الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين ( 74 ) وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين ( 75 ) فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين ( 76 ) فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين ( 77 ) فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون ( 78 ) إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين ( 79 ) )

قال الضحاك ، عن ابن عباس : إن أبا إبراهيم لم يكن اسمه آزر ، إنما كان اسمه تارح . رواه ابن أبي حاتم .

وقال أيضا : حدثنا أحمد بن عمرو بن أبي عاصم النبيل ، حدثنا أبي ، حدثنا أبو عاصم شبيب ، حدثنا عكرمة ، عن ابن عباس في قوله : ( وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر ) يعني بآزر : الصنم ، وأبو إبراهيم اسمه تارح وأمه اسمها مثاني وامرأته اسمها سارة وأم إسماعيل اسمها هاجر ، وهي سرية إبراهيم .

وهكذا قال غير واحد من علماء النسب : إن اسمه تارح . وقال مجاهد والسدي : آزر : اسم صنم .

قلت : كأنه غلب عليه آزر لخدمته ذلك الصنم ، فالله أعلم

[ ص: 289 ]

وقال ابن جرير : وقال آخرون : " هو سب وعيب بكلامهم ، ومعناه : معوج " ولم يسنده ولا حكاه عن أحد .

وقد قال ابن أبي حاتم : ذكر عن معتمر بن سليمان ، سمعت أبي يقرأ : ( وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر ) قال : بلغني أنها أعوج ، وأنها أشد كلمة قالها إبراهيم - عليه السلام - .

ثم قال ابن جرير : والصواب أن اسم أبيه آزر . ثم أورد على نفسه قول النسابين أن اسمه تارح ثم أجاب بأنه قد يكون له اسمان ، كما لكثير من الناس ، أو يكون أحدهما لقبا وهذا الذي قاله جيد قوي ، والله أعلم .

واختلف القراء في أداء قوله تعالى : ( وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر ) فحكى ابن جرير ، عن الحسن البصري وأبي يزيد المدني أنهما كانا يقرآن : ( وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة ) معناه : يا آزر ، أتتخذ أصناما آلهة .

وقرأ الجمهور بالفتح ، إما على أنه علم أعجمي لا ينصرف ، وهو بدل من قوله : ( لأبيه ) أو عطف بيان ، وهو أشبه .

وعلى قول من جعله نعتا لا ينصرف أيضا كأحمر وأسود .

فأما من زعم أنه منصوب لكونه معمولا لقوله : ( أتتخذ أصناما ) تقديره : يا أبت ، أتتخذ آزر أصناما آلهة ، فإنه قول بعيد في اللغة ; لأن ما بعد حرف الاستفهام لا يعمل فيما قبله ; لأن له صدر الكلام ، كذا قرره ابن جرير وغيره . وهو مشهور في قواعد العربية .

والمقصود أن إبراهيم - عليه السلام - ، وعظ أباه في عبادة الأصنام ، وزجره عنها ، ونهاه فلم ينته ، كما قال : ( وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة ) أي : أتتأله لصنم تعبده من دون الله ( إني أراك وقومك ) أي : السالكين مسلكك ( في ضلال مبين ) أي : تائهين لا يهتدون أين يسلكون ، بل في حيرة وجهل وأمركم في الجهالة والضلال بين واضح لكل ذي عقل صحيح .

وقال تعالى : ( واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا ) [ مريم : 41 - 48 ] [ ص: 290 ] فكان إبراهيم - عليه السلام - ، يستغفر لأبيه مدة حياته ، فلما مات على الشرك وتبين إبراهيم ذلك ، رجع عن الاستغفار له ، وتبرأ منه ، كما قال تعالى : ( وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم ) [ التوبة : 114 ] .

وثبت في الصحيح : أن إبراهيم يلقى أباه آزر يوم القيامة فيقول له أبوه : يا بني ، اليوم لا أعصيك ، فيقول إبراهيم : أي رب ، ألم تعدني أنك لا تخزني يوم يبعثون وأي خزي أخزى من أبي الأبعد؟ فيقال : يا إبراهيم انظر ما وراءك . فإذا هو بذيخ متلطخ فيؤخذ بقوائمه ، فيلقى في النار

وقوله : ( وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض ) أي : نبين له وجه الدلالة في نظره إلى خلقهما على وحدانية الله ، عز وجل ، في ملكه وخلقه ، وإنه لا إله غيره ولا رب سواه ، كقوله ( قل انظروا ماذا في السماوات والأرض ) [ يونس : 101 ] ، وقال ( أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض ) [ الأعراف : 185 ] ، وقال ( أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء إن في ذلك لآية لكل عبد منيب ) [ سبأ : 9 ] .

فأما ما حكاه ابن جرير وغيره ، عن مجاهد وعطاء وسعيد بن جبير والسدي وغيرهم قالوا - واللفظ لمجاهد - : فرجت له السموات ، فنظر إلى ما فيهن ، حتى انتهى بصره إلى العرش ، وفرجت له الأرضون السبع ، فنظر إلى ما فيهن - وزاد غيره - : فجعل ينظر إلى العباد على المعاصي فيدعوا عليهم ، فقال الله له : إني أرحم بعبادي منك ، لعلهم أن يتوبوا ويراجعوا . وقد روى ابن مردويه في ذلك حديثين مرفوعين ، عن معاذ وعلي [ بن أبي طالب ] ولكن لا يصح إسنادهما ، والله أعلم . وروى ابن أبي حاتم من طريق العوفي ، عن ابن عباس في قوله : ( وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين ) فإنه تعالى جلا له الأمر ; سره وعلانيته ، فلم يخف عليه شيء من أعمال الخلائق ، فلما جعل يلعن أصحاب الذنوب قال الله : إنك لا تستطيع هذا . فرده [ الله ] - كما كان قبل ذلك - فيحتمل أن يكون كشف له عن بصره ، حتى رأى ذلك عيانا ، ويحتمل أن يكون عن بصيرته حتى شاهده بفؤاده وتحققه وعرفه ، وعلم ما في ذلك من الحكم الباهرة والدلالات القاطعة ، كما رواه الإمام أحمد والترمذي وصححه ، عن معاذ بن جبل [ رضي الله عنه ] [ ص: 291 ] في حديث المنام : " أتاني ربي في أحسن صورة فقال : يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى؟ فقلت : لا أدري يا رب ، فوضع كفه بين كتفي ، حتى وجدت برد أنامله بين ثديي ، فتجلى لي كل شيء وعرفت . . . " وذكر الحديث

وقوله : ( وليكون من الموقنين ) قيل : " الواو " زائدة ، تقديره : وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض ليكون من الموقنين ، كقوله : ( [ وكذلك ] نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين ) [ الأنعام : 55 ] .

وقيل : بل هي على بابها ، أي نريه ذلك ليكون عالما وموقنا .

وقوله : ( فلما جن عليه الليل ) أي : تغشاه وستره ( رأى كوكبا ) أي : نجما ( قال هذا ربي فلما أفل ) أي : غاب . قال محمد بن إسحاق بن يسار : " الأفول " الذهاب . وقال ابن جرير : يقال : أفل النجم يأفل ويأفل أفولا وأفلا إذا غاب ، ومنه قول ذي الرمة .


مصابيح ليست باللواتي تقودها نجوم ، ولا بالآفلات الدوالك



ويقال : أين أفلت عنا؟ بمعنى : أين غبت عنا؟

قال : ( قال لا أحب الآفلين ) قال قتادة : علم أن ربه دائم لا يزول ( فلما رأى القمر بازغا ) أي : طالعا ( قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي ) أي : هذا المنير الطالع ربي ) هذا أكبر ) أي : جرما من النجم ومن القمر ، وأكثر إضاءة . : ( فلما أفلت ) أي : غابت ( قال يا قوم إني بريء مما تشركون إني وجهت وجهي ) أي أخلصت ديني وأفردت عبادتي ( للذي فطر السماوات والأرض ) أي : خلقهما وابتدعهما على غير مثال سبق . ) حنيفا ) أي في حال كوني حنيفا ، أي : مائلا عن الشرك إلى التوحيد ; ولهذا قال : ( وما أنا من المشركين )

وقد اختلف المفسرون في هذا المقام ، هل هو مقام نظر أو مناظرة؟ فروى ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ما يقتضي أنه مقام نظر ، واختاره ابن جرير مستدلا بقوله : ( لئن لم يهدني ربي [ لأكونن من القوم الضالين ] )

وقال محمد بن إسحاق : قال ذلك حين خرج من السرب الذي ولدته فيه أمه ، حين تخوفت عليه النمرود بن كنعان ، لما أن قد أخبر بوجود مولود يكون ذهاب ملكك على يديه ، فأمر بقتل الغلمان عامئذ . فلما حملت أم إبراهيم به وحان وضعها ، ذهبت به إلى سرب ظاهر البلد ، فولدت فيه [ ص: 292 ] إبراهيم وتركته هناك . وذكر أشياء من خوارق العادات ، كما ذكرها غيره من المفسرين من السلف والخلف .

والحق أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، كان في هذا المقام مناظرا لقومه ، مبينا لهم بطلان ما كانوا عليه من عبادة الهياكل والأصنام ، فبين في المقام الأول مع أبيه خطأهم في عبادة الأصنام الأرضية ، التي هي على صورة الملائكة السماوية ، ليشفعوا لهم إلى الخالق العظيم الذين هم عند أنفسهم أحقر من أن يعبدوه ، وإنما يتوسلون إليه بعبادة ملائكته ، ليشفعوا لهم عنده في الرزق والنصر ، وغير ذلك مما يحتاجون إليه . وبين في هذا المقام خطأهم وضلالهم في عبادة الهياكل ، وهي الكواكب السيارة السبعة المتحيرة ، وهي : القمر ، وعطارد ، والزهرة ، والشمس ، والمريخ ، والمشترى ، وزحل ، وأشدهن إضاءة وأشرقهن عندهم الشمس ، ثم القمر ، ثم الزهرة . فبين أولا أن هذه الزهرة لا تصلح للإلهية ; لأنها مسخرة مقدرة بسير معين ، لا تزيغ عنه يمينا ولا شمالا ولا تملك لنفسها تصرفا ، بل هي جرم من الأجرام خلقها الله منيرة ، لما له في ذلك من الحكم العظيمة ، وهي تطلع من المشرق ، ثم تسير فيما بينه وبين المغرب حتى تغيب عن الأبصار فيه ، ثم تبدو في الليلة القابلة على هذا المنوال . ومثل هذه لا تصلح للإلهية . ثم انتقل إلى القمر . فبين فيه مثل ما بين في النجم .

ثم انتقل إلى الشمس كذلك . فلما انتفت الإلهية عن هذه الأجرام الثلاثة التي هي أنور ما تقع عليه الأبصار ، وتحقق ذلك بالدليل القاطع ( قال يا قوم إني بريء مما تشركون ) أي : أنا بريء من عبادتهن وموالاتهن ، فإن كانت آلهة ، فكيدوني بها جميعا ثم لا تنظرون ( إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين ) أي : إنما أعبد خالق هذه الأشياء ومخترعها ومسخرها ومقدرها ومدبرها ، الذي بيده ملكوت كل شيء ، وخالق كل شيء وربه ومليكه وإلهه ، كما قال تعالى : ( إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين ) [ الأعراف : 54 ] وكيف يجوز أن يكون إبراهيم [ الخليل ] ناظرا في هذا المقام ، وهو الذي قال الله في حقه : ( ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون ) الآيات [ الأنبياء : 51 ، 52 ] ، وقال تعالى : ( إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين ) [ النحل : 120 - 123 ] ، وقال تعالى : ( قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين ) [ الأنعام : 161 ] .

وقد ثبت في الصحيحين ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " كل مولود يولد على [ ص: 293 ] الفطرة " وفي صحيح مسلم ، عن عياض بن حماد ; أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " قال الله : إني خلقت عبادي حنفاء " وقال الله في كتابه العزيز : ( فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ) [ الروم : 30 ] ، وقال تعالى : ( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى ) [ الأعراف : 172 ] ومعناه على أحد القولين ، كقوله : ( فطرة الله التي فطر الناس عليها ) كما سيأتي بيانه .

فإذا كان هذا في حق سائر الخليقة ، فكيف يكون إبراهيم الخليل - الذي جعله الله ( أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين ) [ النحل : 120 ] ناظرا في هذا المقام ؟! بل هو أولى الناس بالفطرة السليمة ، والسجية المستقيمة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلا شك ولا ريب . ومما يؤيد أنه كان في هذا المقام مناظرا لقومه فيما كانوا فيه من الشرك لا ناظرا قوله تعالى

التالي السابق


الخدمات العلمية