الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
التاسع : في النشوز ومهما وقع بينهما خصام ولم يلتئم أمرهما ، فإن كان من جانبهما جميعا أو من الرجل فلا تسلط الزوجة على زوجها ، ولا يقدر على إصلاحها فلا بد من حكمين أحدهما من أهله والآخر من أهلها لينظرا بينهما ، ويصلحا أمرهما إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما وقد بعث عمر رضي الله عنه ، حكما إلى زوجين فعاد ولم يصلح أمرهما فعلاه ، بالدرة وقال : إن الله تعالى يقول : إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما بينهما ، فعاد الرجل وأحسن النية ، وتلطف بهما فأصلح بينهما .

وأما إذا كان النشوز من المرأة خاصة ، فالرجال قوامون على النساء فله أن يؤدبها ، ويحملها على الطاعة قهرا وكذا إذا كانت تاركة للصلاة فله حملها على الصلاة قهرا ولكن ينبغي أن يتدرج في تأديبها وهو : أن يقدم أولا الوعظ والتحذير والتخويف فإن لم ينجح ولاها ظهره في المضجع أو انفرد عنها بالفراش ، وهجرها وهو في البيت معها من ليلة إلى ثلاث ليال .

فإن لم ينجح ذلك فيها ضربها ضربا غير مبرح بحيث يؤلمها ولا يكسر لها عظما ولا يدمي لها جسما ولا يضرب وجهها ، فذلك منهي عنه .

وقد قيل لرسول الله ، صلى الله عليه وسلم ما حق المرأة على الرجل قال : يطعمها إذا طعم ، ويكسوها إذا اكتسى ، ولا يقبح الوجه ، ولا يضرب إلا ضربا غير مبرح ، ولا يهجرها إلا في المبيت .

وله أن يغضب عليها ، ويهجرها في أمر من أمور الدين إلى عشر ، وإلى عشرين وإلى شهر .

فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أرسل إلى زينب بهدية فردتها عليه .

فقالت له التي هو في بيتها لقد أقمأتك إذ ردت عليك هديتك ، أي : أذلتك ، واستصغرتك فقال صلى الله عليه وسلم : أنتن أهون على الله أن تقمئنني ، ثم غضب عليهن كلهن شهرا ، إلى أن عاد إليهن .

التالي السابق


(التاسع: في النشوز) مصدر: نشزت المرأة عن زوجها، من باب قعد، وضرب، إذا عصته وامتنعت عليه، ونشز الرجل من زوجته بالوجهين: تركها وجفاها، وفي التنزيل: وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا ، وأصله: الارتفاع، ويقال: نشز من مكانه نشوزا بالوجهين، إذا ارتفع عنه، وفي السبعة: وإذا قيل لهم انشزوا، بالضم، والكسر، كذا في المصباح، وقال الراغب: نشوز المرأة: بغضها لزوجها، ورفع نفسها عن طاعته، وقال الفقهاء: نشوزها: امتناعها مما يجب عليها له .

(ومهما وقع بينهما خصام) ونفر أحدهما عن الآخر (ولم يلتئم أمرهما، فإن كان) ذلك (من جانبيهما جميعا) بأن كان كل منهما خاصم الآخر (أو) كان ذلك (من) جانب (الرجل) فقط (فلا تسلط الزوجة على زوجها، ولا يقدم على إصلاحها) وفي بعض النسخ: ولا يقدر. (فلا بد) حينئذ (من) نصب (حكمين) وأصل الحكم: القضاء والفصل بين الفريقين، قد حكم بينهما: إذا فصل، فهو حاكم، وحكم (أحدهما من) طرف (أهله) أي: أهل الزوج (والآخر من أهلها) أي: أهل المرأة (لينظرا بينهما، ويصلحا أمرهما) حسب الاستطاعة (فإن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما) وذلك بنص القرآن (وقد بعث عمر رضي الله عنه، حكما إلى زوجين) كان قد وقع بينهما خصام (فعاد ولم يصلح أمرهما، فعلا) عليه (بالدرة) أي: السوط (وقال: إن الله تعالى يقول: إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما ، فعاد الرجل) ثانيا إليهما (وأحسن النية، وتلطف بهما) في الكلام (فأصلح ما بينهما) وفي التنزيل: وإن خفتم شقاق بينهما قال القاضي: أي: خلافا بين المرء وزوجته، فابعثوا حكما من أهله، وحكما من أهلها، أي: فابعثوا أحد الحكام متى اشتبه عليكم حالهما، لتبين الأمر، وإصلاح ذات البين، رجلا وسيطا يصلح للحكومة، والإصلاح، من أهله، وآخر من أهلها، فإن الأقارب أعرف ببواطن الأحوال، وأطلب للصلاح، وعلى هذا وجه الاستحباب، فلو نصبا من الأجانب جاز، وقيل: الخطاب للأزواج والزوجات، واستدل به على جواز التحكيم، والأظهر: أن النصب لإصلاح ذات البين، ولتبين الأمر، ولا يليان الجمع والتفرق إلا بإذن الزوجين، وقال مالك: لهما أن يتخالعا إن وجدا الإصلاح فيه، ثم قال تعالى: إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما ،الضمير الأول للحكمين، والثاني للزوجين، أي: إن قصد الإصلاح يوفق الله بينهما، فتتفق كلمتهما، ويحصل مقصودهما، وقيل: للزوجين، أي: إن أرادا الإصلاح، زال الشقاق، وأوقع الله بينهما الألفة، والوفاق، وفيه: تنبيه على أن من أصلح نيته فيما يتحراه أصلح الله مبتغاه، إن الله كان عليما خبيرا، بالظواهر والبواطن، فيعلم كيف يرفع الشقاق، ويوقع الوفاق .

(وأما إذا كانت) المشاققة من جانب (المرأة خاصة، فالرجال قوامون على النساء) يقومون عليهن مقام الولاة على الرعية، وقد ذكر الله في التزيل وعلله بأمرين: موهبي، وكسبي، فقال: بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم ، فالأول: تفضيل عليهن بكمال العقل، وحسن التدبير، ومزيد القوة في الأعمال، والطاعات، والثاني: إنفاقهم [ ص: 370 ] من الأموال في نكاحهن، كالمهر، والنفقة (فله أن يؤدبها، ويحملها على الطاعة قهرا) وليس لها أن تعانده، أو تخالفه فيما أمر، وروي أن سعد بن الربيع -أحد نقباء الأنصار- نشزت عليه امرأته، فلطمها، فانطلق بها أبوها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فشكا، فقال عليه السلام: لتقتص منه، فنزلت هذه الآية، فقال: أردنا أمرا، وأراد الله أمرا، والذي أراد الله خير (ولكن ينبغي أن يتدرج في تأديبها) ويتمهل (وهو: أن يقدم أولا الوعظ) فينصحها (والتخويف) أي: يحذرها، ويخوفها من عصيانها له، فيما هو إصلاح لها، أو لهما، مما أبيح لهما (فإن لم ينجع) أو لم ينفع (ولاها ظهره في المضجع) أي: لا يقبل عليها بوجهه، هكذا فسره بعض العلماء (وانفرد عنها بالفراش، وهجرها وهو في البيت) وهكذا قال بعض العلماء، ففي القول الأول: الفراش واحد، ولكن يوليها ظهره، وفي الثاني: الفراش مختلف، وكلاهما في المبيت، فالمراد: الهجر في موضع النوم، فعلى هذا، المراد بالمضجع: مبيت النوم، وقد نهي عن المبايتة معهن، ويحتمل على الوجه الأول: أنه لا يدخلها تحت لحافه، ولو لم يولها ظهره، ويحتمل: أن يكون هذا كناية عن الجماع، أي: لا تجامعوها ولو كانت في فرش واحد، أو يجامعها ولكن لا يكلمها، وهذه الوجوه كلها يحتملها قوله عز وجل: واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن ، فقدم الوعظ أولا، ثم قال: واهجروهن في المضاجع ، أي: لا تدخلوهن تحت اللحف، أو لا تباشروهن، فيكون كناية عن الجماع، أو لا تبايتوهن، ثم إذا هجرها في المبيت، وعزل فرشه عن فرشها نحوا (من ليلة إلى ثلاث ليال) هكذا نقله صاحب القوت عن بعض العلماء، وذلك لما ورد من الوعيد الشديد فيمن يهجر أخاه فوق ثلاث، فقد روى الطبراني في الكبير، من حديث فضالة بن عبيد: من هجر أخاه فوق ثلاث فهو في النار، إلا أن يتداركه الله بكرامته. (فإن لم ينجع) ذلك فيها، ولم تباله (ضربها ضربا غير مبرح) ولا شائن، وقد قال الله تعالى في الآية المذكورة: واضربوهن ، والأمور الثلاثة: يعني: الوعظ، والهجر، والضرب، مرتبة ينبغي أن يدرج فيها، فلا يقدم الهجر على الوعظ، ولا الضرب على كل منهما، ثم قال تعالى: فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا ، والمعنى: فأزيلوا عنهن التعرض لهن بالتوبيخ، والإيذاء، واجعلوا ما كان منهن كأن لم يكن، فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، وقال في تفسير الضرب الغير المبرح: أنه يضربها (بحيث يؤلمها) أي: ضربا يحدث منه الألم، فخرج عنه ما إذا ضربها على شيء ثخين، على ظهرها، فإنه لا يؤلمها (ولا يكسر لها عظما) أي: لا يضرب على عظامها ليكسرها، وإنما يضربها على لحمها (ولا يدمي لها جسما) فأولى المواضع بالضرب بواطن رجليها (ولا يضرب وجهها، فذلك منهي عنه) فقد روى أبو داود، من حديث أبي هريرة: إذا ضرب أحدكم فليتق الوجه. (وقد قيل لرسول الله، صلى الله عليه وسلم) ولفظ القوت: وجاء مع حق المرأة للرجل، ما سئل عنه رسول الله، صلى الله عليه وسلم (ما حق المرأة على الرجل) ؟ ولفظ القوت: على زوجها. (فقال: يطعمها إذا أطعم، ويكسوها إذا اكتسى، ولا يقبح لها وجها، ولا يضربها إلا ضربا غير مبرح، ولا يهجرها إلا في بيتها) . ولفظ القوت: ولا يقبح الوجه، ولا يضرب إلا ضربا غير مبرح، ولا يهجر إلا في البيت. قال العراقي: رواه أبو داود، والنسائي في الكبرى، وابن ماجه، من رواية معاوية بن حيدة، بسند جيد، وقال: ولا يضرب الوجه ولا يقبح. وفي رواية لأبي داود: ولا يقبح الوجه ولا يضرب. اهـ. قلت: وبمثل رواية النسائي، رواه الطبراني في الكبير، والحاكم، والبيهقي، كلهم من رواية بهز بن حكيم بن معاوية بن حيدة، عن أبيه، عن جده، وقال الحاكم: صحيح ،وأقره الذهبي، وصححه الدارقطني في العلل، وأورده البخاري معلقا قوله: ولا يقبح. أي: لا يسمعها المكروه، ولا يشتمها، ولا يقل: قبحك الله. وفي رواية: إذا أطعمت وإذا اكتسيت. وفي رواية للبخاري: غير أن لا يهجر إلا في البيت. قال ابن المنذر: والحصر الواقع في خبر معاوية هذا غير معمول به، بل يجوز الهجر في غير البيوت، كما وقع له -صلى الله عليه وسلم- من هجره أزواجه في المشربة، قال الحافظ ابن حجر: والحق أن ذلك يختلف باختلاف الأحوال، فربما كان الهجر في البيت أشق منه في غيره، وعكسه، والغالب أن الهجر في غير البيت آلم للنساء; لضعف نفوسهن .

(وله أن يغضب عليها، ويهجرها في أمر من أمور الدين) إذا خالفته فيه (إلى [ ص: 371 ] عشر، وإلى شهر) وفي القوت: من عشر إلى أشهر (فعل ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-) غضب على نسائه شهرا في كلام كلمه بعضهن (إذ أرسل بهدية إلى بيت زينب) ابنة جحش الأسدية (فردتها إليه) ولم تقبلها (فقالت له التي هو في بيتها) أي: صاحبة النوبة (لقد أقمأتك إذ ردت عليك هديتك، أي: أذلتك، واستصغرتك) وهذه كلمة من الاتباع، تقول العرب: قد أذللته، وأقميته، ويقولون: لتفعلن كذا صاغرا، قميا، وما زال كذلك حتى ذل وقمأ، يعنون بهذه الكلمة: السب بالتصغير، والتذليل، للمبالغة في الصغر (فقال -صلى الله عليه وسلم-: أنتن أهون على الله أن تقمئنني، ثم غضب عليهن كلهن شهرا، إلى أن عاد إليهن) هكذا هو في القوت، قال العراقي: ذكره ابن الجوزي في الوفاء، بغير إسناد، وفي الصحيحين، من حديث عمر: كان أقسم أن لا يدخل عليهن شهرا، من شدة موجدته عليهن. وفي رواية آلى عليهن شهرا. ولمسلم من حديث جابر: ثم اعتزلهن شهرا. اهـ .




الخدمات العلمية