الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                              السراج الوهاج من كشف مطالب صحيح مسلم بن الحجاج

                                                                                                                              صديق خان - محمد صديق حسن خان القنوجي الظاهري

                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                              5104 سورة الأنبياء : باب في قوله عز وجل : « كما بدأنا أول خلق نعيده

                                                                                                                              وهو في النووي ، في : (باب فناء الدنيا ، وبيان الحشر يوم القيامة ) .

                                                                                                                              (حديث الباب )

                                                                                                                              وهو بصحيح مسلم \ النووي ، ص 193 ، 194 ج 17 ، المطبعة المصرية

                                                                                                                              قال الإمام مسلم : (حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا وكيع . ح [ ص: 721 ] وحدثنا عبيد الله بن معاذ ، حدثنا أبي -كلاهما عن شعبة- . ح وحدثنا محمد بن المثنى ، ومحمد بن بشار -واللفظ لابن المثنى- ؛ قال : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة : عن المغيرة بن النعمان ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ؛ قال : قام فينا رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، خطيبا بموعظة ؛ فقال : «يا أيها الناس ! إنكم تحشرون -إلى الله- حفاة عراة غرلا ، كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين .

                                                                                                                              ألا ! وإن أول الخلائق يكسى -يوم القيامة- : إبراهيم «عليه السلام » .

                                                                                                                              ألا ! وإنه سيجاء برجال من أمتي ، فيؤخذ بهم ذات الشمال . فأقول : يا رب ! أصحابي .

                                                                                                                              فيقال : إنك لا تدري : ما أحدثوا بعدك .

                                                                                                                              فأقول -كما قال العبد الصالح- : وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم .

                                                                                                                              قال : فيقال لي : إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم ، منذ فارقتهم » .


                                                                                                                              وفي حديث وكيع ، ومعاذ : «فيقال : إنك لا تدري : ما أحدثوا بعدك » ) .

                                                                                                                              [ ص: 722 ]

                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                              (الشرح)

                                                                                                                              (عن ابن عباس رضي الله عنهما ؛ قال : قام فينا رسول الله ، صلى الله عليه وآله وسلم ، خطيبا بموعظة ؛ فقال : يا أيها الناس ! إنكم محشورون إلى الله ، عز وجل حفاة ) جمع حاف . (عراة ) : جمع عار (غرلا ) بضم الغين وإسكان الراء : غير مختونين . جمع «أغرل » وهو الذي لم يختن ، وبقيت معه غرلته ، وهي قلفته : وهي الجلدة التي تقطع في الختان . قال الأزهري وغيره : هو الأغرل ، والأرغل ، والأغلف ، والأقلف ، والأعرم . وجمعه : (غرل ، ورغل ، وغلف ، وقلف ، وعرم ) .

                                                                                                                              (كما بدأنا أول خلق نعيده ) المقصود : أنهم يحشرون كما خلقوا ، لا شيء معهم ، ولا يفقد منهم شيء ، حتى الغرلة تكون معهم .

                                                                                                                              قال في (فتح البيان ) أي : نعيده بعد إعدامه ، تشبيها للإعادة بالابتداء : في تناول القدرة لهما على السواء . أي : كما بدأناهم في بطون أمهاتهم ، وأخرجناهم إلى الأرض - حفاة ، عراة ، غرلا - ؛ كذلك نعيدهم يوم القيامة . وإنما خص أول الخلق بالذكر : تصويرا للإيجاد عن العدم .

                                                                                                                              [ ص: 723 ] والمقصود : بيان صحة الإعادة ، بالقياس على المبدأ ، لشمول الإمكان الذي لهما (وعدا علينا ) : إنجازه ، والوفاء به ، وهو البعث والإعادة .

                                                                                                                              (إنا كنا فاعلين ) أي : محققين هذا الوعد ، فاستعدوا له ، وقدموا صالح الأعمال : للخلاص من هذه الأهوال .

                                                                                                                              قال الزجاج : معناه : إنا كنا قادرين على ما نشاء . وقيل : فاعلين ما وعدناكم . ومثله قوله : وكان وعدا مفعولا .

                                                                                                                              (ألا ؛ وإن أول الخلائق يكسى - يوم القيامة - : إبراهيم عليه السلام ) لأنه أول من ألقي في النار عريانا في سبيل الله ، فيكسى ، قبل الخلائق كلهم : في الآخرة . (ألا ؛ وإنه سيجاء برجال من أمتي ، فيؤخذ بهم : ذات الشمال ، فأقول : يا رب ! أصحابي . فيقال : إنك لا تدري : ما أحدثوا بعدك ) .

                                                                                                                              قال النووي : هذا الحديث ، سبق شرحه في كتاب الطهارة . وهذه الرواية : تؤيد قول من قال - هناك - المراد به : الذين ارتدوا عن الإسلام . انتهى .

                                                                                                                              وحاصل ما شرح - في الجزء الأول - في كتاب الطهارة : اختلف [ ص: 724 ] العلماء في المراد به على أقوال ؛

                                                                                                                              أحدها : أن المراد به : المنافقون والمرتدون ، فيجوز : أن يحشروا بالغرة والتحجيل ، فيناديهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم : بالسيماء التي عليهم ، فيقال : ليس هؤلاء مما وعدت بهم . إن هؤلاء بدلوا بعدك . أي : لم يموتوا على ما ظهر من إسلامهم .

                                                                                                                              والثاني : أن المراد : من كان في زمن النبي ، صلى الله عليه وآله وسلم ، ثم ارتد بعده . فيناديهم النبي ، صلى الله عليه وآله وسلم ، وإن لم يكن عليهم سيماء الوضوء ، لما كان يعرفه صلى الله عليه وآله وسلم في حياته : من إسلامهم . فيقال : ارتدوا بعدك .

                                                                                                                              الثالث : أن المراد به : أصحاب المعاصي والكبائر ، الذين ماتوا على التوحيد ، وأصحاب البدع الذين لم يخرجوا ببدعتهم عن الإسلام . (وعلى هذا القول ، لا يقطع لهؤلاء الذين يذادون : بالنار ) بل يجوز : أن يذادوا . عقوبة لهم ، ثم يرحمهم الله سبحانه وتعالى ، فيدخلهم الجنة بغير عذاب .

                                                                                                                              وقال الإمام الحافظ « أبو عمرو بن عبد البر » : كل من أحدث في الدين ، فهو من المطرودين عن الحوض : كالخوارج ، والروافض ، وسائر أصحاب الهواء . قال : وكذلك الظلمة ، المسرفون في الجور وطمس الحق ، والمعلنون بالكبائر .

                                                                                                                              قال : وكل هؤلاء يخاف عليهم : أن يكونوا ممن عنوا بهذا الخبر . والله أعلم . انتهى .

                                                                                                                              [ ص: 725 ] (فأقول - كما قال العبد الصالح ) يعني : عيسى عليه السلام : ( وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم ، فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم ، وأنت على كل شيء شهيد . إن تعذبهم فإنهم عبادك ، وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ) قاله على وجه الاستعطاف ، كما يستعطف السيد بعبده . ولهذا لم يقل : «إن تعذبهم ، فإنهم عصوك » .

                                                                                                                              وقيل : قاله على وجه التسليم لأمر الله ، والانقياد له . والأول : أشبه . والله أعلم .

                                                                                                                              (قال : فيقال لي : إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم ، مذ فارقتهم ) . تقدم الكلام على هذه الجملة قريبا ، ويدخل في ذلك : كل من ارتد على عقبه من أهل البدعات والمحدثات : (في العقائد ، والأعمال ) ومن هؤلاء : المقلدة ، الذين يرجحون أقوال الرجال : على أقوال الله ، وأقوال رسوله ، صلى الله عليه وآله وسلم . ويذرون النصوص ، ويتمسكون بالقياسات (في مقابلتها ) ، ويأخذون العقائد : من كتب المتكلمين ، ولا يأخذونها : من دواوين السنة ، ولا من كتاب رب العالمين .




                                                                                                                              الخدمات العلمية