة الأصلية، ورفع الإباحة بالتحريم؛ فإنه تغيير لما كان عليه الحكم الاستصحابي والشرعي، بحكم آخر؛ لمصلحة اقتضت تغييره.

ولا فرق بين تغيير الإباحة بالتحريم، والتحريم بالإباحة.

والشبهة التي عرضت لهم في أحد الموضعين هي بعينها في الموضع الآخر.

فإن إباحة الشيء في الشريعة تابع لعدم مفسدته؛ إذ لو كانت فيه مفسدة راجحة لم تأت الشريعة بإباحته، فإذا حرمته الشريعة الأخرى، وجب -قطعا- أن يكون تحريمه فيها هو المصلحة؛ كما كان إباحته في الشريعة الأولى هي المصلحة.

فإن تضمن إباحة المحرم في الشريعة الأولى إباحة المفاسد -وحاشا لله- تضمن تحريم المباح في الشريعة الأولى تحريم المصالح، وكلاهما باطل.

فإذا جاز أن تأتي شريعة بتحريم ما كان إبراهيم ومن بعده يستبيحه، فجائز أن تأتي شريعة أخرى بتحليل بعض ما كان في التوراة محظورا.

وبهذه الشبهة الداحضة ردت الأمة الغضبية نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- ونبوة عيسى.

ويقال لهم أيضا: لا يخلو المحرم إما أن يكون تحريمه لعينه؛ بحيث يمنع إباحته في أي زمان، أو يكون تحريمه لما تضمنه من المفسدة.

فإن كان الأول لزم أن يكون ما حرمته التوراة محرما على جميع الأنبياء، في كل زمان ومكان، من عهد «نوح» إلى خاتم الأنبياء.

وإن كان التحريم والإباحة تابعين للمصالح، فهي تختلف بالزمان والمكان والحال، فيكون الشيء الواحد حراما في ملة دون ملة، ووقت دون وقت، وفي مكان دون مكان، وعلى حال دون حال.

[ ص: 448 ] قال تعالى: ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير [البقرة: 109- 107] فأخبر سبحانه أن عموم قدرته وملكه وتصرفه في مملكته وخلقه لا يمنعه أن ينسخ ما يشاء، ويثبت.

ومن العجب أنهم -مع حجرهم على الله أن ينسخ ما يشاء من شريعة موسى وغيره- قد صار تمسكهم في أكثر ما هم عليه مما شرعه أحبارهم.

فمن ذلك: أنهم يقولون بتحريم مؤاكلة من لم يكن على دينهم، ومناكحته، والأكل من ذبيحته؛ لأن علماءهم علموا أن دينهم لا يبقى -مع كونهم تحت الذلة- إلا بتنفيرهم عن مخالطة أهل سائر الأديان.

والتوراة إنما حرمت عليهم مناكحة عبدة الأصنام والشرك، وحرمت عليهم الذبائح التي يتقرب بها للأصنام؛ لأنها مما لم يذكر اسم الله عليه.

فأما الذبائح التي لم تذبح قربانا، فلم تحرمها التوراة. فما بال هؤلاء لا يأكلون ذبائح المسلمين، وهم يذكرون اسم الله عليها؟!

وقد ألف علماؤهم كتابين، يسمى أحدهما: «المشنا» وقدره نحو ثمانمائة ورقة، والآخر يسمى: «التلمود» ومقداره نصف حمل بغل.

ولم يكن مؤلفه واحدا، بل ألفه جيل بعد جيل، وهما مشتملان على ما أحدثوه مما لم يكن في التوراة.

واختلقوا أيضا كتابا في الذباحة، ووضعوا فيه من التشديدات والآصار ما لا أصل له.

فمن ذلك: أن ينفخ الرئة حتى تمتلئ هواء، ويتأملونها، هل يخرج الهواء من ثقب منها أم لا؟.

فإن خرج منها الهواء حرموها، وإن كان بعض أطراف الرئة لاصقة ببعض لم يأكلوه.

[ ص: 449 ] وأمروا الذي يتفقد الذبيحة أن يدخل يده في بطن الذبيحة، ويتأمل بأصابعه، فإن وجد القلب ملتصقا على الظهر، أو أحد الجانبين -ولو كان الالتصاق بعرق دقيق كالشعرة- حرموه، وسموه «طريقا» يعنون بذلك: أنه نجس، وأكله حرام.

وهذه التسمية هي أصل بلائهم، وذلك أن التوراة حرمت عليهم أكل الطريفا، وهي الفريسة التي يفترسها الأسد، أو الذئب، أو غيرهما من السباع.

وهو الذي عبر عنه القرآن بقوله: وما أكل السبع [المائدة: 3]. والدليل على ذلك أنه قال في التوراة «ولحم في الصحراء فريسة لا تأكلوا، وللكلب ألقوه».

وأصل لفظة «طريفا»: طوارف، وقد جاءت هذه اللفظة في التوراة في قصة «يوسف» لما جاء إخوته على قميصه بدم كذب، وزعموا أن الذئب افترسه.

وإنما قال في التوراة: «ولحم في الصحراء فريسة، لا تأكلوا» والغالب أن الفريسة إنما توجد في الصحراء.

وكان سبب نزول هذا عليهم: أنهم كانوا ذوي أخبية يسكنون البر؛ لأنهم مكثوا يترددون في التيه أربعين سنة، وكانوا لا يجدون طعاما إلا المن والسلوى، وهو طائر صغير يشبه السماني، وفيه من الخاصية: أن أكل لحمه يلين القلب، فإن هذا الطائر يموت إذا سمع الرعد، فألهمه الله أن يسكن جزائر البحر التي لا يكون بها مطر ولا رعد.

فكان اغتذاؤهم به كالدواء لقسوة قلوبهم. والمقصود هنا تعديهم في التسمية: «الطريفا» ووضعهم لها في غير محلها. والقصد بما ابتدعوه: التنفير من سائر الأمم، وإيهام الانفراد بما لم يعرفوه. وكلما كان الواحد من علمائهم أكثر تكلفا كان عندهم هو العالم الرباني، وما من جماعة منهم في بلدة إلا وإذا قدم عليهم عالم من أهل دينهم من بلاد [ ص: 450 ] بعيدة، يظهر لهم الخشونة في دينهم، والمبالغة في الاحتياط، ولا يزال يستنكر شيئا من أحوالهم، وينسبهم إلى عدم التشدد في الدين.

وقصده: إما الرياسة عليهم، وإما تحصيل شيء من المآرب.

وإذا أراد المقام عندهم تأمل سكين ذبحهم، ويقول: أنا لا آكل إلا من ذبيحة يدي، ولا يزال كذلك.

فإذا قدم عليهم قادم، وخاف المقيم أن يعترضه ذلك القادم، تلقاه وأكرمه، وسعى في موافقته وتصديقه.

فيستحسن ما فعله الأول، ويقول لهم: لقد أعظم الله ثواب فلان؛ إذ قوى ناموس الدين في قلوب هذه الجماعة، [و] شيد أشباح الشرع عندهم.

وإذا لقيه يظهر من مدحه وشكره والدعاء له، وإن كان القادم الثاني منكرا لما جاء به الأول من التشديد والتضييق لم يقع عندهم بموقع، وربما نسبوه إلى الجهل، أو رقة الدين؛ لأنهم يرون التضييق وتحريم الحلال هو الدين.

فهم -أبدا- يعتقدون الصواب والحق مع من تشدد، هذا إذا كان القادم من فقهائهم.

فأما إذا كان من عبادهم وأحبارهم، فهناك ترى العجب العجاب، من الناموس الذي يعتمده، والسنن التي يحدثها، ويلحقها بالفرائض، فتراهم مسلمين له، وهو يحتلب درهم، ويجتلب درهمهم.

التالي السابق


الخدمات العلمية