الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                              السراج الوهاج من كشف مطالب صحيح مسلم بن الحجاج

                                                                                                                              صديق خان - محمد صديق حسن خان القنوجي الظاهري

                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                              5002 [ ص: 704 ] سورة «سبحان » : باب في قوله تعالى : ويسألونك عن الروح

                                                                                                                              وهو في النووي ، في : (باب صفة القيامة ، والجنة والنار ) .

                                                                                                                              (حديث الباب )

                                                                                                                              وهو بصحيح مسلم \ النووي ، ص 136 ، 137 ج 17 ، المطبعة المصرية

                                                                                                                              ( عن عبد الله ؛ قال : بينما أنا أمشي مع النبي ، صلى الله عليه وسلم ، -في حرث- ، وهو متكئ على عسيب ، إذ مر بنفر من اليهود ؛ فقال بعضهم لبعض : سلوه عن الروح .

                                                                                                                              فقالوا : ما رابكم إليه ؟ لا يستقبلكم بشيء تكرهونه .

                                                                                                                              فقالوا : سلوه . فقام إليه بعضهم ، فسأله عن الروح .

                                                                                                                              قال : فأسكت النبي ، صلى الله عليه وسلم ، فلم يرد عليه شيئا . فعلمت : أنه يوحى إليه .

                                                                                                                              قال : فقمت مكاني . فلما نزل الوحي ، قال : ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) .


                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                              (الشرح)

                                                                                                                              (عن عبد الله بن مسعود ) رضي الله عنه ؛ (قال : بينما أنا أمشي ، مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، في حرث ) : بالثاء المثلثة . وكذا [ ص: 705 ] رواه البخاري في مواضع . ورواه في أول الكتاب : «خرب » بالباء والخاء «جمع : خراب » . قال العلماء : الأول أصوب . وللآخر وجه . ويجوز أن يكون الموضع ، فيه الوصفان .

                                                                                                                              (وهو متكئ ) أي : معتمد (على عسيب ) ، هو جريد النخل (إذ مر بنفر من اليهود ، فقال بعضهم لبعض : سلوه ، عن الروح . فقالوا : ما رابكم إليه ؟ ) هكذا في جميع النسخ .

                                                                                                                              أي : ما دعاكم إلى سؤاله ؟ أو ما شكككم فيه ، حتى احتجتم إلى سؤاله ؟ أو ما دعاكم إلى سؤال تخشون سوء عقباه ؟ (لا يستقبلكم بشيء تكرهونه . فقالوا : سلوه . فقام إليه بعضهم ؛ فسأله عن الروح ؟ قال : فأسكت النبي ، صلى الله عليه وآله وسلم) أي : سكت . وقيل : أطوق . وقيل : أعرض عنه (فلم يرد عليه شيئا . فعلمت : أنه يوحى إليه . قال : فقمت مكاني . فلما نزل الوحي ، قال : ويسألونك عن الروح ) وكذا ذكره البخاري في أكثر أبوابه .

                                                                                                                              قال عياض : وهو وهم . وصوابه : ما في رواية « ابن ماهان » : (فلما انجلى عنه ) . وكذا رواه البخاري في موضع .

                                                                                                                              [ ص: 706 ] وفي موضع : «فلما صعد الوحي » . قال : وهذا وجه الكلام ، لأنه قد ذكر قبل ذلك نزول الوحي عليه .

                                                                                                                              قال النووي : قلت : وكل الروايات صحيحة . ومعنى رواية مسلم : أنه لما نزل الوحي ، وتم : نزل قوله تعالى : ( قل الروح من أمر ربي ، وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) . هكذا هو في بعض النسخ : «أوتيتم » على وفق القراءة المشهورة . وفي أكثر نسخ البخاري ، ومسلم : «وما أوتوا » .

                                                                                                                              قال المازري : الكلام (في الروح والنفس ) : مما يغمض ويدق ، ومع هذا : فأكثر الناس فيه الكلام ، وألفوا فيه التأليف ؛

                                                                                                                              قال أبو الحسن الأشعري : هو النفس الداخل والخارج .

                                                                                                                              وقال ابن الباقلاني : هو متردد بين هذا الذي قاله الأشعري ، وبين الحياة .

                                                                                                                              وقيل : هو جسم لطيف ، مشارك للأجسام الظاهرة ، والأعضاء الظاهرة .

                                                                                                                              وقال بعضهم : لا يعلم الروح إلا الله تعالى ، لقوله : «من أمر ربي » .

                                                                                                                              [ ص: 707 ] وقال الجمهور : هي معلومة ، واختلفوا فيها على هذه الأقوال . وقيل : هي الدم . وقيل غير ذلك .

                                                                                                                              وليس في الآية دليل على أنها لا تعلم ، ولا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، لم يكن يعلمها .

                                                                                                                              وإنما أجاب بما في الآية الكريمة ، لأنه كان عندهم : أنه إن أجاب بتفسير الروح ، فليس بنبي .

                                                                                                                              وفي «الروح » لغتان ؛ التذكير والتأنيث . انتهى ما ذكره النووي .

                                                                                                                              وفي (فتح البيان )- بعد ما حكى أقوال أهل العلم ، في معنى الروح وتفسيره - : هو من جنس ما استأثر الله بعلمه : من الأشياء التي لم يعلم بها عباده ، وأبهم أمر الروح ، وهو مبهم في التوراة أيضا .

                                                                                                                              قال : والخطاب عام لجميع الخلق ، ومن جملتهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم . وقيل : هو خطاب لليهود خاصة .

                                                                                                                              والأول أولى ، ويدخل فيه اليهود دخولا أوليا .

                                                                                                                              قال : وفي هذه الآية : ما يزجر الخائضين في شأن الروح ، المتكلمين لبيان ماهيته وإيضاح حقيقته : أبلغ زجر ، ويردعهم أعظم ردع . وقد أطالوا المقال في هذا البحث : ما لا يتسع له المقام . وغالبه ، بل كله : من الفضول ، الذي لا يأتي بنفع في دين ولا في دنيا .

                                                                                                                              وقد حكى بعض المحققين : أن أقوال المختلفين في الروح : بلغت [ ص: 708 ] إلى ثماني عشرة مائة قول . فانظر إلى هذا الفضول الفارغ ، والتعب العاطل عن النفع ، بعد أن علموا أن الله سبحانه ، قد استأثر بعلمه ، ولم يطلع عليه أنبياءه ، ولا أذن لهم بالسؤال عنه ، ولا البحث عن حقيقته - فضلا عن أممهم المقتدين بهم فيا لله العجب ، حيث تبلغ أقوال أهل الفضول والقانعين بالمعقول عن المنقول : إلى هذا الحد الذي لم تبلغه ولا بعضه - في غير هذه المسألة - مما أذن الله : بالكلام فيه ، ولم يستأثر بعلمه ! وقد عجزت الأوائل عن إدراك ماهيته ، بعد إنفاق الأعمار الطويلة : على الخوض فيه .

                                                                                                                              والحكمة في ذلك : تعجيز العقل عن إدراك معرفة مخلوق مجاور له ، ليدل على أنه عن إدراك خالقه أعجز . ولذا رد ما قيل في حده قديما وحديثا ، وختم الآية بقوله سبحانه : وما أوتيتم من العلم إلا قليلا أي : إن علمكم الذي ليس إلا المقدار القليل - بالنسبة إلى علم الخالق سبحانه - وإن أوتي حظا من العلم وافرا ، بل علم الأنبياء عليهم السلام : ليس هو بالنسبة إلى علم الله ، إلا كما يأخذ الطائر في منقاره من البحر ، كما في حديث موسى والخضر .

                                                                                                                              هذا آخر كلام تفسيرنا (فتح البيان )، وعليه من أنوار الحق لمعان ، لا يخفى على إنسان له عينان .




                                                                                                                              الخدمات العلمية