القسم الرابع عشر
nindex.php?page=treesubj&link=28914التكرار على وجه التأكيد وهو مصدر كرر إذا ردد وأعاد ; هو " تفعال " بفتح التاء ، وليس بقياس بخلاف التفعيل .
[ ص: 96 ] وقال الكوفيون هو مصدر " فعل " ، والألف عوض من الياء في التفعيل ، والأول مذهب
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه .
وقد غلط من أنكر كونه من أساليب الفصاحة ; ظنا أنه لا فائدة له ، وليس كذلك ; بل هو من محاسنها ، لا سيما إذا تعلق بعضه ببعض ; وذلك أن عادة العرب في خطاباتها إذ أبهمت بشيء إرادة لتحقيقه وقرب وقوعه ، أو قصدت الدعاء عليه كررته توكيدا ، وكأنها تقيم تكراره مقام المقسم عليه ، أو الاجتهاد في الدعاء عليه ، حيث تقصد الدعاء ; وإنما نزل القرآن بلسانهم ، وكانت مخاطباته جارية فيما بين بعضهم وبعض ، وبهذا المسلك تستحكم الحجة عليهم في عجزهم عن المعارضة ، وعلى ذلك يحتمل ما ورد من تكرار المواعظ والوعد والوعيد ; لأن الإنسان مجبول من الطبائع المختلفة ، وكلها داعية إلى الشهوات ، ولا يقمع ذلك إلا تكرار المواعظ والقوارع ، قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=54&ayano=17ولقد يسرنا القرآن للذكر ( القمر : 17 ) قال في " الكشاف " : أي : سهلناه للادكار والاتعاظ ، بأن نسجناه بالمواعظ الشافية ، وصرفنا فيه من الوعد والوعيد .
ثم تارة يكون التكرار مرتين كقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=74&ayano=19فقتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر ( المدثر : 19 - 20 ) وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=75&ayano=34أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى ( القيامة : 34 - 35 ) .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=102&ayano=6لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين ( التكاثر : 6 - 7 ) .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=78&ayano=4كلا سيعلمون ثم كلا سيعلمون ( النبأ : 4 - 5 ) .
وقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=78وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ( آل عمران : 78 ) .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=69فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم ( التوبة : 69 ) .
وفائدته العظمى التقرير ، وقد قيل : الكلام إذا تكرر تقرر .
[ ص: 97 ] وقد أخبر الله سبحانه بالسبب الذي لأجله كرر الأقاصيص والأخبار في القرآن ، فقال :
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=51ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون ( القصص : 51 ) .
وقال :
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=113وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا ( طه : 113 ) .
وحقيقته إعادة اللفظ أو مرادفه لتقرير معنى ; خشية تناسي الأول لطول العهد به .
فإن أعيد لا لتقرير المعنى السابق لم يكن منه كقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=11قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين وأمرت لأن أكون أول المسلمين قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم قل الله أعبد مخلصا له ديني فاعبدوا ما شئتم من دونه ( الزمر : 11 - 15 ) .
فأعاد قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=14قل الله أعبد مخلصا له ديني ( الزمر : 14 ) بعد قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=11قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين لا لتقرير الأول ; بل لغرض آخر ; لأن معنى الأول الأمر بالإخبار أنه مأمور بالعبادة لله والإخلاص له فيها ، ومعنى الثاني أنه يخص الله وحده دون غيره بالعبادة والإخلاص ; ولذلك قدم المفعول على فعل العبادة في الثاني ، وأخر في الأول ; لأن الكلام أولا في الفعل ; وثانيا فيمن فعل لأجله الفعل .
واعلم أنه إنما يحسن سؤال الحكمة عن التكرار إذا خرج عن الأصل ، أما إذا وافق الأصل فلا ، ولهذا لا يتجه سؤالهم : لم كرر " إياك " في قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=5إياك نعبد وإياك نستعين ؟ .
فقيل : إنما كررت للتأكيد ، كما تقول : " بين زيد وبين عمرو مال " .
وقيل : إنما كررت لارتفاع أن يتوهم - إذا حذفت - أن مفعول " نستعين " ضمير متصل واقع بعد الفعل ، فتفوت إذ ذاك الدلالة على المعنى المقصود ، بتقديم المعمول على عامله .
والتحقيق أن السؤال غير متجه ; لأن هنا عاملين متغايرين ، كل منهما يقتضي معمولا ، فإذا ذكر معمول كل واحد منهما بعده فقد جاء الكلام على أصله ، والحذف خلاف الأصل ، فلا وجه للسؤال عن سبب ذكر ما الأصل ذكره ، ولا حاجة إلى تكلف الجواب عنه ، وقس بذلك نظائره .
وله فوائد :
[ ص: 98 ] أحدها : التأكيد ، واعلم أن
nindex.php?page=treesubj&link=28914التكرير أبلغ من التأكيد ; لأنه وقع في تكرار التأسيس ، وهو أبلغ من التأكيد ; فإن التأكيد يقرر إرادة معنى الأول ، وعدم التجوز ; فلهذا قال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري في قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=102&ayano=3كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون ( التكاثر : 3 - 4 ) : " إن الثانية تأسيس لا تأكيد " ; لأنه جعل الثانية أبلغ في الإنشاء ، فقال : وفي ( ثم ) تنبيه على أن الإنذار الثاني أبلغ من الأول " .
وكذا قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=82&ayano=17وما أدراك ما يوم الدين ثم ما أدراك ما يوم الدين ( الانفطار : 17 - 18 ) وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=74&ayano=19فقتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر ( المدثر : 19 - 20 ) يحتمل أن يكون منه ، وأن يكون من المتماثلين .
والحاصل أنه : هل هو إنذار تأكيد ، أو إنذاران ؟ فإن قلت : " سوف تعلم ، ثم سوف تعلم " كان أجود منه بغير عطف ; لتجريه على غالب استعمال التأكيد ، ولعدم احتماله لتعدد المخبر به .
وأطلق
بدر الدين بن مالك في " شرح الخلاصة " أن الجملة التأكيدية قد توصل بعاطف ، ولم تختص بثم ، وإن كان ظاهر كلام والده التخصيص ، وليس كذلك ; فقد قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=18ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله ( الحشر : 18 ) فإن المأمور فيهما واحد ، كما قاله
النحاس nindex.php?page=showalam&ids=14423والزمخشري والإمام فخر الدين والشيخ عز الدين ، ورجحوا ذلك على احتمال أن تكون " التقوى " الأولى مصروفة لشيء غير " التقوى " الثانية مع شأن إرادته .
وقولهم : إنه تأكيد ، فمرادهم تأكيد المأمور به بتكرير الإنشاء ، لا أنه تأكيد لفظي ، ولو كان تأكيدا لفظيا لما فصل بالعطف ، ولما فصل بينه وبين غيره :
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=18ولتنظر نفس ( الحشر : 18 ) .
[ ص: 99 ] فإن قلت : " اتقوا " الثانية معطوفة على " ولتنظر " .
أجيب بأنهم قد اتفقوا على أن
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=83وقولوا للناس حسنا ( البقرة : 83 ) معطوف على
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=83لا تعبدون إلا الله ( البقرة : 83 ) لا على قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=83وبالوالدين إحسانا ( البقرة : 83 ) وهو نظير ما نحن فيه .
وقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=42يامريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين ( آل عمران : 42 ) وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=198فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم ( البقرة : 1198 ) ويحتمل أن يكون " اصطفاءين " و " ذكرين " وهو الأقرب في الذكر ; لأنه محل طلب فيه تكرار الذكر .
وكقوله تعالى حكاية عن
موسى :
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=33كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا ( طه : 33 - 34 ) ولم يقل : " نسبحك ونذكرك كثيرا " .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=5أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الأغلال في أعناقهم وأولئك أصحاب النار ( الرعد : 5 ) كرر أولئك .
وكذلك قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=5أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون ( البقرة : 5 ) .
وكذا قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=19فلما أن أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما ( القصص : 19 ) إلى قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=19من المصلحين ( القصص : 19 ) كررت " أن " في أربع مواضع تأكيدا .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=11قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين وأمرت لأن أكون أول المسلمين ( الزمر : 11 - 12 ) .
الثاني : زيادة التنبيه على ما ينفي التهمة ليكمل تلقي الكلام بالقبول ، ومنه قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=38وقال الذي آمن ياقوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد ياقوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار ( غافر : 38 - 39 ) فإنه كرر فيه النداء لذلك .
[ ص: 100 ] الثالث : إذا طال الكلام وخشي تناسي الأول أعيد ثانيا تطرية له ، وتجديدا لعهده ، كقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=119ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم ( النحل : 119 ) .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=110ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ( النحل : 110 ) الآية .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=89ولما جاءهم كتاب من عند الله ( البقرة : 89 ) ثم قال :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=89فلما جاءهم ما عرفوا فهذا تكرار للأول ، ألا ترى أن لما لا تجيء بالفاء .
ومثله :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=188لا تحسبن الذين يفرحون ( آل عمران : 188 ) ثم قال :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=188فلا تحسبنهم ( آل عمران : 188 ) .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=253ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم ( البقرة : 253 ) ثم قال :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=253ولو شاء الله ما اقتتلوا ( البقرة : 253 ) .
ومنه قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=4إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين ( يوسف : 4 ) .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=35أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون ( المؤمنون : 35 ) فقوله : أنكم الثاني بناء على الأول إذكارا به خشية تناسيه .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=30&ayano=7وهم عن الآخرة هم غافلون ( الروم : 7 ) .
وكذلك قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=105إنا كذلك نجزي المحسنين إن هذا لهو البلاء المبين وفديناه بذبح عظيم ( الصافات : 105 إلى 107 ) إلى قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=105كذلك نجزي المحسنين ( الصافات : 105 ) .
بغير ( إنا ) وفي غيره من مواضع ذكر ( إنا كذلك ) ; لأنه يبنى على ما سبقه في هذه الصفة من قوله : " إنا كذلك " فكأنه صرح فيما اكتفى بذكره أولا عن ذكره ثانيا ، ولأن التأكيد بالنسبة ، فاعتبر اللفظ من حيث هو دون توكيده .
[ ص: 101 ] ويحتمل أن يكون من باب الاكتفاء ; وهذا أسلوب غريب ، وقل في القرآن وجوده ، وأكثر ما يكون عند تقدم مقتضيات الألفاظ ، كالمبتدأ ، وحروف الشرطين الواقعين في الماضي والمضارع ، ويستغنى عنه عند أمر محذور التناسي .
وقد يرد منه شيء يكون بناؤه بطريق الإجمال والتفصيل ; بأن تتقدم التفاصيل والجزئيات في القرآن ، فإذا خشي عليها التناسي لطول العهد بها بنى على ما سبق بها بالذكر الجملي ; كقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=155فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا وبكفرهم وقولهم ( النساء : 155 ) إلى قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=161وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما ( النساء : 161 ) فقوله ( فبظلم ) بيان لذكر الجملي على ما سبق في القول من التفصيل ، وذلك أن الظلم جملي على ما سبق من التفاصيل من النقض والكفر وقتل الأنبياء
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=155وقولهم قلوبنا غلف ( النساء : 155 ) والقول على
مريم بالبهتان ، ودعوى قتل
المسيح عليه السلام ، إلى ما تخلل ذلك من أسلوب الاعتراض بها موضعين وهما : قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=155بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا ( النساء : 155 ) وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=157وما قتلوه وما صلبوه ( النساء : 157 ) إلى قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=159شهيدا ( النساء : 159 ) ودون أنه لما ذكر بالبناء جملي الظلم من قوله : " فبظلم " ; لأنه يعم على كل ما تقدم ، وينطوي عليه ذكر حينئذ متعلق الجملي من قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=155فبما نقضهم ميثاقهم ( النساء : 155 ) عقب الباء لأن العامل في الأصل حقه أن يلي معموله فقال :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=160فبظلم من الذين هادوا حرمنا ( النساء : 160 ) هو متعلق بقوله : فبظلم ( النساء : 160 ) وقد اشتمل الظلم على كل ما تقدم قبله ، كما أنه أيضا اشتمل على كل ما تأخر من المحرمات الأخر التي عددت بعد ما اشتملت على ذكر الشيء بالعموم والخصوص ; فذكرت الجزئيات الأولى بخصوص كل واحد ، ثم ذكر العام المنطوي عليها ، فهذا تعميم بعد تخصيص ، ثم ذكرت جزئيات أخر بخصوصها ، فتركيب الأساليب من وجوه كثيرة في الآية ، وهو التعميم بعد التخصيص ، ثم التخصيص بعد التعميم ، ثم البناء بعد الاعتراض .
[ ص: 102 ] ومنه قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=48&ayano=25ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات ( الفتح : 25 ) إلى قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=48&ayano=25عذابا أليما ( الفتح : 25 ) فقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=48&ayano=25ولولا رجال مؤمنون ( الفتح : 25 ) إلى قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=48&ayano=25بغير علم ( الفتح : 25 ) هو المقتضى الأول المتقدم ، وقوله : ( لو تزيلوا ) ( الفتح : 25 ) هو المقتضى الثاني ، وهو البناء ; لأنه المذكر بالمقتضى الأول الذي هو " لولا " خشية تناسيه فهو مبني على الأول ، ثم أورد مقتضاها من الجواب بقوله : ( لعذبنا الذين كفروا منهم ) ( الفتح : 25 ) ورودا واحدا من حيث أخذا معا ، كأنهما مقتضى منفرد ، من حيث هما واحد بالنوع ، وهو الشرط الماضي ، فقوله : ( لو تزيلوا ) ( الفتح : 25 ) بناء على قوله : ( ولولا رجال ) ( الفتح : 25 ) نظر في المضارعة ، وأما قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=119ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم ( النحل : 119 ) فيجوز أن يكون تكريرا ، ويجوز أن يكون الكلام عند قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=119وأصلحوا ويكون الثاني بيانا لمجمل لا تكريرا .
وقد جعل ابن المنير من هذا القسم قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=106من كفر بالله من بعد إيمانه ( النحل : 106 ) ثم قال :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=106من شرح بالكفر صدرا ( النحل : 106 ) .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=48&ayano=25ولولا رجال مؤمنون ( الفتح : 25 ) ثم قال :
nindex.php?page=tafseer&surano=48&ayano=25لو تزيلوا ( الفتح : 25 ) ونازعه
العراقي ; لأن المعاد فيهما أخص من الأول ، وهذا يجيء في كثير مما ذكرنا ، ولا بد أن يكون وراء التكرير شيء أخص منه كما بينا .
الرابع : في مقام التعظيم والتهويل كقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=69&ayano=1الحاقة ما الحاقة ( الحاقة : 1 - 2 )
nindex.php?page=tafseer&surano=101&ayano=1القارعة ما القارعة ( القارعة : 1 - 2 )
nindex.php?page=tafseer&surano=97&ayano=1إنا أنزلناه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر ( القدر 1 : 2 ) .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=56&ayano=27وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين ( الواقعة : 27 ) .
[ ص: 103 ] وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=56&ayano=8فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة ( الواقعة : 8 - 9 ) .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=74&ayano=31ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ( المدثر : 31 ) .
الخامس : في مقام الوعيد والتهديد ، كقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=102&ayano=3كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون ( التكاثر : 4 - 5 ) وذكر ( ثم ) في المكرر دلالة على أن الإنذار الثاني أبلغ من الأول ، وفيه تنبيه على تكرر ذلك مرة بعد أخرى ، وإن تعاقبت عليه الأزمنة لا يتطرق إليه تغيير ; بل هو مستمر دائما .
السادس : التعجب ; كقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=74&ayano=19فقتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر ( المدثر : 19 - 20 ) فأعيد تعجبا من تقديره وإصابته الغرض على حد : قاتله الله ما أشجعه .
السابع : لتعدد المتعلق كما في قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=13فبأي آلاء ربكما تكذبان ( الرحمن : 13 ) فإنها وإن تعددت ، فكل واحد منها متعلق بما قبله ، وإن الله تعالى خاطب بها الثقلين من الإنس والجن ، وعدد عليهم نعمه التي خلقها لهم ، فكلما ذكر فصلا من فصول النعم طلب إقرارهم واقتضاهم الشكر عليه ، وهي أنواع مختلفة وصور شتى .
فإن قيل : فإذا كان المعنى في تكريرها عد النعم واقتضاء الشكر عليها ; فما معنى قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=35يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران ( الرحمن : 35 ) ؟ وأي نعمة هنا ، وإنما هو وعيد ؟ ! قيل : إن نعم الله فيما أنذر به وحذر من عقوباته على معاصيه ليحذروها فيرتدعوا عنها ، نظير أنعمه على ما وعده ، وبشر من ثوابه على طاعته ; ليرغبوا فيها ويحرصوا عليها ، وإنما تتحقق معرفة الشيء بأن تعتبره بضده ، والوعد والوعيد وإن تقابلا في ذواتهما فإنهما متقاربان في موضع النعم بالتوقيت على ملاك الأمر منها ، وعليه قول بعض حكماء الشعراء :
والحادثات وإن أصابك بؤسها فهو الذي أنباك كيف نعيمها
وإنما ذكرنا هذا لتعلم الحكمة في كونها زادت على ثلاثة ، ولو كان عائدا لشيء واحد لما زاد على ثلاثة ; لأن التأكيد لا يقع به أكثر من ثلاثة .
فإن قيل : فإذا كان المراد بكل ما قبله فليس ذلك بإطناب ، بل هي ألفاظ أريد بها غير ما أريد بالآخر .
[ ص: 104 ] قلت : إن قلنا : العبرة بعموم اللفظ ; فكل واحد أريد به غير ما أريد بالآخر .
وقد تكلف لتوجيه العدة التي جاءت عليها هذه الآية مكررة ، قال
الكرماني : جاءت آية واحدة في هذه السورة ، كررت نيفا وثلاثين مرة ; لأن ست عشرة راجعة إلى الجنان ; لأن لها ثمانية أبواب ، وأربعة عشر منها راجعة إلى النعم والنقم ، فأعظم النقم جهنم ، ولها سبعة أبواب ، وجاءت سبعة في مقابلة تلك الأبواب ، وسبعة عقب كل نعمة ذكرها للثقلين .
وقال غيره : نبه في سبع منها على ما خلقه الله للعباد من نعم الدنيا المختلفة على عدة أمهات النعم ، وأفرد سبعا منها للتخويف ، وإنذارا على عدة أبواب المخوف منه ، وفصل بين الأول والسبع الثواني بواحدة سوى فيها بين الخلق كلهم فيما كتبه عليهم من الفناء ، حيث اتصلت بقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=26كل من عليها فان ( الرحمن : 26 ) فكانت خمس عشرة ، أتبعت بثمانية في وصف الجنان وأهلها على عدة أبوابها ، ثم بثمانية أخر في وصف الجنتين اللتين من دون الأوليين لذلك أيضا ، فاستكملت إحدى وثلاثين .
ومن هذا النوع قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=15ويل يومئذ للمكذبين ( الآية : 15 ) في سورة المرسلات عشر مرات ; لأنه سبحانه ذكر قصصا مختلفة ، وأتبع كل قصة بهذا القول ، فصار كأنه قال عقب كل قصة : " ويل للمكذبين بهذه القصة ، وكل قصة مخالفة لصاحبتها " فأثبت الويل لمن كذب بها .
ويحتمل أنه لما كان جزاء الحسنة بعشر أمثالها ، وجعل للكفار في مقابلة كل مثل من الثواب ويل .
ومنها في سورة الشعراء قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=8إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=9وإن ربك لهو العزيز الرحيم ( الآية : 8 - 9 ) في ثمانية مواضع ; لأجل الوعظ ; فإنه قد يتأثر بالتكرار من لا يتأثر بالمرة الواحدة .
وأما قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=8إن في ذلك لآية فذلك لظهور آيات الأنبياء عليهم السلام ، والعجب من تخلف من لا يتأملها مع ظهورها .
وأما مناسبة قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=9العزيز الرحيم فإنه تعالى نفى الإيمان عن الأكثر فدل بالمفهوم
[ ص: 105 ] على إيمان الأقل ، فكانت العزة على من لم يؤمن ، والرحمة لمن آمن ، وهما مرتبتان كترتيب الفريقين ، ويحتمل أن يكون من هذا النوع قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=102&ayano=3كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون ( التكاثر : 4 - 5 ) الآية ; لأن علمهم يقع أولا وثانيا على نوعين مختلفين بحسب المقام ، وهذا أقرب للحقيقة الوضعية وحال المعبر عنه ، فإن المعاملات الإلهية للطائع والعاصي متغيرة الأنواع : الدنيوية ، ثم البرزخية ، ثم الحشرية ، كما أن أحوال الاستقرار بعد الجميع في الغاية ، بل كل مقام من هذه أنواع مختلفة ، وفي " ثم " دلالة على الترقي ، إن لم يجعل الزمان مرتبا في الإنذار على التكرار ، وفي المنذر به على التنويع .
ومنه تكرار
nindex.php?page=tafseer&surano=54&ayano=39فذوقوا عذابي ونذر ( القمر : 39 ) قال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري : كرر ليجدوا عند سماع كل نبإ منها اتعاظا وتنبيها ، وأن كلا من تلك الأنباء مستحق باعتبار يختص به وأن يتنبهوا كيلا يغلبهم السرور والغفلة .
ومنه قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=109&ayano=1قل ياأيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ( الكافرون : 1 - 2 ) إلى آخرها ، يحكى أن بعض الزنادقة سأل
الحسن بن علي - رضي الله عنه - عن هذه الآية فقال : إني أجد في القرآن تكرارا ، وذكر له ذلك ، فأجابه
الحسن بما حاصله : إن الكفار قالوا : " نعبد إلهك شهرا وتعبد آلهتنا شهرا " فجاء النفي متوجها إلى ذلك ، والمقصود أن هذه ليست من التكرار في شيء ، بل هي بالحذف والاختصار أليق ، وذلك لأن قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=109&ayano=2لا أعبد ما تعبدون ( الكافرون : 2 ) أي : لا أعبد في المستقبل ما تعبدون في المستقبل ، وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=109&ayano=4ولا أنا عابد ما عبدتم ( الكافرون : 4 ) أي : ولا أنا عابد في الحال ما عبدتم في المستقبل
nindex.php?page=tafseer&surano=109&ayano=3ولا أنتم عابدون ( الكافرون : 3 ) في الحال ما أعبد في المستقبل .
والحاصل أن القصد نفي عبادته لآلهتهم في الأزمنة الثلاثة : الحال ، والماضي ،
[ ص: 106 ] والاستقبال ; والمذكور في الآية النفي في الحال والاستقبال ، وحذف الماضي من جهته ومن جهتهم ، ولا بد من نفيه ، لكنه حذف لدلالة الأولين عليه .
وفيه تقدير آخر ; وهو أن الجملة الأولى فعلية والثانية اسمية ، وقولك : " لا أفعله ولا أنا فاعله " أحسن من قولك : " لا أفعله ولا أفعله " ; فالجملة الفعلية نفي لإمكانه ، والاسمية نفي لاتصافه ، كما في قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=81وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=22وما أنت بمسمع من في القبور ( فاطر : 22 ) والمعنى أنه تبرأ من فعله ومن الاتصاف به ، وهو أبلغ في النفي ، وأما المشركون فلم ينتف عنهم إلا بصيغة واحدة ; وهي قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=109&ayano=3ولا أنتم عابدون ما أعبد ( الكافرون : 3 ) في الموضعين .
وفرق آخر ، وهو أنه قال في نفيه الجملة الاسمية :
nindex.php?page=tafseer&surano=109&ayano=4ولا أنا عابد ما عبدتم ( الكافرون : 4 ) وقال في النفي عنهم :
nindex.php?page=tafseer&surano=109&ayano=3ولا أنتم عابدون ما أعبد ( الكافرون : 3 ) عائد في حقه بين الجملتين ، وقال
nindex.php?page=tafseer&surano=109&ayano=2لا أعبد ما تعبدون ( الكافرون : 2 ) بالمضارع ، وفي الثاني :
nindex.php?page=tafseer&surano=109&ayano=4ولا أنا عابد ما عبدتم ( الكافرون : 4 ) بالماضي ، فإن المضارع يدل على الدوام بخلاف الماضي ، فأفاد ذلك أن ما عبدتموه ولو مرة ما أنا عابد له البتة ، ففيه كمال براءته ودوامها مما عبدوه ولو مرة ، بخلاف قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=109&ayano=2لا أعبد ما تعبدون ( الكافرون : 2 ) فإن النفي من جنس الإثبات وكلاهما مضارع يظهران جملة ومنفردا .
ومنه تكرير الأمر بالتوجه إلى
البيت الحرام في ثلاث آيات من سورة البقرة ; لأن المنكرين لتحويل القبلة كانوا ثلاثة أصناف من الناس : اليهود ; لأنهم لا يقولون بالنسخ في أصل مذهبهم ، وأهل النفاق أشد إنكارا له ; لأنه كان أول نسخ نزل ،
وكفار قريش قالوا : ندم
محمد على فراق ديننا فيرجع إليه كما رجع إلى قبلتنا .
وكانوا قبل ذلك يحتجون عليه فيقولون : يزعم
محمد أنه يدعونا إلى ملة
إبراهيم وإسماعيل وقد فارق قبلتهما وآثر عليها قبلة اليهود .
وقال الله تعالى حين أمره بالصلاة إلى
الكعبة :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=150لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم ( البقرة : 150 ) والاستثناء منقطع أي : لكن الذين ظلموا منهم لا يرجعون ولا يهتدون ، وقال سبحانه
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=147الحق من ربك فلا تكونن من الممترين أي : الذين أشركوا فلا تمتر في ذلك ، وقال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=146وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون ( البقرة : 146 ) أي : يكتمون ما علموا أن
الكعبة هي قبلة الأنبياء .
ومنه قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=174فتول عنهم حتى حين وأبصرهم فسوف يبصرون ( الصافات :
[ ص: 107 ] 174 - 175 ) وقال صاحب " الينبوع " : لم يبلغني عن المفسرين فيه شيء .
وقال المفسرون في غريب القرآن : هما في المعنى كالآيتين المتقدمتين ; فكرر للتأكيد وتشديد الوعيد .
ويحتمل أن يكون " الحين " في الأوليين يوم
بدر ، و " الحين " في هاتين يوم فتح
مكة .
ومن فوائد قوله تعالى في الأوليين : ( وأبصرهم ) وفي هاتين : ( فأبصر ) أن الأولى بنزول العذاب بهم يوم
بدر قتلا وأسرا وهزيمة ورعبا ، فما تضمنت التشفي بهم قيل له : ( أبصرهم ) وأما يوم الفتح فإنه اقترن بالظهور عليهم الإنعام بتأمينهم والهداية إلى إيمانهم ، فلم يكن وفقا للتشفي بهم ; بل كان في استسلامهم وإسلامهم لعينه قرة ولقلبه مسرة ، فقيل له : ( أبصر ) .
ويحتمل على هذا إن شاء الله أن يكون من فوائد قوله تعالى في هذه
nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=175فسوف يبصرون أي : يبصرون منك عليهم بالأمان ، ومننا عليهم بالإيمان .
ومنه قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=60&ayano=10لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن ( الممتحنة : 10 ) .
وللتكرار فائدتان : إحداهما أن التحريم قد يكون في الطرفين ; ولكن يكون المانع من إحداهما ; كما لو ارتدت الزوجة قبل الدخول يحرم النكاح من الطرفين ، والمانع من جهتهما ، فذكر الله سبحانه الثانية ; ليدل على أن التحريم كما هو ثابت في الطرفين كذلك المانع منهما .
والثانية أن الأولى دلت على ثبوت التحريم في الماضي ; ولهذا أتى فيها بالاسم الدال على الثبوت ; والثانية في المستقبل ، ولهذا أتى فيها بالفعل المستقبل .
ومنه تكرار الإضراب .
[ ص: 108 ] واعلم أن " بل " إذا ذكرت بعد كلام موجب فمعناها الإضراب .
وهو إما أن يقع في كلام الخلق ; ومعناه إبطال ما سبق على طريق الغلط من المتكلم ; أو أن الثاني أولى .
وإما أن يقع في كلام الله تعالى ; وهو ضربان : أحدهما : أن يكون ما فيها من الرد راجعا إلى العباد ; كقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=5قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر ( الأنبياء : 5 ) .
والثاني : أن يكون إبطالا ، ولكنه على أنه قد انقضى وقته ; وأن الذي بعده أولى بالذكر ، كقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=66بل ادارك علمهم في الآخرة بل هم في شك منها بل هم منها عمون ( النمل : 66 )
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=8بل هم في شك من ذكري بل لما يذوقوا عذاب ( ص : 8 ) .
وزعم
ابن مالك في شرح " الكافية " أن " بل " حيث وقعت في القرآن فإنها للاستئناف لغرض آخر لا لإبطال الأول ; وهو مردود بما سبق ، وبقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=26وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون ( الأنبياء : 26 ) ; فأضرب بها عن قولهم ، وأبطل كذبهم .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=166بل أنتم قوم عادون ( الشعراء : 166 ) أضرب بها عن حقيقة إتيانهم الذكور وترك الأزواج .
ومنه قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=65&ayano=2وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله ( الطلاق : 2 ) ، فالأول للمطلقين ، والثاني للشهود ; نحو :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=232وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن ( البقرة : 232 ) أولها للأزواج ، وآخرها للأولياء .
ومنه تكرار الأمثال كقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=19وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور وما يستوي الأحياء ولا الأموات ( فاطر : 19 - 20 - 21 - 22 ) .
[ ص: 109 ] وكذلك ضرب مثل المنافقين أول البقرة ثناه الله تعالى .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري : " والثاني أبلغ من الأول ; لأنه أدل على فرط الحيرة ، وشدة الأمر وفظاعته " قال : " ولذلك أخر وهم يتدرجون في نحو هذا من الأهون إلى الأغلظ " .
ومنه تكرار القصص في القرآن ; كقصة إبليس في السجود
لآدم ، وقصة
موسى وغيره من الأنبياء ، قال بعضهم : ذكر الله
موسى في مائة وعشرين موضعا من كتابه ، قال
ابن العربي في " القواصم " : ذكر الله قصة
نوح في خمسة وعشرين آية ، وقصة
موسى في سبعين آية .
انتهى .
وإنما كررها لفائدة خلت عنه في الموضع الآخر وهي أمور : - أحدهما : أنه إذا كرر القصة زاد فيها شيئا ، ألا ترى أنه ذكر الحية في عصا
موسى عليه السلام ، وذكرها في موضع آخر ثعبانا ، ففائدته أن ليس كل حية ثعبانا وهذه عادة البلغاء ، أن يكرر أحدهم في آخر خطبته أو قصيدته كلمة لصفة زائدة .
الثانية : أن الرجل كان يسمع القصة من القرآن ، ثم يعود إلى أهله ، ثم يهاجر بعده آخرون يحكون عنه ما نزل بعد صدور الأولين ; وكان أكثر من آمن به مهاجريا ، فلولا تكرر القصة لوقعت قصة
موسى إلى قوم وقصة
عيسى إلى آخرين ، وكذلك سائر القصص فأراد الله سبحانه وتعالى اشتراك الجميع فيها ، فيكون فيه إفادة القوم ، وزيادة تأكيد وتبصرة لآخرين وهم الحاضرون ، وعبر عن هذا
ابن الجوزي وغيره بأن يقال كل من الصادرين عنه ، صلى الله عليه وسلم .
[ ص: 110 ] الثالثة : تسليته لقلب النبي - صلى الله عليه وسلم - مما اتفق للأنبياء مثله مع أممهم ، قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=120وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك ( هود : 120 ) .
الرابعة : أن إبراز الكلام الواحد في فنون كثيرة وأساليب مختلفة لا يخفى ما فيه من الفصاحة .
الخامسة : أن الدواعي لا تتوفر على نقلها كتوفرها على نقل الأحكام ، فلهذا كررت القصص دون الأحكام .
السادسة : أن الله تعالى أنزل هذا القرآن وعجز القوم عن الإتيان بمثل آية ، لصحة نبوة
محمد - صلى الله عليه وسلم - ثم بين وأوضح الأمر في عجزهم ; بأن كرر ذكر القصة في مواضع ; إعلاما بأنهم عاجزون عن الإتيان بمثله بأي نظم جاءوا ، بأي عبارة عبروا ، قال
ابن فارس : وهذا هو الصحيح .
السابعة : أنه لما سخر العرب بالقرآن قال :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=23فأتوا بسورة من مثله ( البقرة : 23 ) وقال في موضع آخر :
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=13فأتوا بعشر سور ( هود : 13 ) فلو ذكر قصة
آدم مثلا في موضع واحد واكتفى بها لقال العربي بما قال الله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=23فأتوا بسورة من مثله ( البقرة : 23 ) " إيتونا أنتم بسورة من مثله " فأنزلها سبحانه في تعداد السور ; دفعا لحجتهم من كل وجه .
الثامنة : أن القصة الواحدة من هذه القصص ; كقصة
موسى مع
فرعون وإن ظن أنها لا تغاير الأخرى فقد يوجد في ألفاظها زيادة ونقصان وتقديم وتأخير ، وتلك حال المعاني الواقعة بحسب تلك الألفاظ ; فأن كل واحدة لا بد وأن تخالف نظيرتها من نوع معنى زائد فيه ، لا يوقف عليه إلا منها دون غيرها ; فكأن الله تعالى فرق ذكر ما دار بينهما وجعله أجزاء ، ثم قسم تلك الأجزاء على تارات التكرار لتوجد متفرقة فيها ، ولو جمعت تلك القصص في موضع واحد لأشبهت ما وجد الأمر عليه من الكتب المتقدمة ; من انفراد كل قصة منها بموضع كما وقع في القرآن بالنسبة
ليوسف عليه السلام خاصة ، فاجتمعت في هذه الخاصية من نظم القرآن عدة معان عجيبة :
[ ص: 111 ] منها : أن التكرار فيها مع سائر الألفاظ لم يوقع في اللفظ هجنة ، ولا أحدث مللا ، فباين بذلك كلام المخلوقين .
ومنها : أنه ألبسها زيادة ونقصانا وتقديما وتأخيرا ; ليخرج بذلك الكلام أن تكون ألفاظه واحدة بأعيانها ، فيكون شيئا معادا ; فنزهه عن ذلك بهذه التغييرات .
ومنها : أن المعاني التي اشتملت عليها القصة الواحدة من هذه القصص صارت متفرقة في تارات التكرير فيجد البليغ لما فيها من التغيير ميلا إلى سماعها ; لما جبلت عليه النفوس من حب التنقل في الأشياء المتجددة التي لكل منها حصة من الالتذاذ به مستأنفة .
ومنها : ظهور الأمر العجيب في إخراج صور متباينة في النظم بمعنى واحد ; وقد كان المشركون في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - يعجبون من اتساع الأمر في تكرير هذه القصص والأنباء مع تغاير أنواع النظم ، وبيان وجوه التأليف ، فعرفهم الله سبحانه أن الأمر بما يتعجبون منه مردود إلى قدرة من لا يلحقه نهاية ، ولا يقع على كلامه عدد ; لقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=109قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا ( الكهف : 109 ) وكقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=31&ayano=27ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده ( لقمان : 27 ) الآية .
وقال القفال في تفسيره : ذكر الله في أقاصيص
بني إسرئيل وجوها من المقاصد : أحدها : الدلالة على صحة نبوة
محمد - صلى الله عليه وسلم - لأنه أخبر عنها من غير تعلم ، وذلك لا يمكن إلا بالوحي .
الثاني : تعديد النعم على
بني إسرائيل ، وما من الله على أسلافهم من الكرامة والفضل ; كالنجاة من
آل فرعون وفرق البحر لهم ، وما أنزل عليه في التيه من المن والسلوى ، وتفجر الحجر ، وتظليل الغمام .
الثالث : إخبار الله نبيه بتقديم كفرهم وخلافهم وشقاوتهم وتعنتهم على الأنبياء ، فكأنه تعالى
[ ص: 112 ] يقول : إذا كانت هذه معاملتهم مع نبيهم الذي أعزهم الله به ، وأنقذهم من العذاب بسببه ; فغير بدع ما يعامله به أخلافهم
محمدا ، صلى الله عليه وسلم .
الرابع : تحذير أهل الكتاب الموجودين في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - من نزول العذاب بهم كما نزل بأسلافهم .
وهنا سؤالان : أحدهما : ما الحكمة في عدم تكرر قصة
يوسف - عليه السلام - وسوقها مساقا واحدا في موضع واحد دون غيرها من القصص ؟ والجواب من وجوه : الأول : ما فيها من تشبيب النسوة به ، وتضمن الإخبار عن حال امرأة ونسوة افتتن بأبدع الناس جمالا ، وأرفعهم مثالا ، فناسب عدم تكرارها لما فيها من الإغضاء والستر عن ذلك .
وقد صحح الحاكم في " مستدركه " حديثا مرفوعا : النهي عن تعليم النساء سورة يوسف .
الثاني : أنها اختصت بحصول الفرج بعد الشدة ، بخلاف غيرها من القصص ; فإن مآلها إلى الوبال ، كقصة إبليس ،
وقوم نوح ، وقوم هود ، وقوم صالح ، وغيرهم ، فلما اختصت هذه القصة في سائر القصص بذلك اتفقت الدواعي على نقلها لخروجها عن سمت القصص .
الثالث : قاله الأستاذ
nindex.php?page=showalam&ids=11812أبو إسحاق الإسفرايني إنما كرر الله قصص الأنبياء ، وساق
[ ص: 113 ] قصة
يوسف مساقا واحدا ; إشارة إلى عجز العرب ، كأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لهم : إن كان من تلقاء نفسي تصديره على الفصاحة ، فافعلوا في قصة
يوسف ما فعلت في قصص سائر الأنبياء .
السؤال الثاني : أنه سبحانه وتعالى ذكر قصة قوم
نوح وهود وصالح وشعيب ولوط وموسى في سورة الأعراف وهود والشعراء ، ولم يذكر معهم قصة إبراهيم ، وإنما ذكرها في سورة الأنبياء ومريم والعنكبوت والصافات .
والسر في ذلك أن تلك السور الأول ذكر الله فيها نصر رسله بإهلاك قومهم ، ونجاء الرسل وأتباعهم ، وهذه السور لم يقتصر فيها على ذكر من أهلك من الأمم ; بل كان المقصود ذكر الأنبياء وإن لم يذكر قومهم ; ولهذا سميت سورة الأنبياء ; فذكر فيها إكرامه للأنبياء ; وبدأ فيها بقصة إبراهيم ; إذ كان المقصود ذكر كرامته الأنبياء قبل
محمد ، وإبراهيم أكرمهم على الله ، وهو خير البرية ، وهو أب أكثرهم ، وليس هو أب
نوح ولوط ; لكن
لوط من أتباعه ،
وأيوب من ذريته ; بدليل قوله تعالى في سورة الأنعام :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=84ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ( الآية : 84 ) .
وأما سورة العنكبوت فإنه سبحانه وتعالى ذكر فيها امتحانه للمؤمنين ، ونصره لهم ، وحاجتهم إلى الجهاد ، وذكر فيها حسن العاقبة لمن صبر ، وعاقبة من كذب الرسل ، فذكر قصة إبراهيم ; لأنها من النمط الأول .
وكذلك في سورة الصافات ، قال فيها :
nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=71ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين ولقد أرسلنا فيهم منذرين فانظر كيف كان عاقبة المنذرين ( الآيات : 71 ، 72 ، 73 ) وهذا يقتضي أنها عاقبة رديئة ; إما بكونهم غلبوا وذلوا ، وإما بكونهم أهلكوا ; ولهذا ذكر قصة
إلياس دون غيرها ، ولم يذكر إهلاك قومه ; بل قال :
nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=127فكذبوه فإنهم لمحضرون ( الصافات : 127 ) .
وقد روي أن الله رفع
إلياس ; وهذا يقتضي عذابهم في الآخرة ; فإن
إلياس لم يقم بينهم ،
وإلياس المعروف بعد
موسى من
بني إسرائيل ، وبعد
موسى لم يهلك المكذبين بعذاب الاستئصال ، وبعد
نوح لم يهلك جميع النوع ، وقد بعث الله في كل أمة نذيرا ، والله سبحانه لم يذكر عن
قوم إبراهيم أنهم أهلكوا ، كما ذكر ذلك عن غيرهم ; بل ذكر أنهم ألقوه في النار فجعلها بردا وسلاما ، وفي هذا ظهور برهانه وآياته ; حيث أذلهم ونصره
nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=98فأرادوا به كيدا فجعلناهم الأسفلين ( الصافات : 98 ) وهذا من جنس المجاهد الذي يعرض عدوه ،
[ ص: 114 ] والقصص الأول من جنس المجاهد الذي قتل عدوه ،
وإبراهيم بعد هذا لم يقم بينهم بل هاجر وتركهم ; وأولئك الرسل لم يزالوا مقيمين بين أظهرهم حتى هلكوا ، ولم يوجد في حق
إبراهيم سبب الهلاك ; وهو إقامته فيهم ، وانتظار العذاب النازل ، وهكذا
محمد - صلى الله عليه وسلم - مع قومه ، لم يقم فيهم ; بل خرج عنهم حتى أظهره الله عليهم بعد ذلك ،
ومحمد وإبراهيم أفضل الرسل ; فإنهم إذا علموا حصل المقصود ، وقد يتوب منهم من تاب كما جرى
لقوم يونس ، فهذا - والله أعلم - هو السر في أنه سبحانه لم يذكر قصة
إبراهيم مع هؤلاء ; لأنها ليست من جنس واقعتهم .
فإن قيل : فما وجه الخصوصية
بمحمد وإبراهيم بذلك ؟ فالجواب : أما حالة
إبراهيم فكانت إلى الرحمة أميل ; فلم يسع في هلاك قومه ; لا بالدعاء ولا بالمقام ودوام إقامة الحجة عليهم ، وقد قال الله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=13وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الأرض من بعدهم ( إبراهيم : 13 - 14 ) وكان كل قوم يطلبون هلاك نبيهم فعوقبوا ;
وقوم إبراهيم وإن أوصلوه إلى العذاب ; لكن جعله الله عليه بردا وسلاما ولم يفعلوا بعد ذلك ما يستحقون به العذاب ; إذ الدنيا ليست دار الجزاء العام ، وإنما فيها من الجزاء ما تحصل به الحكمة والمصلحة ; كما في العقوبات الشرعية ، فمن أرادوا عداوة أحد من أتباع الأنبياء ليهلكوه فعصمه الله ، وجعل صورة الهلاك نعمة في حقه ، ولم يهلك أعداءه بل أخزاهم ونصره ; فهو أشبه
بإبراهيم عليه السلام ; إذ عصمه الله من كيدهم وأظهره حتى صارت الحرب بينهم وبينه سجالا ، ثم كانت له العاقبة ، فهو أشبه بحال
محمد - صلى الله عليه وسلم - فإن
محمدا سيد الجميع ، وهو خليل الله ، كما أن
إبراهيم عليه السلام خليله ، والخليلان هما أفضل الجميع ، وفي طريقهما من الرأفة والرحمة ما ليس في طريق غيرهما ، ولم يذكر الله عن
قوم إبراهيم ذنبا غير الشرك ، وكذلك عن
قوم نوح ، وأما
عاد فذكر عنهم التجبر وعمارة الدنيا ،
وقوم صالح ذكر عنهم الاشتغال بالدنيا عن الأنبياء ،
وأهل مدين الظلم في الأموال مع الشرك ،
وقوم لوط استحلال الفاحشة ، ولم يذكر أنهم أقروا بالتوحيد بخلاف سائر الأمم ، وهذا يدل على أنهم لم يكونوا مشركين ، وإنما كان دينهم استحلال الفاحشة وتوابع ذلك ، وكانت عقوبتهم أشد .
[ ص: 115 ] وهذه الأمور تدل على حكمة الرب وعقوبته لكل قوم بما يناسبهم ; ولما لم يكن في قوم
نوح خير يرجى غرق الجميع .
والله المستعان .
فتأمل هذا الفصل ، وعظم فوائده ، وتدبر حكمته ; فإنه سر عظيم من أسرار القرآن العظيم كقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=47&ayano=15أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ( محمد : 15 ) فأعاد ذكر " الأنهار " مع كل صنف ; وكان يكفي أن يقال فيها : " أنهار من ماء ومن لبن ومن خمر ومن عسل " لكن لما كانت الأنهار من الماء حقيقة ; وفيما عدا الماء مجازا للتشبيه ; فلو اقتصر على ذكرها مع الماء وعطف الباقي عليه لجمع بين الحقيقة والمجاز .
فإن قلت : فهلا أفرد ذكر الماء وجمع الباقي صيغة واحدة ؟ قيل : لو فعل ذلك لجمع بين محامل من المجاز مختلفة في صيغة واحدة ، وهو قريب في المنع من الذي قبله .
فائدة قد يستثقلون تكرار اللفظ فيعدلون عنه لمعناه ; كقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=86&ayano=17فمهل الكافرين أمهلهم رويدا ( الطارق : 17 ) ; فإنه لما أعيد اللفظ غير " فعل " إلى " أفعل " فلما ثلث ترك اللفظ أصلا فقال : " رويدا " .
وقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=74لقد جئت شيئا نكرا ( الكهف : 74 ) ، ثم قال : ( إمرا ) ( الكهف : 71 ) .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=15080الكسائي : معناه : شيئا منكرا كثير الدهاء من جهة الإنكار ; من قولهم : أمر القوم إذا كثروا .
قال
الفارسي : وأنا أستحسن قوله هذا .
وقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=13ارجعوا وراءكم ( الحديد : 13 ) قال
الفارسي : ( وراءكم ) ( الحديد : 13 ) في موضع فعل الأمر أي : تأخروا ; والمعنى ارجعوا تأخروا ; فهو تأكيد وليست ظرفا ; لأن الظروف لا يؤكد بها .
[ ص: 116 ] وإذا تكرر اللفظ بمرادفة جازت الإضافة ; كقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=5عذاب من رجز أليم ( سبأ : 5 ) والقصد المبالغة ، أي : عذاب مضاعف ، وبالعطف كقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=86إنما أشكو بثي وحزني إلى الله ( يوسف : 86 ) وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=109فاعفوا واصفحوا ( البقرة : 109 ) .
الْقِسْمُ الرَّابِعَ عَشَرَ
nindex.php?page=treesubj&link=28914التَّكْرَارُ عَلَى وَجْهِ التَّأْكِيدِ وَهُوَ مَصْدَرُ كَرَّرَ إِذَا رَدَّدَ وَأَعَادَ ; هُوَ " تَفْعَالٌ " بِفَتْحِ التَّاءِ ، وَلَيْسَ بِقِيَاسٍ بِخِلَافِ التَّفْعِيلِ .
[ ص: 96 ] وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ هُوَ مَصْدَرُ " فَعَّلَ " ، وَالْأَلِفُ عِوَضٌ مِنَ الْيَاءِ فِي التَّفْعِيلِ ، وَالْأَوَّلُ مَذْهَبُ
nindex.php?page=showalam&ids=16076سِيبَوَيْهِ .
وَقَدْ غَلِطَ مَنْ أَنْكَرَ كَوْنَهُ مِنْ أَسَالِيبِ الْفَصَاحَةِ ; ظَنًّا أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ لَهُ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ ; بَلْ هُوَ مِنْ مَحَاسِنِهَا ، لَا سِيَّمَا إِذَا تَعَلَّقَ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ ; وَذَلِكَ أَنَّ عَادَةَ الْعَرَبِ فِي خِطَابَاتِهَا إِذْ أَبْهَمَتْ بِشَيْءٍ إِرَادَةً لِتَحْقِيقِهِ وَقُرْبَ وُقُوعِهِ ، أَوْ قَصَدَتِ الدُّعَاءَ عَلَيْهِ كَرَّرَتْهُ تَوْكِيدًا ، وَكَأَنَّهَا تُقِيمُ تَكْرَارَهُ مَقَامَ الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ ، أَوْ الِاجْتِهَادُ فِي الدُّعَاءِ عَلَيْهِ ، حَيْثُ تَقْصِدُ الدُّعَاءَ ; وَإِنَّمَا نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلِسَانِهِمْ ، وَكَانَتْ مُخَاطَبَاتُهُ جَارِيَةً فِيمَا بَيْنَ بَعْضِهِمْ وَبَعْضٍ ، وَبِهَذَا الْمَسْلَكِ تَسْتَحْكِمُ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ فِي عَجْزِهِمْ عَنِ الْمُعَارَضَةِ ، وَعَلَى ذَلِكَ يَحْتَمِلُ مَا وَرَدَ مِنْ تَكْرَارِ الْمَوَاعِظِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ ; لِأَنَّ الْإِنْسَانَ مَجْبُولٌ مِنَ الطَّبَائِعِ الْمُخْتَلِفَةِ ، وَكُلُّهَا دَاعِيَةٌ إِلَى الشَّهَوَاتِ ، وَلَا يَقْمَعُ ذَلِكَ إِلَّا تَكْرَارُ الْمَوَاعِظِ وَالْقَوَارِعِ ، قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=54&ayano=17وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ ( الْقَمَرِ : 17 ) قَالَ فِي " الْكَشَّافِ " : أَيْ : سَهَّلْنَاهُ لِلِادِّكَارِ وَالِاتِّعَاظِ ، بِأَنْ نَسَجْنَاهُ بِالْمَوَاعِظِ الشَّافِيَةِ ، وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ .
ثُمَّ تَارَةً يَكُونُ التَّكْرَارُ مَرَّتَيْنِ كَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=74&ayano=19فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ( الْمُدَّثِّرِ : 19 - 20 ) وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=75&ayano=34أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ( الْقِيَامَةِ : 34 - 35 ) .
وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=102&ayano=6لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ ( التَّكَاثُرِ : 6 - 7 ) .
وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=78&ayano=4كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ( النَّبَأِ : 4 - 5 ) .
وَقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=78وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ( آلِ عِمْرَانَ : 78 ) .
وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=69فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ ( التَّوْبَةِ : 69 ) .
وَفَائِدَتُهُ الْعُظْمَى التَّقْرِيرُ ، وَقَدْ قِيلَ : الْكَلَامُ إِذَا تَكَرَّرَ تَقَرَّرَ .
[ ص: 97 ] وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالسَّبَبِ الَّذِي لِأَجْلِهِ كَرَّرَ الْأَقَاصِيصَ وَالْأَخْبَارَ فِي الْقُرْآنِ ، فَقَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=51وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ( الْقَصَصِ : 51 ) .
وَقَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=113وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا ( طه : 113 ) .
وَحَقِيقَتُهُ إِعَادَةُ اللَّفْظِ أَوْ مُرَادِفِهِ لِتَقْرِيرِ مَعْنًى ; خَشْيَةَ تَنَاسِي الْأَوَّلِ لِطُولِ الْعَهْدِ بِهِ .
فَإِنْ أُعِيدَ لَا لِتَقْرِيرِ الْمَعْنَى السَّابِقِ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=11قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ ( الزُّمَرِ : 11 - 15 ) .
فَأَعَادَ قَوْلَهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=14قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي ( الزُّمَرِ : 14 ) بَعْدَ قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=11قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ لَا لِتَقْرِيرٍ الْأَوَّلِ ; بَلْ لِغَرَضٍ آخَرَ ; لِأَنَّ مَعْنَى الْأَوَّلِ الْأَمْرُ بِالْإِخْبَارِ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْعِبَادَةِ لِلَّهِ وَالْإِخْلَاصِ لَهُ فِيهَا ، وَمَعْنَى الثَّانِي أَنَّهُ يَخُصُّ اللَّهَ وَحْدَهُ دُونَ غَيْرِهِ بِالْعِبَادَةِ وَالْإِخْلَاصِ ; وَلِذَلِكَ قَدَّمَ الْمَفْعُولَ عَلَى فِعْلِ الْعِبَادَةِ فِي الثَّانِي ، وَأَخَّرَ فِي الْأَوَّلِ ; لِأَنَّ الْكَلَامَ أَوَّلًا فِي الْفِعْلِ ; وَثَانِيًا فِيمَنْ فُعِلَ لِأَجْلِهِ الْفِعْلُ .
وَاعْلَمْ أَنَّهُ إِنَّمَا يَحْسُنُ سُؤَالُ الْحِكْمَةِ عَنِ التَّكْرَارِ إِذَا خَرَجَ عَنِ الْأَصْلِ ، أَمَّا إِذَا وَافَقَ الْأَصْلَ فَلَا ، وَلِهَذَا لَا يَتَّجِهُ سُؤَالُهُمْ : لِمَ كَرَّرَ " إِيَّاكَ " فِي قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=5إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ؟ .
فَقِيلَ : إِنَّمَا كُرِّرَتْ لِلتَّأْكِيدِ ، كَمَا تَقُولُ : " بَيْنَ زَيْدٍ وَبَيْنَ عَمْرٍو مَالٌ " .
وَقِيلَ : إِنَّمَا كُرِّرَتْ لِارْتِفَاعِ أَنْ يُتَوَهَّمَ - إِذَا حُذِفَتْ - أَنَّ مَفْعُولَ " نَسْتَعِينُ " ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ وَاقِعٌ بَعْدَ الْفِعْلِ ، فَتَفُوتُ إِذْ ذَاكَ الدَّلَالَةُ عَلَى الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ ، بِتَقْدِيمِ الْمَعْمُولِ عَلَى عَامِلِهِ .
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ السُّؤَالَ غَيْرُ مُتَّجِهٍ ; لِأَنَّ هُنَا عَامِلَيْنِ مُتَغَايِرَيْنِ ، كُلٌّ مِنْهُمَا يَقْتَضِي مَعْمُولًا ، فَإِذَا ذُكِرَ مَعْمُولُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْدَهُ فَقَدْ جَاءَ الْكَلَامُ عَلَى أَصْلِهِ ، وَالْحَذْفُ خِلَافُ الْأَصْلِ ، فَلَا وَجْهَ لِلسُّؤَالِ عَنْ سَبَبِ ذِكْرِ مَا الْأَصْلُ ذِكْرُهُ ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى تَكَلُّفِ الْجَوَابِ عَنْهُ ، وَقِسْ بِذَلِكَ نَظَائِرَهُ .
وَلَهُ فَوَائِدُ :
[ ص: 98 ] أَحَدُهَا : التَّأْكِيدُ ، وَاعْلَمْ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28914التَّكْرِيرَ أَبْلَغُ مِنَ التَّأْكِيدِ ; لِأَنَّهُ وَقَعَ فِي تَكْرَارِ التَّأْسِيسِ ، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنَ التَّأْكِيدِ ; فَإِنَّ التَّأْكِيدَ يُقَرِّرُ إِرَادَةَ مَعْنَى الْأَوَّلِ ، وَعَدَمَ التَّجَوُّزِ ; فَلِهَذَا قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=102&ayano=3كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ( التَّكَاثُرِ : 3 - 4 ) : " إِنَّ الثَّانِيَةَ تَأْسِيسٌ لَا تَأْكِيدٌ " ; لِأَنَّهُ جَعَلَ الثَّانِيَةَ أَبْلَغَ فِي الْإِنْشَاءِ ، فَقَالَ : وَفِي ( ثُمَّ ) تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْإِنْذَارَ الثَّانِيَ أَبْلَغُ مِنَ الْأَوَّلِ " .
وَكَذَا قَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=82&ayano=17وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ( الِانْفِطَارِ : 17 - 18 ) وَقَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=74&ayano=19فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ( الْمُدَّثِّرِ : 19 - 20 ) يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ ، وَأَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ : هَلْ هُوَ إِنْذَارُ تَأْكِيدٍ ، أَوْ إِنْذَارَانِ ؟ فَإِنْ قُلْتَ : " سَوْفَ تَعْلَمُ ، ثُمَّ سَوْفَ تَعْلَمُ " كَانَ أَجْوَدُ مِنْهُ بِغَيْرِ عَطْفٍ ; لِتُجْرِيَهُ عَلَى غَالِبِ اسْتِعْمَالِ التَّأْكِيدِ ، وَلِعَدَمِ احْتِمَالِهِ لِتَعَدُّدِ الْمُخْبَرِ بِهِ .
وَأَطْلَقَ
بَدْرُ الدِّينِ بْنُ مَالِكٍ فِي " شَرْحِ الْخُلَاصَةِ " أَنَّ الْجُمْلَةَ التَّأْكِيدِيَّةَ قَدْ تُوصَلُ بِعَاطِفٍ ، وَلَمْ تَخْتَصَّ بِثُمَّ ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ كَلَامِ وَالِدِهِ التَّخْصِيصَ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ ; فَقَدْ قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=18يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ ( الْحَشْرِ : 18 ) فَإِنَّ الْمَأْمُورَ فِيهِمَا وَاحِدٌ ، كَمَا قَالَهُ
النَّحَّاسُ nindex.php?page=showalam&ids=14423وَالزَّمَخْشَرِيُّ وَالْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ وَالشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ ، وَرَجَّحُوا ذَلِكَ عَلَى احْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ " التَّقْوَى " الْأُولَى مَصْرُوفَةً لِشَيْءٍ غَيْرِ " التَّقْوَى " الثَّانِيَةِ مَعَ شَأْنِ إِرَادَتِهِ .
وَقَوْلُهُمْ : إِنَّهُ تَأْكِيدٌ ، فَمُرَادُهُمْ تَأْكِيدُ الْمَأْمُورِ بِهِ بِتَكْرِيرِ الْإِنْشَاءِ ، لَا أَنَّهُ تَأْكِيدٌ لَفْظِيٌّ ، وَلَوْ كَانَ تَأْكِيدًا لَفْظِيًّا لَمَا فُصِلَ بِالْعَطْفِ ، وَلَمَا فَصَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=18وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ( الْحَشْرِ : 18 ) .
[ ص: 99 ] فَإِنْ قُلْتَ : " اتَّقُوا " الثَّانِيَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى " وَلْتَنْظُرْ " .
أُجِيبَ بِأَنَّهُمْ قَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=83وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا ( الْبَقَرَةِ : 83 ) مَعْطُوفٌ عَلَى
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=83لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ ( الْبَقَرَةِ : 83 ) لَا عَلَى قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=83وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ( الْبَقَرَةِ : 83 ) وَهُوَ نَظِيرُ مَا نَحْنُ فِيهِ .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=42يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ( آلِ عِمْرَانَ : 42 ) وَقَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=198فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ ( الْبَقَرَةِ : 1198 ) وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ " اصْطِفَاءَيْنِ " وَ " ذِكْرَيْنِ " وَهُوَ الْأَقْرَبُ فِي الذِّكْرِ ; لِأَنَّهُ مَحَلٌّ طُلِبَ فِيهِ تَكْرَارُ الذِّكْرِ .
وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ
مُوسَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=33كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا ( طه : 33 - 34 ) وَلَمْ يَقُلْ : " نُسَبِحُكَ وَنَذْكُرُكَ كَثِيرًا " .
وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=5أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ( الرَّعْدِ : 5 ) كَرَّرَ أُولَئِكَ .
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=5أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( الْبَقَرَةِ : 5 ) .
وَكَذَا قَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=19فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا ( الْقَصَصِ : 19 ) إِلَى قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=19مِنَ الْمُصْلِحِينَ ( الْقَصَصِ : 19 ) كُرِّرَتْ " أَنْ " فِي أَرْبَعِ مَوَاضِعَ تَأْكِيدًا .
وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=11قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ ( الزُّمَرِ : 11 - 12 ) .
الثَّانِي : زِيَادَةُ التَّنْبِيهِ عَلَى مَا يَنْفِي التُّهْمَةَ لِيَكْمُلَ تَلَقِّي الْكَلَامِ بِالْقَبُولِ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=38وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ يَاقَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ ( غَافِرٍ : 38 - 39 ) فَإِنَّهُ كَرَّرَ فِيهِ النِّدَاءَ لِذَلِكَ .
[ ص: 100 ] الثَّالِثُ : إِذَا طَالَ الْكَلَامُ وَخُشِيَ تَنَاسِي الْأَوَّلِ أُعِيدَ ثَانِيًا تَطْرِيَةً لَهُ ، وَتَجْدِيدًا لِعَهْدِهِ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=119ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ( النَّحْلِ : 119 ) .
وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=110ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ( النَّحْلِ : 110 ) الْآيَةَ .
وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=89وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ( الْبَقَرَةِ : 89 ) ثُمَّ قَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=89فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا فَهَذَا تَكْرَارٌ لِلْأَوَّلِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ لَمَّا لَا تَجِيءُ بِالْفَاءِ .
وَمِثْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=188لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ ( آلِ عِمْرَانَ : 188 ) ثُمَّ قَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=188فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ ( آلِ عِمْرَانَ : 188 ) .
وَقَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=253وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ ( الْبَقَرَةِ : 253 ) ثُمَّ قَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=253وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا ( الْبَقَرَةِ : 253 ) .
وَمِنْهُ قَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=4إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ( يُوسُفَ : 4 ) .
وَقَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=35أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ ( الْمُؤْمِنُونَ : 35 ) فَقَوْلُهُ : أَنَّكُمْ الثَّانِي بِنَاءً عَلَى الْأَوَّلِ إِذْكَارًا بِهِ خَشْيَةَ تَنَاسِيهِ .
وَقَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=30&ayano=7وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ( الرُّومِ : 7 ) .
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=105إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ( الصَّافَّاتِ : 105 إِلَى 107 ) إِلَى قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=105كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ( الصَّافَّاتِ : 105 ) .
بِغَيْرِ ( إِنَّا ) وَفِي غَيْرِهِ مِنْ مَوَاضِعِ ذِكْرَ ( إِنَّا كَذَلِكَ ) ; لِأَنَّهُ يُبْنَى عَلَى مَا سَبَقَهُ فِي هَذِهِ الصِّفَةِ مِنْ قَوْلِهِ : " إِنَّا كَذَلِكَ " فَكَأَنَّهُ صَرَّحَ فِيمَا اكْتَفَى بِذِكْرِهِ أَوَّلًا عَنْ ذِكْرِهِ ثَانِيًا ، وَلِأَنَّ التَّأْكِيدَ بِالنِّسْبَةِ ، فَاعْتَبَرَ اللَّفْظَ مِنْ حَيْثُ هُوَ دُونَ تَوْكِيدِهِ .
[ ص: 101 ] وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ الِاكْتِفَاءِ ; وَهَذَا أُسْلُوبٌ غَرِيبٌ ، وَقَلَّ فِي الْقُرْآنِ وَجُودُهُ ، وَأَكْثَرُ مَا يَكُونُ عِنْدَ تَقَدُّمِ مُقْتَضَيَاتِ الْأَلْفَاظِ ، كَالْمُبْتَدَأِ ، وَحُرُوفِ الشَّرْطَيْنِ الْوَاقِعَيْنِ فِي الْمَاضِي وَالْمُضَارِعِ ، وَيُسْتَغْنَى عَنْهُ عِنْدَ أَمْرٍ مَحْذُورِ التَّنَاسِي .
وَقَدْ يَرِدُ مِنْهُ شَيْءٌ يَكُونُ بِنَاؤُهُ بِطَرِيقِ الْإِجْمَالِ وَالتَّفْصِيلِ ; بِأَنْ تَتَقَدَّمَ التَّفَاصِيلُ وَالْجُزْئِيَّاتُ فِي الْقُرْآنِ ، فَإِذَا خُشِيَ عَلَيْهَا التَّنَاسِي لِطُولِ الْعَهْدِ بِهَا بَنَى عَلَى مَا سَبَقَ بِهَا بِالذِّكْرِ الْجُمْلِيِّ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=155فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ ( النِّسَاءِ : 155 ) إِلَى قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=161وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ( النِّسَاءِ : 161 ) فَقَوْلُهُ ( فَبِظُلْمٍ ) بَيَانٌ لِذِكْرِ الْجُمْلِيِّ عَلَى مَا سَبَقَ فِي الْقَوْلِ مِنَ التَّفْصِيلِ ، وَذَلِكَ أَنَّ الظُّلْمَ جُمْلِيٌّ عَلَى مَا سَبَقَ مِنَ التَّفَاصِيلِ مِنَ النَّقْضِ وَالْكُفْرِ وَقَتْلِ الْأَنْبِيَاءِ
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=155وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ ( النِّسَاءِ : 155 ) وَالْقَوْلُ عَلَى
مَرْيَمَ بِالْبُهْتَانِ ، وَدَعْوَى قَتْلِ
الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، إِلَى مَا تَخَلَّلَ ذَلِكَ مِنْ أُسْلُوبِ الِاعْتِرَاضِ بِهَا مَوْضِعَيْنِ وَهُمَا : قَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=155بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا ( النِّسَاءِ : 155 ) وَقَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=157وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ ( النِّسَاءِ : 157 ) إِلَى قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=159شَهِيدًا ( النِّسَاءِ : 159 ) وَدُونَ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ بِالْبِنَاءِ جُمْلِيَّ الظُّلْمِ مِنْ قَوْلِهِ : " فَبِظُلْمٍ " ; لِأَنَّهُ يَعُمُّ عَلَى كُلِّ مَا تَقَدَّمَ ، وَيَنْطَوِي عَلَيْهِ ذُكِرَ حِينَئِذٍ مُتَعَلِّقُ الْجُمْلِيِّ مِنْ قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=155فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ ( النِّسَاءِ : 155 ) عَقِبَ الْبَاءِ لِأَنَّ الْعَامِلَ فِي الْأَصْلِ حَقُّهُ أَنْ يَلِيَ مَعْمُولَهُ فَقَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=160فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا ( النِّسَاءِ : 160 ) هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ : فَبِظُلْمٍ ( النِّسَاءِ : 160 ) وَقَدِ اشْتَمَلَ الظُّلْمُ عَلَى كُلِّ مَا تَقَدَّمَ قَبْلَهُ ، كَمَا أَنَّهُ أَيْضًا اشْتَمَلَ عَلَى كُلِّ مَا تَأَخَّرَ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ الْأُخَرِ الَّتِي عُدِّدَتْ بَعْدَ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَى ذِكْرِ الشَّيْءِ بِالْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ ; فَذُكِرَتِ الْجُزْئِيَّاتُ الْأَوْلَى بِخُصُوصِ كُلٍّ وَاحِدٍ ، ثُمَّ ذُكِرَ الْعَامُّ الْمُنْطَوِي عَلَيْهَا ، فَهَذَا تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ ، ثُمَّ ذُكِرَتْ جُزْئِيَّاتٌ أُخَرَ بِخُصُوصِهَا ، فَتَرْكِيبُ الْأَسَالِيبِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ فِي الْآيَةِ ، وَهُوَ التَّعْمِيمُ بَعْدَ التَّخْصِيصِ ، ثُمَّ التَّخْصِيصُ بَعْدَ التَّعْمِيمِ ، ثُمَّ الْبِنَاءُ بَعْدَ الِاعْتِرَاضِ .
[ ص: 102 ] وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=48&ayano=25وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ ( الْفَتْحِ : 25 ) إِلَى قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=48&ayano=25عَذَابًا أَلِيمًا ( الْفَتْحِ : 25 ) فَقَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=48&ayano=25وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ ( الْفَتْحِ : 25 ) إِلَى قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=48&ayano=25بِغَيْرِ عِلْمٍ ( الْفَتْحِ : 25 ) هُوَ الْمُقْتَضَى الْأَوَّلُ الْمُتَقَدِّمِ ، وَقَوْلُهُ : ( لَوْ تَزَيَّلُوا ) ( الْفَتْحِ : 25 ) هُوَ الْمُقْتَضَى الثَّانِي ، وَهُوَ الْبِنَاءُ ; لِأَنَّهُ الْمُذَكِّرُ بِالْمُقْتَضَى الْأَوَّلِ الَّذِي هُوَ " لَوْلَا " خَشْيَةَ تَنَاسِيهِ فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْأَوَّلِ ، ثُمَّ أَوْرَدَ مُقْتَضَاهَا مِنَ الْجَوَابِ بِقَوْلِهِ : ( لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ ) ( الْفَتْحِ : 25 ) وُرُودًا وَاحِدًا مِنْ حَيْثُ أُخِذَا مَعًا ، كَأَنَّهُمَا مُقْتَضًى مُنْفَرِدٌ ، مِنْ حَيْثُ هُمَا وَاحِدٌ بِالنَّوْعِ ، وَهُوَ الشَّرْطُ الْمَاضِي ، فَقَوْلُهُ : ( لَوْ تَزَيَّلُوا ) ( الْفَتْحِ : 25 ) بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِ : ( وَلَوْلَا رِجَالٌ ) ( الْفَتْحِ : 25 ) نَظَرَ فِي الْمُضَارَعَةِ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=119ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ( النَّحْلِ : 119 ) فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَكْرِيرًا ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=119وَأَصْلَحُوا وَيَكُونُ الثَّانِي بَيَانًا لِمُجْمَلٍ لَا تَكْرِيرًا .
وَقَدْ جَعَلَ ابْنُ الْمُنِيرِ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ قَوْلَهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=106مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ ( النَّحْلِ : 106 ) ثُمَّ قَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=106مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا ( النَّحْلِ : 106 ) .
وَقَوْلَهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=48&ayano=25وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ ( الْفَتْحِ : 25 ) ثُمَّ قَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=48&ayano=25لَوْ تَزَيَّلُوا ( الْفَتْحِ : 25 ) وَنَازَعَهُ
الْعِرَاقِيُّ ; لِأَنَّ الْمُعَادَ فِيهِمَا أَخَصُّ مِنَ الْأَوَّلِ ، وَهَذَا يَجِيءُ فِي كَثِيرٍ مِمَّا ذَكَرْنَا ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ وَرَاءَ التَّكْرِيرِ شَيْءٌ أَخَصُّ مِنْهُ كَمَا بَيَّنَّا .
الرَّابِعُ : فِي مَقَامِ التَّعْظِيمِ وَالتَّهْوِيلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=69&ayano=1الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ ( الْحَاقَّةِ : 1 - 2 )
nindex.php?page=tafseer&surano=101&ayano=1الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ ( الْقَارِعَةِ : 1 - 2 )
nindex.php?page=tafseer&surano=97&ayano=1إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ( الْقَدْرِ 1 : 2 ) .
وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=56&ayano=27وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ ( الْوَاقِعَةِ : 27 ) .
[ ص: 103 ] وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=56&ayano=8فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ ( الْوَاقِعَةِ : 8 - 9 ) .
وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=74&ayano=31لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ( الْمُدَّثِّرِ : 31 ) .
الْخَامِسُ : فِي مَقَامِ الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=102&ayano=3كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ( التَّكَاثُرِ : 4 - 5 ) وَذِكْرُ ( ثُمَّ ) فِي الْمُكَرَّرِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْإِنْذَارَ الثَّانِيَ أَبْلَغُ مِنَ الْأَوَّلِ ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى تَكَرُّرِ ذَلِكَ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى ، وَإِنْ تَعَاقَبَتْ عَلَيْهِ الْأَزْمِنَةُ لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ تَغْيِيرٌ ; بَلْ هُوَ مُسْتَمِرٌّ دَائِمًا .
السَّادِسُ : التَّعَجُّبُ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=74&ayano=19فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ( الْمُدَّثِّرِ : 19 - 20 ) فَأُعِيدَ تَعَجُّبًا مِنْ تَقْدِيرِهِ وَإِصَابَتِهِ الْغَرَضَ عَلَى حَدِّ : قَاتَلَهُ اللَّهُ مَا أَشْجَعَهُ .
السَّابِعُ : لِتَعَدُّدِ الْمُتَعَلِّقِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=13فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( الرَّحْمَنِ : 13 ) فَإِنَّهَا وَإِنْ تَعَدَّدَتْ ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا مُتَعَلِّقٌ بِمَا قَبْلَهُ ، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَاطَبَ بِهَا الثَّقَلَيْنِ مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ ، وَعَدَّدَ عَلَيْهِمْ نِعَمَهُ الَّتِي خَلَقَهَا لَهُمْ ، فَكُلَّمَا ذَكَرَ فَصْلًا مِنْ فُصُولِ النِّعَمِ طَلَبَ إِقْرَارَهُمْ وَاقْتَضَاهُمُ الشُّكْرَ عَلَيْهِ ، وَهِيَ أَنْوَاعٌ مُخْتَلِفَةٌ وَصُوَرٌ شَتَّى .
فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا كَانَ الْمَعْنَى فِي تَكْرِيرِهَا عَدُّ النِّعَمِ وَاقْتِضَاءُ الشُّكْرِ عَلَيْهَا ; فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=35يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ ( الرَّحْمَنِ : 35 ) ؟ وَأَيُّ نِعْمَةٍ هُنَا ، وَإِنَّمَا هُوَ وَعِيدٌ ؟ ! قِيلَ : إِنَّ نِعَمَ اللَّهِ فِيمَا أَنْذَرَ بِهِ وَحَذَّرَ مِنْ عُقُوبَاتِهِ عَلَى مَعَاصِيهِ لِيَحْذَرُوهَا فَيَرْتَدِعُوا عَنْهَا ، نَظِيرُ أَنْعُمِهِ عَلَى مَا وَعَدَهُ ، وَبَشَّرَ مِنْ ثَوَابِهِ عَلَى طَاعَتِهِ ; لِيَرْغَبُوا فِيهَا وَيَحْرِصُوا عَلَيْهَا ، وَإِنَّمَا تَتَحَقَّقُ مَعْرِفَةُ الشَّيْءِ بِأَنْ تَعْتَبِرَهُ بِضِدِّهِ ، وَالْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ وَإِنْ تَقَابَلَا فِي ذَوَاتِهِمَا فَإِنَّهُمَا مُتَقَارِبَانِ فِي مَوْضِعِ النِّعَمِ بِالتَّوْقِيتِ عَلَى مِلَاكِ الْأَمْرِ مِنْهَا ، وَعَلَيْهِ قَوْلُ بَعْضِ حُكَمَاءِ الشُّعَرَاءِ :
وَالْحَادِثَاتُ وَإِنْ أَصَابَكَ بُؤْسُهَا فَهُوَ الَّذِي أَنْبَاكَ كَيْفَ نَعِيمُهَا
وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا هَذَا لِتَعْلَمَ الْحِكْمَةَ فِي كَوْنِهَا زَادَتْ عَلَى ثَلَاثَةٍ ، وَلَوْ كَانَ عَائِدًا لِشَيْءٍ وَاحِدٍ لَمَا زَادَ عَلَى ثَلَاثَةٍ ; لِأَنَّ التَّأْكِيدَ لَا يَقَعُ بِهِ أَكْثَرُ مِنْ ثَلَاثَةٍ .
فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِكُلِّ مَا قَبْلَهُ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِإِطْنَابٍ ، بَلْ هِيَ أَلْفَاظٌ أُرِيدَ بِهَا غَيْرَ مَا أُرِيدَ بِالْآخَرِ .
[ ص: 104 ] قُلْتُ : إِنْ قُلْنَا : الْعِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ ; فَكُلُّ وَاحِدٍ أُرِيدَ بِهِ غَيْرُ مَا أُرِيدَ بِالْآخَرِ .
وَقَدْ تَكَلَّفَ لِتَوْجِيهِ الْعِدَّةِ الَّتِي جَاءَتْ عَلَيْهَا هَذِهِ الْآيَةُ مُكَرَّرَةً ، قَالَ
الْكِرْمَانِيُّ : جَاءَتْ آيَةٌ وَاحِدَةٌ فِي هَذِهِ السُّورَةِ ، كُرِّرَتْ نَيِّفًا وَثَلَاثِينَ مَرَّةً ; لِأَنَّ سِتَّ عَشْرَةَ رَاجِعَةٌ إِلَى الْجِنَانِ ; لِأَنَّ لَهَا ثَمَانِيَةَ أَبْوَابٍ ، وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ مِنْهَا رَاجِعَةٌ إِلَى النِّعَمِ وَالنِّقَمِ ، فَأَعْظَمُ النِّقَمِ جَهَنَّمُ ، وَلَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ ، وَجَاءَتْ سَبْعَةٌ فِي مُقَابَلَةِ تِلْكَ الْأَبْوَابِ ، وَسَبْعَةٌ عَقِبَ كُلِّ نِعْمَةٍ ذَكَرَهَا لِلثَّقَلَيْنِ .
وَقَالَ غَيْرُهُ : نَبَّهَ فِي سَبْعٍ مِنْهَا عَلَى مَا خَلَقَهُ اللَّهُ لِلْعِبَادِ مِنْ نِعَمِ الدُّنْيَا الْمُخْتَلِفَةِ عَلَى عِدَّةِ أُمَّهَاتِ النِّعَمِ ، وَأَفْرَدَ سَبْعًا مِنْهَا لِلتَّخْوِيفِ ، وَإِنْذَارًا عَلَى عِدَّةِ أَبْوَابِ الْمُخَوَّفِ مِنْهُ ، وَفَصَلَ بَيْنَ الْأَوَّلِ وَالسَّبْعِ الثَّوَانِي بِوَاحِدَةٍ سَوَّى فِيهَا بَيْنَ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ فِيمَا كَتَبَهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْفَنَاءِ ، حَيْثُ اتَّصَلَتْ بِقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=26كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ( الرَّحْمَنِ : 26 ) فَكَانَتْ خَمْسَ عَشْرَةَ ، أُتْبِعَتْ بِثَمَانِيَةٍ فِي وَصْفِ الْجِنَانِ وَأَهْلِهَا عَلَى عِدَّةِ أَبْوَابِهَا ، ثُمَّ بِثَمَانِيَةٍ أُخَرَ فِي وَصْفِ الْجَنَّتَيْنِ اللَّتَيْنِ مِنْ دُونِ الْأَوَّلِيَّيْنِ لِذَلِكَ أَيْضًا ، فَاسْتُكْمِلَتْ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ .
وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=15وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ( الْآيَةَ : 15 ) فِي سُورَةِ الْمُرْسَلَاتِ عَشْرُ مَرَّاتٍ ; لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ قِصَصًا مُخْتَلِفَةً ، وَأَتْبَعَ كُلَّ قِصَّةٍ بِهَذَا الْقَوْلِ ، فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ عَقِبَ كُلِّ قِصَّةٍ : " وَيْلٌ لِلْمُكَذِّبِينَ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ ، وَكُلُّ قِصَّةٍ مُخَالِفَةٌ لِصَاحِبَتِهَا " فَأَثْبَتَ الْوَيْلَ لِمَنْ كَذَّبَ بِهَا .
وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ جَزَاءُ الْحَسَنَةِ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا ، وَجَعَلَ لِلْكُفَّارِ فِي مُقَابَلَةِ كُلِّ مَثَلٍ مِنَ الثَّوَابِ وَيْلٌ .
وَمِنْهَا فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=8إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=9وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ( الْآيَةَ : 8 - 9 ) فِي ثَمَانِيَةِ مَوَاضِعَ ; لِأَجْلِ الْوَعْظِ ; فَإِنَّهُ قَدْ يَتَأَثَّرُ بِالتَّكْرَارِ مَنْ لَا يَتَأَثَّرُ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=8إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً فَذَلِكَ لِظُهُورِ آيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ ، وَالْعَجَبُ مِنْ تَخَلُّفِ مَنْ لَا يَتَأَمَّلُهَا مَعَ ظُهُورِهَا .
وَأَمَّا مُنَاسَبَةُ قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=9الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ فَإِنَّهُ تَعَالَى نَفَى الْإِيمَانَ عَنِ الْأَكْثَرِ فَدَلَّ بِالْمَفْهُومِ
[ ص: 105 ] عَلَى إِيمَانِ الْأَقَلِّ ، فَكَانَتِ الْعِزَّةُ عَلَى مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ ، وَالرَّحْمَةُ لِمَنْ آمَنَ ، وَهُمَا مُرَتَّبَتَانِ كَتَرْتِيبِ الْفَرِيقَيْنِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=102&ayano=3كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ( التَّكَاثُرِ : 4 - 5 ) الْآيَةَ ; لِأَنَّ عِلْمَهُمْ يَقَعُ أَوَّلًا وَثَانِيًا عَلَى نَوْعَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ بِحَسَبِ الْمَقَامِ ، وَهَذَا أَقْرَبُ لِلْحَقِيقَةِ الْوَضْعِيَّةِ وَحَالِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ ، فَإِنَّ الْمُعَامَلَاتِ الْإِلَهِيَّةِ لِلطَّائِعِ وَالْعَاصِي مُتَغَيِّرَةُ الْأَنْوَاعِ : الدُّنْيَوِيَّةُ ، ثُمَّ الْبَرْزَخِيَّةُ ، ثُمَّ الْحَشْرِيَّةُ ، كَمَا أَنَّ أَحْوَالَ الِاسْتِقْرَارِ بَعْدَ الْجَمِيعِ فِي الْغَايَةِ ، بَلْ كُلُّ مَقَامٍ مِنْ هَذِهِ أَنْوَاعٌ مُخْتَلِفَةٌ ، وَفِي " ثُمَّ " دَلَالَةٌ عَلَى التَّرَقِّي ، إِنْ لَمْ يُجْعَلِ الزَّمَانُ مُرَتَّبًا فِي الْإِنْذَارِ عَلَى التَّكْرَارِ ، وَفِي الْمُنْذِرِ بِهِ عَلَى التَّنْوِيعِ .
وَمِنْهُ تَكْرَارُ
nindex.php?page=tafseer&surano=54&ayano=39فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ ( الْقَمَرِ : 39 ) قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزَّمَخْشَرِيُّ : كَرَّرَ لِيَجِدُوا عِنْدَ سَمَاعِ كُلِّ نَبَإٍ مِنْهَا اتِّعَاظًا وَتَنْبِيهًا ، وَأَنَّ كُلًّا مِنْ تِلْكَ الْأَنْبَاءِ مُسْتَحَقٌّ بِاعْتِبَارٍ يَخْتَصُّ بِهِ وَأَنْ يَتَنَبَّهُوا كَيْلَا يَغْلِبَهُمُ السُّرُورُ وَالْغَفْلَةُ .
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=109&ayano=1قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ( الْكَافِرُونَ : 1 - 2 ) إِلَى آخِرِهَا ، يُحْكَى أَنَّ بَعْضَ الزَّنَادِقَةِ سَأَلَ
الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ : إِنِّي أَجِدُ فِي الْقُرْآنِ تِكْرَارًا ، وَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ ، فَأَجَابَهُ
الْحَسَنُ بِمَا حَاصِلُهُ : إِنَّ الْكُفَّارَ قَالُوا : " نَعْبُدُ إِلَهَكَ شَهْرًا وَتَعْبُدُ آلِهَتَنَا شَهْرًا " فَجَاءَ النَّفْيُ مُتَوَجِّهًا إِلَى ذَلِكَ ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ مِنَ التَّكْرَارِ فِي شَيْءٍ ، بَلْ هِيَ بِالْحَذْفِ وَالِاخْتِصَارِ أَلْيَقُ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=109&ayano=2لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ( الْكَافِرُونَ : 2 ) أَيْ : لَا أَعْبُدُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مَا تَعْبُدُونَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ، وَقَوْلَهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=109&ayano=4وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ ( الْكَافِرُونَ : 4 ) أَيْ : وَلَا أَنَا عَابِدٌ فِي الْحَالِ مَا عَبَدْتُمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ
nindex.php?page=tafseer&surano=109&ayano=3وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ ( الْكَافِرُونَ : 3 ) فِي الْحَالِ مَا أَعْبُدُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْقَصْدَ نَفْيُ عِبَادَتِهِ لِآلِهَتِهِمْ فِي الْأَزْمِنَةِ الثَّلَاثَةِ : الْحَالُ ، وَالْمَاضِي ،
[ ص: 106 ] وَالِاسْتِقْبَالُ ; وَالْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ النَّفْيُ فِي الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ ، وَحَذْفُ الْمَاضِي مِنْ جِهَتِهِ وَمِنْ جِهَتِهِمْ ، وَلَا بُدَّ مِنْ نَفْيِهِ ، لَكِنَّهُ حُذِفَ لِدَلَالَةِ الْأَوَّلَيْنِ عَلَيْهِ .
وَفِيهِ تَقْدِيرٌ آخَرُ ; وَهُوَ أَنَّ الْجُمْلَةَ الْأُولَى فِعْلِيَّةٌ وَالثَّانِيَةَ اسْمِيَّةٌ ، وَقَوْلُكَ : " لَا أَفْعَلُهُ وَلَا أَنَا فَاعِلُهُ " أَحْسَنُ مِنْ قَوْلِكَ : " لَا أَفْعَلُهُ وَلَا أَفْعَلُهُ " ; فَالْجُمْلَةُ الْفِعْلِيَّةُ نَفْيٌ لِإِمْكَانِهِ ، وَالِاسْمِيَّةُ نَفْيٌ لِاتِّصَافِهِ ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=81وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=22وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ ( فَاطِرٍ : 22 ) وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَبَرَّأَ مِنْ فِعْلِهِ وَمِنَ الِاتِّصَافِ بِهِ ، وَهُوَ أَبْلَغُ فِي النَّفْيِ ، وَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ فَلَمْ يَنْتَفِ عَنْهُمْ إِلَّا بِصِيغَةٍ وَاحِدَةٍ ; وَهِيَ قَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=109&ayano=3وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ( الْكَافِرُونَ : 3 ) فِي الْمَوْضِعَيْنِ .
وَفَرَّقَ آخَرُ ، وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ فِي نَفْيِهِ الْجُمْلَةَ الِاسْمِيَّةَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=109&ayano=4وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ ( الْكَافِرُونَ : 4 ) وَقَالَ فِي النَّفْيِ عَنْهُمْ :
nindex.php?page=tafseer&surano=109&ayano=3وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ( الْكَافِرُونَ : 3 ) عَائِدٌ فِي حَقِّهِ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ ، وَقَالَ
nindex.php?page=tafseer&surano=109&ayano=2لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ( الْكَافِرُونَ : 2 ) بِالْمُضَارِعِ ، وَفِي الثَّانِي :
nindex.php?page=tafseer&surano=109&ayano=4وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ ( الْكَافِرُونَ : 4 ) بِالْمَاضِي ، فَإِنَّ الْمُضَارِعَ يَدُلُّ عَلَى الدَّوَامِ بِخِلَافِ الْمَاضِي ، فَأَفَادَ ذَلِكَ أَنَّ مَا عَبَدْتُمُوهُ وَلَوْ مَرَّةً مَا أَنَا عَابِدٌ لَهُ الْبَتَّةَ ، فَفِيهِ كَمَالُ بَرَاءَتِهِ وَدَوَامُهَا مِمَّا عَبَدُوهُ وَلَوْ مَرَّةً ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=109&ayano=2لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ( الْكَافِرُونَ : 2 ) فَإِنَّ النَّفْيَ مِنْ جِنْسِ الْإِثْبَاتِ وَكِلَاهُمَا مُضَارِعٌ يَظْهَرَانِ جُمْلَةً وَمُنْفَرِدًا .
وَمِنْهُ تَكْرِيرُ الْأَمْرِ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى
الْبَيْتِ الْحَرَامِ فِي ثَلَاثِ آيَاتٍ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ ; لِأَنَّ الْمُنْكِرِينَ لِتَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ كَانُوا ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ مِنَ النَّاسِ : الْيَهُودُ ; لِأَنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ بِالنَّسْخِ فِي أَصْلِ مَذْهَبِهِمْ ، وَأَهْلُ النِّفَاقِ أَشَدُّ إِنْكَارًا لَهُ ; لِأَنَّهُ كَانَ أَوَّلُ نَسْخٍ نَزَلَ ،
وَكُفَّارُ قُرَيْشٍ قَالُوا : نَدِمَ
مُحَمَّدٌ عَلَى فِرَاقِ دِينِنَا فَيَرْجِعُ إِلَيْهِ كَمَا رَجَعَ إِلَى قِبْلَتِنَا .
وَكَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ يَحْتَجُّونَ عَلَيْهِ فَيَقُولُونَ : يَزْعُمُ
مُحَمَّدٌ أَنَّهُ يَدْعُونَا إِلَى مِلَّةِ
إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَقَدْ فَارَقَ قِبْلَتَهُمَا وَآثَرَ عَلَيْهَا قِبْلَةَ الْيَهُودِ .
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى حِينَ أَمْرَهُ بِالصَّلَاةِ إِلَى
الْكَعْبَةِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=150لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ( الْبَقَرَةِ : 150 ) وَالِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ أَيْ : لَكِنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ لَا يَرْجِعُونَ وَلَا يَهْتَدُونَ ، وَقَالَ سُبْحَانَهُ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=147الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ أَيْ : الَّذِينَ أَشْرَكُوا فَلَا تَمْتَرِ فِي ذَلِكَ ، وَقَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=146وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ( الْبَقَرَةِ : 146 ) أَيْ : يَكْتُمُونَ مَا عَلِمُوا أَنَّ
الْكَعْبَةَ هِيَ قِبْلَةُ الْأَنْبِيَاءِ .
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=174فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ( الصَّافَّاتِ :
[ ص: 107 ] 174 - 175 ) وَقَالَ صَاحِبُ " الْيَنْبُوعِ " : لَمْ يَبْلُغْنِي عَنِ الْمُفَسِّرِينَ فِيهِ شَيْءٌ .
وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ فِي غَرِيبِ الْقُرْآنِ : هُمَا فِي الْمَعْنَى كَالْآيَتَيْنِ الْمُتَقَدِّمَتَيْنِ ; فَكَرَّرَ لِلتَّأْكِيدِ وَتَشْدِيدِ الْوَعِيدِ .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ " الْحِينُ " فِي الْأَوَّلِيَّيْنِ يَوْمَ
بَدْرٍ ، وَ " الْحِينُ " فِي هَاتَيْنِ يَوْمَ فَتْحِ
مَكَّةَ .
وَمِنْ فَوَائِدِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْأَوَّلِيَّيْنِ : ( وَأَبْصِرْهُمْ ) وَفِي هَاتَيْنِ : ( فَأَبْصِرْ ) أَنَّ الْأُولَى بِنُزُولِ الْعَذَابِ بِهِمْ يَوْمَ
بَدْرٍ قَتْلًا وَأَسْرًا وَهَزِيمَةً وَرُعْبًا ، فَمَا تَضَمَّنَتِ التَّشَفِّيَ بِهِمْ قِيلَ لَهُ : ( أَبْصِرْهُمْ ) وَأَمَّا يَوْمُ الْفَتْحِ فَإِنَّهُ اقْتَرَنَ بِالظُّهُورِ عَلَيْهِمُ الْإِنْعَامُ بِتَأْمِينِهِمْ وَالْهِدَايَةُ إِلَى إِيمَانِهِمْ ، فَلَمْ يَكُنْ وَفْقًا لِلتَّشَفِّي بِهِمْ ; بَلْ كَانَ فِي اسْتِسْلَامِهِمْ وَإِسْلَامِهِمْ لِعَيْنِهِ قُرَّةً وَلِقَلْبِهِ مَسَرَّةً ، فَقِيلَ لَهُ : ( أَبْصِرْ ) .
وَيَحْتَمِلُ عَلَى هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ فَوَائِدِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=175فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ أَيْ : يُبْصِرُونَ مَنَّكَ عَلَيْهِمْ بِالْأَمَانِ ، وَمَنَّنَا عَلَيْهِمْ بِالْإِيمَانِ .
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=60&ayano=10لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ ( الْمُمْتَحِنَةِ : 10 ) .
وَلِلتَّكْرَارِ فَائِدَتَانِ : إِحْدَاهُمَا أَنَّ التَّحْرِيمَ قَدْ يَكُونُ فِي الطَّرَفَيْنِ ; وَلَكِنْ يَكُونُ الْمَانِعُ مِنْ إِحْدَاهُمَا ; كَمَا لَوِ ارْتَدَّتِ الزَّوْجَةُ قَبْلَ الدُّخُولِ يَحْرُمُ النِّكَاحُ مِنَ الطَّرَفَيْنِ ، وَالْمَانِعُ مِنْ جِهَتِهِمَا ، فَذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الثَّانِيَةَ ; لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ التَّحْرِيمَ كَمَا هُوَ ثَابِتٌ فِي الطَّرَفَيْنِ كَذَلِكَ الْمَانِعُ مِنْهُمَا .
وَالثَّانِيَةُ أَنَّ الْأُولَى دَلَّتْ عَلَى ثُبُوتِ التَّحْرِيمِ فِي الْمَاضِي ; وَلِهَذَا أَتَى فِيهَا بِالِاسْمِ الدَّالِّ عَلَى الثُّبُوتِ ; وَالثَّانِيَةُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ، وَلِهَذَا أَتَى فِيهَا بِالْفِعْلِ الْمُسْتَقْبَلِ .
وَمِنْهُ تَكْرَارُ الْإِضْرَابِ .
[ ص: 108 ] وَاعْلَمْ أَنَّ " بَلْ " إِذَا ذُكِرَتْ بَعْدَ كَلَامٍ مُوجَبٍ فَمَعْنَاهَا الْإِضْرَابُ .
وَهُوَ إِمَّا أَنْ يَقَعَ فِي كَلَامِ الْخَلْقِ ; وَمَعْنَاهُ إِبْطَالُ مَا سَبَقَ عَلَى طَرِيقِ الْغَلَطِ مِنَ الْمُتَكَلِّمِ ; أَوْ أَنَّ الثَّانِيَ أَوْلَى .
وَإِمَّا أَنْ يَقَعَ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى ; وَهُوَ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مَا فِيهَا مِنَ الرَّدِّ رَاجِعًا إِلَى الْعِبَادِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=5قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ ( الْأَنْبِيَاءِ : 5 ) .
وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ إِبْطَالًا ، وَلَكِنَّهُ عَلَى أَنَّهُ قَدِ انْقَضَى وَقْتُهُ ; وَأَنَّ الَّذِي بَعْدَهُ أَوْلَى بِالذِّكْرِ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=66بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ ( النَّمْلِ : 66 )
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=8بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ ( ص : 8 ) .
وَزَعَمَ
ابْنُ مَالِكٍ فِي شَرْحِ " الْكَافِيَةِ " أَنَّ " بَلْ " حَيْثُ وَقَعَتْ فِي الْقُرْآنِ فَإِنَّهَا لِلِاسْتِئْنَافِ لِغَرَضٍ آخَرَ لَا لِإِبْطَالِ الْأَوَّلِ ; وَهُوَ مَرْدُودٌ بِمَا سَبَقَ ، وَبِقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=26وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ ( الْأَنْبِيَاءِ : 26 ) ; فَأَضْرَبَ بِهَا عَنْ قَوْلِهِمْ ، وَأَبْطَلَ كَذِبَهُمْ .
وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=166بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ ( الشُّعَرَاءِ : 166 ) أَضْرَبَ بِهَا عَنْ حَقِيقَةِ إِتْيَانِهِمُ الذُّكُورَ وَتَرْكِ الْأَزْوَاجِ .
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=65&ayano=2وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ( الطَّلَاقِ : 2 ) ، فَالْأَوَّلُ لِلْمُطَلِّقِينَ ، وَالثَّانِي لِلشُّهُودِ ; نَحْوَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=232وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ ( الْبَقَرَةِ : 232 ) أَوَّلُهَا لِلْأَزْوَاجِ ، وَآخِرُهَا لِلْأَوْلِيَاءِ .
وَمِنْهُ تَكْرَارُ الْأَمْثَالِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=19وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ ( فَاطِرٍ : 19 - 20 - 21 - 22 ) .
[ ص: 109 ] وَكَذَلِكَ ضَرْبُ مَثَلِ الْمُنَافِقِينَ أَوَّلَ الْبَقَرَةِ ثَنَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى .
قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزَّمَخْشَرِيُّ : " وَالثَّانِي أَبْلَغُ مِنَ الْأَوَّلِ ; لِأَنَّهُ أَدَلُّ عَلَى فَرْطِ الْحَيْرَةِ ، وَشِدَّةِ الْأَمْرِ وَفَظَاعَتِهِ " قَالَ : " وَلِذَلِكَ أَخَّرَ وَهُمْ يَتَدَرَّجُونَ فِي نَحْوِ هَذَا مِنَ الْأَهْوَنِ إِلَى الْأَغْلَظِ " .
وَمِنْهُ تَكْرَارُ الْقِصَصِ فِي الْقُرْآنِ ; كَقِصَّةِ إِبْلِيسَ فِي السُّجُودِ
لِآدَمَ ، وَقِصَّةِ
مُوسَى وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ ، قَالَ بَعْضُهُمْ : ذَكَرَ اللَّهُ
مُوسَى فِي مِائَةٍ وَعِشْرِينَ مَوْضِعًا مِنْ كِتَابِهِ ، قَالَ
ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي " الْقَوَاصِمِ " : ذَكَرَ اللَّهُ قِصَّةَ
نُوحٍ فِي خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ آيَةٍ ، وَقِصَّةَ
مُوسَى فِي سَبْعِينَ آيَةٍ .
انْتَهَى .
وَإِنَّمَا كَرَّرَهَا لِفَائِدَةٍ خَلَتْ عَنْهُ فِي الْمَوْضِعِ الْآخَرِ وَهِيَ أُمُورٌ : - أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ إِذَا كَرَّرَ الْقِصَّةَ زَادَ فِيهَا شَيْئًا ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ ذَكَرَ الْحَيَّةَ فِي عَصَا
مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَذَكَرَهَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ ثُعْبَانًا ، فَفَائِدَتُهُ أَنَّ لَيْسَ كُلَّ حَيَّةٍ ثُعْبَانًا وَهَذِهِ عَادَةُ الْبُلَغَاءِ ، أَنْ يُكَرِّرَ أَحَدُهُمْ فِي آخِرِ خُطْبَتِهِ أَوْ قَصِيدَتِهِ كَلِمَةً لِصِفَةٍ زَائِدَةٍ .
الثَّانِيَةُ : أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَسْمَعُ الْقِصَّةَ مِنَ الْقُرْآنِ ، ثُمَّ يَعُودُ إِلَى أَهْلِهِ ، ثُمَّ يُهَاجِرُ بَعْدَهُ آخَرُونَ يَحْكُونَ عَنْهُ مَا نَزَلْ بَعْدَ صُدُورِ الْأَوَّلِينَ ; وَكَانَ أَكْثَرُ مَنْ آمَنَ بِهِ مُهَاجِرِيًّا ، فَلَوْلَا تَكَرُّرُ الْقِصَّةِ لَوَقَعَتْ قِصَّةُ
مُوسَى إِلَى قَوْمٍ وَقِصَّةُ
عِيسَى إِلَى آخَرِينَ ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْقِصَصِ فَأَرَادَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى اشْتِرَاكَ الْجَمِيعِ فِيهَا ، فَيَكُونُ فِيهِ إِفَادَةُ الْقَوْمِ ، وَزِيَادَةُ تَأْكِيدٍ وَتَبْصِرَةٍ لِآخَرِينَ وَهُمُ الْحَاضِرُونَ ، وَعَبَّرَ عَنْ هَذَا
ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرُهُ بِأَنْ يُقَالَ كُلٌّ مِنَ الصَّادِرِينَ عَنْهُ ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
[ ص: 110 ] الثَّالِثَةُ : تَسْلِيَتُهُ لِقَلْبِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِمَّا اتَّفَقَ لِلْأَنْبِيَاءِ مِثْلُهُ مَعَ أُمَمِهِمْ ، قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=120وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ( هُودٍ : 120 ) .
الرَّابِعَةُ : أَنَّ إِبْرَازَ الْكَلَامِ الْوَاحِدِ فِي فُنُونٍ كَثِيرَةٍ وَأَسَالِيبَ مُخْتَلِفَةٍ لَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنَ الْفَصَاحَةِ .
الْخَامِسَةُ : أَنَّ الدَّوَاعِيَ لَا تَتَوَفَّرُ عَلَى نَقْلِهَا كَتَوَفُّرِهَا عَلَى نَقْلِ الْأَحْكَامِ ، فَلِهَذَا كُرِّرَتِ الْقِصَصُ دُونَ الْأَحْكَامِ .
السَّادِسَةُ : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ هَذَا الْقُرْآنَ وَعَجَزَ الْقَوْمُ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ آيَةٍ ، لِصِحَّةِ نُبُوَّةِ
مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ بَيَّنَ وَأَوْضَحَ الْأَمْرَ فِي عَجْزِهِمْ ; بِأَنْ كَرَّرَ ذِكْرَ الْقِصَّةِ فِي مَوَاضِعَ ; إِعْلَامًا بِأَنَّهُمْ عَاجِزُونَ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ بِأَيِّ نَظْمٍ جَاءُوا ، بِأَيِّ عِبَارَةٍ عَبَّرُوا ، قَالَ
ابْنُ فَارِسٍ : وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ .
السَّابِعَةُ : أَنَّهُ لَمَّا سَخِرَ الْعَرَبُ بِالْقُرْآنِ قَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=23فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ( الْبَقَرَةِ : 23 ) وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=13فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ ( هُودٍ : 13 ) فَلَوْ ذَكَرَ قِصَّةَ
آدَمَ مَثَلًا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ وَاكْتَفَى بِهَا لَقَالَ الْعَرَبِيُّ بِمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=23فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ( الْبَقَرَةِ : 23 ) " إِيتُونَا أَنْتُمْ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ " فَأَنْزَلَهَا سُبْحَانَهُ فِي تَعْدَادِ السُّوَرِ ; دَفْعًا لِحُجَّتِهِمْ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ .
الثَّامِنَةُ : أَنَّ الْقِصَّةَ الْوَاحِدَةَ مِنْ هَذِهِ الْقِصَصِ ; كَقِصَّةِ
مُوسَى مَعَ
فِرْعَوْنَ وَإِنْ ظُنَّ أَنَّهَا لَا تُغَايِرُ الْأُخْرَى فَقَدْ يُوجَدُ فِي أَلْفَاظِهَا زِيَادَةٌ وَنُقْصَانٌ وَتَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ ، وَتِلْكَ حَالُ الْمَعَانِي الْوَاقِعَةِ بِحَسَبِ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ ; فَأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ لَا بُدَّ وَأَنْ تُخَالِفَ نَظِيرَتَهَا مِنْ نَوْعِ مَعْنًى زَائِدٍ فِيهِ ، لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ إِلَّا مِنْهَا دُونَ غَيْرِهَا ; فَكَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَّقَ ذِكْرَ مَا دَارَ بَيْنَهُمَا وَجَعَلَهُ أَجْزَاءً ، ثُمَّ قَسَّمَ تِلْكَ الْأَجْزَاءَ عَلَى تَارَاتِ التَّكْرَارِ لِتُوجَدَ مُتَفَرِّقَةً فِيهَا ، وَلَوْ جُمِعَتْ تِلْكَ الْقِصَصُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ لَأَشْبَهَتْ مَا وُجِدَ الْأَمْرُ عَلَيْهِ مِنَ الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ ; مِنَ انْفِرَادِ كُلِّ قِصَّةٍ مِنْهَا بِمَوْضِعٍ كَمَا وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ بِالنِّسْبَةِ
لِيُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَاصَّةً ، فَاجْتَمَعَتْ فِي هَذِهِ الْخَاصِّيَّةِ مِنْ نَظْمِ الْقُرْآنِ عِدَّةُ مَعَانٍ عَجِيبَةٍ :
[ ص: 111 ] مِنْهَا : أَنَّ التَّكْرَارَ فِيهَا مَعَ سَائِرِ الْأَلْفَاظِ لَمْ يُوقِعْ فِي اللَّفْظِ هُجْنَةً ، وَلَا أَحْدَثَ مَلَلًا ، فَبَايَنَ بِذَلِكَ كَلَامَ الْمَخْلُوقِينَ .
وَمِنْهَا : أَنَّهُ أَلْبَسَهَا زِيَادَةً وَنُقْصَانًا وَتَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا ; لِيَخْرُجَ بِذَلِكَ الْكَلَامِ أَنْ تَكُونَ أَلْفَاظُهُ وَاحِدَةً بِأَعْيَانِهَا ، فَيَكُونُ شَيْئًا مُعَادًا ; فَنَزَّهَهُ عَنْ ذَلِكَ بِهَذِهِ التَّغْيِيرَاتِ .
وَمِنْهَا : أَنَّ الْمَعَانِيَ الَّتِي اشْتَمَلَتْ عَلَيْهَا الْقِصَّةُ الْوَاحِدَةُ مِنْ هَذِهِ الْقِصَصِ صَارَتْ مُتَفَرِّقَةً فِي تَارَاتِ التَّكْرِيرِ فَيَجِدُ الْبَلِيغُ لِمَا فِيهَا مِنَ التَّغْيِيرِ مَيْلًا إِلَى سَمَاعِهَا ; لِمَا جُبِلَتْ عَلَيْهِ النُّفُوسُ مِنْ حُبِّ التَّنَقُّلِ فِي الْأَشْيَاءِ الْمُتَجَدِّدَةِ الَّتِي لِكُلٍّ مِنْهَا حِصَّةٌ مِنَ الِالْتِذَاذِ بِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ .
وَمِنْهَا : ظُهُورُ الْأَمْرِ الْعَجِيبِ فِي إِخْرَاجِ صُوَرٍ مُتَبَايِنَةٍ فِي النَّظْمِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ ; وَقَدْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْجَبُونَ مِنَ اتِّسَاعِ الْأَمْرِ فِي تَكْرِيرِ هَذِهِ الْقِصَصِ وَالْأَنْبَاءِ مَعَ تَغَايُرِ أَنْوَاعِ النَّظْمِ ، وَبَيَانِ وُجُوهِ التَّأْلِيفِ ، فَعَرَّفَهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْأَمْرَ بِمَا يَتَعَجَّبُونَ مِنْهُ مَرْدُودٌ إِلَى قُدْرَةِ مَنْ لَا يَلْحَقُهُ نِهَايَةٌ ، وَلَا يَقَعُ عَلَى كَلَامِهِ عَدَدٌ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=109قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا ( الْكَهْفِ : 109 ) وَكَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=31&ayano=27وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ ( لُقْمَانَ : 27 ) الْآيَةَ .
وَقَالَ الْقَفَّالُ فِي تَفْسِيرِهِ : ذَكَرَ اللَّهُ فِي أَقَاصِيصَ
بَنِي إِسْرَئِيلَ وُجُوهًا مِنَ الْمَقَاصِدِ : أَحَدُهَا : الدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ
مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْهَا مِنْ غَيْرِ تَعَلُّمٍ ، وَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بِالْوَحْيِ .
الثَّانِي : تَعْدِيدُ النِّعَمِ عَلَى
بَنِي إِسْرَائِيلَ ، وَمَا مَنَّ اللَّهُ عَلَى أَسْلَافِهِمْ مِنَ الْكَرَامَةِ وَالْفَضْلِ ; كَالنَّجَاةِ مِنْ
آلِ فِرْعَوْنَ وَفَرْقِ الْبَحْرِ لَهُمْ ، وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْهِ فِي التِّيهِ مِنَ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى ، وَتَفَجُّرِ الْحَجَرِ ، وَتَظْلِيلِ الْغَمَامِ .
الثَّالِثُ : إِخْبَارُ اللَّهِ نَبِيَّهُ بِتَقْدِيمِ كُفْرِهِمْ وَخِلَافِهِمْ وَشَقَاوَتِهِمْ وَتَعَنُّتِهِمْ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى
[ ص: 112 ] يَقُولُ : إِذَا كَانَتْ هَذِهِ مُعَامَلَتُهُمْ مَعَ نَبِيِّهِمُ الَّذِي أَعَزَّهُمُ اللَّهُ بِهِ ، وَأَنْقَذَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ بِسَبَبِهِ ; فَغَيْرُ بِدْعٍ مَا يُعَامِلُهُ بِهِ أَخْلَافُهُمْ
مُحَمَّدًا ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
الرَّابِعُ : تَحْذِيرُ أَهْلِ الْكِتَابِ الْمَوْجُودِينَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ نُزُولِ الْعَذَابِ بِهِمْ كَمَا نَزَلَ بِأَسْلَافِهِمْ .
وَهُنَا سُؤَالَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا الْحِكْمَةُ فِي عَدَمِ تَكَرُّرِ قِصَّةِ
يُوسُفَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَسَوْقُهَا مَسَاقًا وَاحِدًا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الْقِصَصِ ؟ وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ : الْأَوَّلُ : مَا فِيهَا مِنْ تَشْبِيبِ النِّسْوَةِ بِهِ ، وَتَضَمُّنِ الْإِخْبَارِ عَنْ حَالِ امْرَأَةٍ وَنِسْوَةٍ افْتُتِنَّ بِأَبْدَعِ النَّاسِ جَمَالًا ، وَأَرْفَعِهِمْ مِثَالًا ، فَنَاسَبَ عَدَمُ تَكْرَارِهَا لِمَا فِيهَا مِنَ الْإِغْضَاءِ وَالسَّتْرِ عَنْ ذَلِكَ .
وَقَدْ صَحَّحَ الْحَاكِمُ فِي " مُسْتَدْرَكِهِ " حَدِيثًا مَرْفُوعًا : النَّهْيَ عَنْ تَعْلِيمِ النِّسَاءِ سُورَةَ يُوسُفَ .
الثَّانِي : أَنَّهَا اخْتَصَّتْ بِحُصُولِ الْفَرَجِ بَعْدَ الشِّدَّةِ ، بِخِلَافِ غَيْرِهَا مِنَ الْقِصَصِ ; فَإِنَّ مَآلَهَا إِلَى الْوَبَالِ ، كَقِصَّةِ إِبْلِيسَ ،
وَقَوْمِ نُوحٍ ، وَقَوْمِ هُودٍ ، وَقَوْمِ صَالِحٍ ، وَغَيْرِهِمْ ، فَلَمَّا اخْتُصَّتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ فِي سَائِرِ الْقِصَصِ بِذَلِكَ اتَّفَقَتِ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهَا لِخُرُوجِهَا عَنْ سَمْتِ الْقَصَصِ .
الثَّالِثُ : قَالَهُ الْأُسْتَاذُ
nindex.php?page=showalam&ids=11812أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفِرَايِنِيُّ إِنَّمَا كَرَّرَ اللَّهُ قِصَصَ الْأَنْبِيَاءِ ، وَسَاقَ
[ ص: 113 ] قِصَّةَ
يُوسُفَ مَسَاقًا وَاحِدًا ; إِشَارَةً إِلَى عَجْزِ الْعَرَبِ ، كَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُمْ : إِنْ كَانَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي تَصْدِيرُهُ عَلَى الْفَصَاحَةِ ، فَافْعَلُوا فِي قِصَّةِ
يُوسُفَ مَا فَعَلْتُ فِي قِصَصِ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ .
السُّؤَالُ الثَّانِي : أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذَكَرَ قِصَّةَ قَوْمِ
نُوحٍ وَهُودٍ وَصَالِحٍ وَشُعَيْبٍ وَلُوطٍ وَمُوسَى فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَهُودٍ وَالشُّعَرَاءِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَعَهُمْ قِصَّةَ إِبْرَاهِيمَ ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهَا فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَمَرْيَمَ وَالْعَنْكَبُوتِ وَالصَّافَّاتِ .
وَالسِّرُّ فِي ذَلِكَ أَنَّ تِلْكَ السُّوَرَ الْأُوَلَ ذَكَرَ اللَّهُ فِيهَا نَصْرَ رُسُلِهِ بِإِهْلَاكِ قَوْمِهِمْ ، وَنِجَاءِ الرُّسُلِ وَأَتْبَاعِهِمْ ، وَهَذِهِ السُّوَرُ لَمْ يَقْتَصِرْ فِيهَا عَلَى ذِكْرِ مَنْ أَهْلَكَ مِنَ الْأُمَمِ ; بَلْ كَانَ الْمَقْصُودُ ذِكْرَ الْأَنْبِيَاءِ وَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ قَوْمُهُمْ ; وَلِهَذَا سُمِّيتْ سُورَةَ الْأَنْبِيَاءِ ; فَذَكَرَ فِيهَا إِكْرَامَهُ لِلْأَنْبِيَاءِ ; وَبَدَأَ فِيهَا بِقِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ ; إِذْ كَانَ الْمَقْصُودُ ذِكْرَ كَرَامَتِهِ الْأَنْبِيَاءَ قَبْلَ
مُحَمَّدٍ ، وَإِبْرَاهِيمُ أَكْرَمُهُمْ عَلَى اللَّهِ ، وَهُوَ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ، وَهُوَ أَبُ أَكْثَرِهِمْ ، وَلَيْسَ هُوَ أَبُ
نُوحٍ وَلُوطٍ ; لَكِنْ
لُوطٌ مِنْ أَتْبَاعِهِ ،
وَأَيُّوبُ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ ; بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=84وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ ( الْآيَةَ : 84 ) .
وَأَمَّا سُورَةُ الْعَنْكَبُوتِ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذَكَرَ فِيهَا امْتِحَانَهُ لِلْمُؤْمِنِينَ ، وَنَصْرَهُ لَهُمْ ، وَحَاجَتَهُمْ إِلَى الْجِهَادِ ، وَذَكَرَ فِيهَا حُسْنَ الْعَاقِبَةِ لِمَنْ صَبَرَ ، وَعَاقِبَةَ مَنْ كَذَّبَ الرُّسُلَ ، فَذَكَرَ قِصَّةَ إِبْرَاهِيمَ ; لِأَنَّهَا مِنَ النَّمَطِ الْأَوَّلِ .
وَكَذَلِكَ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ ، قَالَ فِيهَا :
nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=71وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ ( الْآيَاتِ : 71 ، 72 ، 73 ) وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهَا عَاقِبَةٌ رَدِيئَةٌ ; إِمَّا بِكَوْنِهِمْ غُلِبُوا وَذُلُّوا ، وَإِمَّا بِكَوْنِهِمْ أُهْلِكُوا ; وَلِهَذَا ذَكَرَ قِصَّةَ
إِلْيَاسَ دُونَ غَيْرِهَا ، وَلَمْ يَذْكُرْ إِهْلَاكَ قَوْمِهِ ; بَلْ قَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=127فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ( الصَّافَّاتِ : 127 ) .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ اللَّهَ رَفَعَ
إِلْيَاسَ ; وَهَذَا يَقْتَضِي عَذَابَهُمْ فِي الْآخِرَةِ ; فَإِنَّ
إِلْيَاسَ لَمْ يُقِمْ بَيْنَهُمْ ،
وَإِلْيَاسُ الْمَعْرُوفُ بَعْدَ
مُوسَى مِنْ
بَنِي إِسْرَائِيلَ ، وَبَعْدَ
مُوسَى لَمْ يُهْلِكِ الْمُكَذِّبِينَ بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ ، وَبَعْدَ
نُوحٍ لَمْ يُهْلِكْ جَمِيعَ النَّوْعِ ، وَقَدْ بَعَثَ اللَّهُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ نَذِيرًا ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَذْكُرْ عَنْ
قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ أَنَّهُمْ أُهْلِكُوا ، كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ عَنْ غَيْرِهِمْ ; بَلْ ذَكَرَ أَنَّهُمْ أَلْقَوْهُ فِي النَّارِ فَجَعَلَهَا بَرْدًا وَسَلَامًا ، وَفِي هَذَا ظُهُورُ بُرْهَانِهِ وَآيَاتِهِ ; حَيْثُ أَذَلَّهُمْ وَنَصَرَهُ
nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=98فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ ( الصَّافَّاتِ : 98 ) وَهَذَا مِنْ جِنْسِ الْمُجَاهِدِ الَّذِي يُعَرِّضُ عَدُوَّهُ ،
[ ص: 114 ] وَالْقَصَصُ الْأَوَّلُ مِنْ جِنْسِ الْمُجَاهِدِ الَّذِي قَتَلَ عَدُوَّهُ ،
وَإِبْرَاهِيمُ بَعْدَ هَذَا لَمْ يُقِمْ بَيْنَهُمْ بَلْ هَاجَرَ وَتَرَكَهُمْ ; وَأُولَئِكَ الرُّسُلُ لَمْ يَزَالُوا مُقِيمِينَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ حَتَّى هَلَكُوا ، وَلَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّ
إِبْرَاهِيمَ سَبَبُ الْهَلَاكِ ; وَهُوَ إِقَامَتُهُ فِيهِمْ ، وَانْتِظَارُ الْعَذَابِ النَّازِلِ ، وَهَكَذَا
مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ قَوْمِهِ ، لَمْ يُقِمْ فِيهِمْ ; بَلْ خَرَجَ عَنْهُمْ حَتَّى أَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ ،
وَمُحَمَّدٌ وَإِبْرَاهِيمُ أَفْضَلُ الرُّسُلِ ; فَإِنَّهُمْ إِذَا عَلِمُوا حَصَلَ الْمَقْصُودُ ، وَقَدْ يَتُوبُ مِنْهُمْ مَنْ تَابَ كَمَا جَرَى
لِقَوْمِ يُونُسَ ، فَهَذَا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - هُوَ السِّرُّ فِي أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَذْكُرْ قِصَّةَ
إِبْرَاهِيمَ مَعَ هَؤُلَاءِ ; لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مَنْ جِنْسِ وَاقِعَتِهِمْ .
فَإِنْ قِيلَ : فَمَا وَجْهُ الْخُصُوصِيَّةِ
بِمُحَمَّدٍ وَإِبْرَاهِيمَ بِذَلِكَ ؟ فَالْجَوَابُ : أَمَّا حَالَةُ
إِبْرَاهِيمَ فَكَانَتْ إِلَى الرَّحْمَةِ أَمْيَلَ ; فَلَمْ يَسْعَ فِي هَلَاكِ قَوْمِهِ ; لَا بِالدُّعَاءِ وَلَا بِالْمَقَامِ وَدَوَامِ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=13وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ( إِبْرَاهِيمَ : 13 - 14 ) وَكَانَ كُلُّ قَوْمٍ يَطْلُبُونَ هَلَاكَ نَبِيِّهِمْ فَعُوقِبُوا ;
وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَإِنْ أَوْصَلُوهُ إِلَى الْعَذَابِ ; لَكِنْ جَعَلَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ بَرْدًا وَسَلَامًا وَلَمْ يَفْعَلُوا بَعْدَ ذَلِكَ مَا يَسْتَحِقُّونَ بِهِ الْعَذَابَ ; إِذِ الدُّنْيَا لَيْسَتْ دَارُ الْجَزَاءِ الْعَامِّ ، وَإِنَّمَا فِيهَا مِنَ الْجَزَاءِ مَا تَحْصُلُ بِهِ الْحِكْمَةُ وَالْمَصْلَحَةُ ; كَمَا فِي الْعُقُوبَاتِ الشَّرْعِيَّةِ ، فَمَنْ أَرَادُوا عَدَاوَةَ أَحَدٍ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ لِيُهْلِكُوهُ فَعَصَمَهُ اللَّهُ ، وَجَعَلَ صُورَةَ الْهَلَاكِ نِعْمَةً فِي حَقِّهِ ، وَلَمْ يُهْلِكْ أَعْدَاءَهُ بَلْ أَخْزَاهُمْ وَنَصْرَهُ ; فَهُوَ أَشْبَهُ
بِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ; إِذْ عَصَمَهُ اللَّهُ مِنْ كَيْدِهِمْ وَأَظْهَرَهُ حَتَّى صَارَتِ الْحَرْبُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ سِجَالًا ، ثُمَّ كَانَتْ لَهُ الْعَاقِبَةُ ، فَهُوَ أَشْبَهُ بِحَالِ
مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّ
مُحَمَّدًا سَيِّدُ الْجَمِيعِ ، وَهُوَ خَلِيلُ اللَّهِ ، كَمَا أَنَّ
إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَلِيلُهُ ، وَالْخَلِيلَانِ هُمَا أَفْضَلُ الْجَمِيعِ ، وَفِي طَرِيقِهِمَا مِنَ الرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ مَا لَيْسَ فِي طَرِيقِ غَيْرِهِمَا ، وَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ عَنْ
قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ ذَنْبًا غَيْرَ الشِّرْكِ ، وَكَذَلِكَ عَنْ
قَوْمِ نُوحٍ ، وَأَمَّا
عَادٌ فَذَكَرَ عَنْهُمُ التَّجَبُّرَ وَعِمَارَةَ الدُّنْيَا ،
وَقَوْمُ صَالِحٍ ذَكَرَ عَنْهُمُ الِاشْتِغَالَ بِالدُّنْيَا عَنِ الْأَنْبِيَاءِ ،
وَأَهْلُ مَدْيَنَ الظُّلْمَ فِي الْأَمْوَالِ مَعَ الشِّرْكِ ،
وَقَوْمُ لُوطٍ اسْتِحْلَالَ الْفَاحِشَةِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُمْ أَقَرُّوا بِالتَّوْحِيدِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْأُمَمِ ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُشْرِكِينَ ، وَإِنَّمَا كَانَ دِينُهُمُ اسْتِحْلَالُ الْفَاحِشَةِ وَتَوَابِعُ ذَلِكَ ، وَكَانَتْ عُقُوبَتُهُمْ أَشَدَّ .
[ ص: 115 ] وَهَذِهِ الْأُمُورُ تَدُلُّ عَلَى حِكْمَةِ الرَّبِّ وَعُقُوبَتِهِ لِكُلِّ قَوْمٍ بِمَا يُنَاسِبُهُمْ ; وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي قَوْمِ
نُوحٍ خَيْرٌ يُرْجَى غَرِقَ الْجَمِيعُ .
وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ .
فَتَأَمَّلْ هَذَا الْفَصْلَ ، وَعَظِّمْ فَوَائِدَهُ ، وَتَدَبَّرْ حِكْمَتَهُ ; فَإِنَّهُ سِرٌّ عَظِيمٌ مِنْ أَسْرَارِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=47&ayano=15أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى ( مُحَمَّدٍ : 15 ) فَأَعَادَ ذِكْرَ " الْأَنْهَارِ " مَعَ كُلِّ صِنْفٍ ; وَكَانَ يَكْفِي أَنْ يُقَالَ فِيهَا : " أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ وَمِنْ لَبَنٍ وَمَنْ خَمْرٍ وَمِنْ عَسَلٍ " لَكِنْ لَمَّا كَانَتِ الْأَنْهَارُ مِنَ الْمَاءِ حَقِيقَةً ; وَفِيمَا عَدَا الْمَاءِ مَجَازًا لِلتَّشْبِيهِ ; فَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِهَا مَعَ الْمَاءِ وَعَطَفَ الْبَاقِي عَلَيْهِ لَجَمَعَ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ .
فَإِنْ قُلْتَ : فَهَلَّا أَفْرَدَ ذِكْرَ الْمَاءِ وَجَمَعَ الْبَاقِي صِيغَةً وَاحِدَةً ؟ قِيلَ : لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَجَمَعَ بَيْنَ مَحَامِلٍ مِنَ الْمَجَازِ مُخْتَلِفَةٍ فِي صِيغَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَهُوَ قَرِيبٌ فِي الْمَنْعِ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ .
فَائِدَةٌ قَدْ يَسْتَثْقِلُونَ تَكْرَارَ اللَّفْظِ فَيَعْدِلُونَ عَنْهُ لِمَعْنَاهُ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=86&ayano=17فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا ( الطَّارِقِ : 17 ) ; فَإِنَّهُ لَمَّا أُعِيدَ اللَّفْظُ غَيَّرَ " فَعِّلْ " إِلَى " أَفْعِلْ " فَلَمَّا ثَلَّثَ تَرَكَ اللَّفْظَ أَصْلًا فَقَالَ : " رُوَيْدًا " .
وَقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=74لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا ( الْكَهْفِ : 74 ) ، ثُمَّ قَالَ : ( إِمْرًا ) ( الْكَهْفِ : 71 ) .
قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=15080الْكِسَائِيُّ : مَعْنَاهُ : شَيْئًا مُنْكَرًا كَثِيرَ الدَّهَاءِ مِنْ جِهَةِ الْإِنْكَارِ ; مِنْ قَوْلِهِمْ : أَمِرَ الْقَوْمُ إِذَا كَثُرُوا .
قَالَ
الْفَارِسِيُّ : وَأَنَا أَسْتَحْسِنُ قَوْلَهُ هَذَا .
وَقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=13ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ ( الْحَدِيدِ : 13 ) قَالَ
الْفَارِسِيُّ : ( وَرَاءَكُمْ ) ( الْحَدِيدِ : 13 ) فِي مَوْضِعِ فِعْلِ الْأَمْرِ أَيْ : تَأَخَّرُوا ; وَالْمَعْنَى ارْجِعُوا تَأَخَّرُوا ; فَهُوَ تَأْكِيدٌ وَلَيْسَتْ ظَرْفًا ; لِأَنَّ الظُّرُوفَ لَا يُؤَكَّدُ بِهَا .
[ ص: 116 ] وَإِذَا تَكَرَّرَ اللَّفْظُ بِمُرَادِفَةٍ جَازَتِ الْإِضَافَةُ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=5عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ ( سَبَأٍ : 5 ) وَالْقَصْدُ الْمُبَالَغَةُ ، أَيْ : عَذَابٌ مُضَاعَفٌ ، وَبِالْعَطْفِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=86إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ ( يُوسُفَ : 86 ) وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=109فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا ( الْبَقَرَةِ : 109 ) .