الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( ثم يتجرد عن المخيط في إزار ورداء أبيضين ونعلين ، لما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { : ليحرم أحدكم في إزار ورداء ونعلين } والمستحب أن يكون ذلك بياضا ، لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { البسوا من ثيابكم البياض فإنها من خيار ثيابكم ، وكفنوا فيها موتاكم } والمستحب أن يتطيب في بدنه ، لما روت عائشة رضي الله عنها قالت : " كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم ، ولحله قبل أن يطوف بالبيت . ولا يطيب ثوبه لأنه ربما نزعه للغسل فيطرحه على بدنه ، فتجب به الفدية ، والمستحب أن يصلي ركعتين لما روى ابن عباس وجابر رضي الله عنهم { أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بذي الحليفة ركعتين ثم أحرم } وفي الأفضل قولان : ( قال ) في القديم : الأفضل أن يحرم عقب الركعتين ، لما روى ابن عباس { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل في دبر الصلاة } ( وقال ) في الأم : الأفضل أن يحرم إذا انبعثت به راحلته إن كان راكبا ، وإذا ابتدأ السير إن كان راجلا ، لما روى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إذا رحتم إلى منى متوجهين فأهلوا بالحج } ولأنه إذا لبى مع السير وافق قوله فعله ، وإذا لبى في مصلاه لم يوافق قوله فعله ، فكان ما قلناه أولى ) .

                                      [ ص: 235 ]

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) حديث ابن عمر : { ليحرم أحدكم في إزار ورداء ونعلين } حديث غريب ، ويغني عنه ما ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : { انطلق النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة بعدما ترجل وادهن ولبس إزاره ورداءه هو وأصحابه ولم ينه عن شيء من الأزر والأردية يلبس إلا المزعفرة التي تردع الجلد ، حتى أصبح بذي الحليفة ركب راحلته ، حتى [ ص: 224 ] استوى على البيداء أهل هو وأصحابه } ثم ذكر تمام الحديث ، رواه البخاري في صحيحه وقوله ( تردع الجلد ) أي تلطخه إذا لبست ، وهو بفتح التاء المثناة فوق وإسكان الراء ثم دال مفتوحة ثم عين مهملتين قال أهل اللغة : الردع بالعين المهملة أثر من الطيب كالزعفران ، والردغ بالمعجمة الطين ، وقال أبو بكر بن المنذر : ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { وليحرم أحدكم في إزار ورداء ونعلين } قال : وكان سفيان الثوري ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي ومن تبعهم يقولون : يلبس الذي يريد الإحرام إزارا ورداء ، هذا كلام ابن المنذر وثبت في الصحيحين من حديث ابن عميرة وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيمن لم يجد النعلين : { فليلبس خفين ، وليقطعهما أسفل من الكعبين } وثبت فيهما عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { من لم يجد الإزار فليلبس السراويل ، ومن لم يجد النعلين فليلبس الخفين } ومثله في صحيح مسلم من رواية جابر ، والله أعلم .

                                      ( وأما ) حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { البسوا من ثيابكم البياض فإنها من خيار ثيابكم ، وكفنوا فيها موتاكم } فحديث صحيح رواه أبو داود والترمذي وغيرهما بأسانيد صحيحة ، قال الترمذي : هو حديث حسن صحيح رواه أبو داود في كتاب اللباس والترمذي وابن ماجه في الجنائز ، وسبق ذكره وبيانه في المهذب في باب هيئة الجمعة وغيره ( وأما ) حديث عائشة : { كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم ، ولحله قبل أن يطوف بالبيت } فرواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من طرق كثيرة ، وهو حديث مستفيض مشهور جدا .

                                      وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عائشة أيضا من طرق قالت : { كأنما أنظر إلى وبيص الطيب في مفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم } وفي بعض الروايات " مفارق " وفي بعضها " { وبيص المسك } [ ص: 225 ] والمفارق جمع مفرق - بكسر الراء - هو وسط الرأس حيث ينفرق الشعر يمينا وشمالا ، والوبيص - بالصاد المهملة وهو البريق واللمعان .

                                      ( وأما ) قوله : إن ابن عباس وجابرا رويا { صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ركعتين بذي الحليفة ، } فحديث جابر صحيح رواه مسلم في صحيحه في جملة حديث جابر الطويل في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم وهو حديث عظيم الفوائد ، فيه مناسك ، ومعظمها ذكر فيه كل ما فعله صلى الله عليه وسلم من حين خروجه إلى فراغه ، رواه مسلم وأبو داود وغيرهما بطوله ، ولم يروه البخاري بطوله ( وأما ) حديث ابن عباس في صلاة الركعتين فرواه أبو داود وغيره وإسناده ليس بقوي ، وفي حديث جابر كفاية عنه ، وثبت في صحيح البخاري عن ابن عمر { أنه كان يأتي مسجد ذي الحليفة فيصلي ركعتين ثم يركب فإذا استوت به راحلته قائمة أهل ثم قال : هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم } .

                                      ( وأما ) حديث ابن عباس { أن النبي صلى الله عليه وسلم أهل في دبر الصلاة } : فرواه أبو داود والترمذي والنسائي والبيهقي وغيرهم قال البيهقي : هو ضعيف الإسناد ; لأن في إسناده خصيفا الجزري ، قال : وهو غير قوي ، وكذا قاله غيره وقال الترمذي : هو حديث حسن ، ( وأما ) قول البيهقي : إن خصيفا غير قوي فقد خالفه فيه كثيرون من الحفاظ والأئمة المتقدمين في البيان فوثقه يحيى بن معين إمام الجرح والتعديل ، ووثقه أيضا محمد بن سعد . وقال النسائي فيه : هو صالح ، وقول الترمذي : إنه حسن لعله اعتضد عنده فصار بصفة الحسن التي سبق بيانها في مقدمة هذا الشرح .

                                      [ ص: 226 ] وأما ) حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إذا رحتم إلى منى متوجهين فأهلوا بالحج } فصحيح رواه مسلم في صحيحه بمعناه .

                                      وثبت في صحيح البخاري { أن إهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذي الحليفة حين استوت راحلته } وثبت في الصحيحين عن ابن عمر قال : { لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يهل حتى تنبعث به راحلته } وفي الصحيحين عن ابن عمر أيضا { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أدخل رجله في الغرز واستوت به ناقته أهل من مسجد ذي الحليفة } الغرز - بفتح الغين المعجمة وإسكان الراء وبعدها زاي - ركاب ، وكان كور البعير إذا كان من جلد أو خشب ، فإن كان من حديد فهو ركاب ، وقيل يسمى غرزا من أي شيء كان . وثبت في الصحيحين عن ابن عمر أيضا { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل حين استوت به راحلته قائمة } وثبت في صحيح البخاري عن أنس { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بات بذي الحليفة فلما أصبح واستوت راحلته أهل } وعن ابن عباس { أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بذي الحليفة ثم ركب راحلته فلما استوت به على البيداء أهل بالحج } رواه مسلم ، فهذه أحاديث صحيحة قاطعة بترجح الإحرام عند ابتداء السير والله أعلم .

                                      ومن قال بترجح الإحرام عقب الصلاة احتج بحديث ابن عباس السابق ، وقد أشار ابن عباس في رواية له رواها البيهقي بإسناده عن محمد بن إسحاق عن خصيف عن سعيد بن جبير قال : { قلت لابن عباس : [ ص: 227 ] عجبت لاختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في إهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أوجب ، فقال : إني لأعلم الناس بذلك ، إنها إنما كانت حجة واحدة من رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن هناك اختلفوا ، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجا فلما صلى في مسجده بذي الحليفة ركعتيه أوجبه في مجلسه أهل بالحج حين فرغ من ركعتيه ، فسمع ذلك منه أقوام فحفظته عنه ، ثم ركب فلما استقلت به ناقته أهل وأدرك ذلك منه أقوام ، وذلك أن الناس كانوا يأتون أرسالا فسمعوه حين استقلت به ناقته يهل فقالوا : إنما أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استقلت به ناقته ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما علا على شرف البيداء أهل وأدرك ذلك منه أقوام فقالوا : أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين علا شرف البيداء وأيم الله لقد أوجب في مصلاه ، وأهل حين استقلت به ناقته ، وأهل حين علا شرف البيداء } قال البيهقي : خصيف غير قوي وقد سبق قريبا ذكر الاختلاف فيه ، والله أعلم

                                      أما أحكام الفصل ففيه مسائل : ( إحداها ) السنة أن يحرم في إزار ورداء ونعلين ، هذا مجمع على استحبابه كما سبق في كلام ابن المنذر وفي أي شيء أحرم جاز إلا الخف ونحوه والمخيط كما سيأتي تفصيله إن شاء الله - - تعالى - ، قال أصحابنا : ويستحب كون الإزار والرداء أبيضين ، لما ذكره المصنف قال القاضي أبو الطيب وابن الصباغ والمتولي وصاحب البيان وآخرون من الطريقتين : الثوب الجديد في هذا أفضل من المغسول ، قالوا : فإن لم يكن جديد فمغسول ، ( وأما ) قول المصنف جديدين ونظيفين ، فقد يوهم أنهما سواء في الفضيلة ، ولكن يحمل كلامه على موافقة الأصحاب وتقدير كلامه جديدين وإلا نظيفين قال أصحابنا : ويكره له الثوب المصبوغ وقد ذكره المصنف في آخر هذا الباب ، وهناك ينبسط الكلام فيه بأدلته إن شاء الله - - تعالى -



                                      [ ص: 228 ] الثانية ) يستحب أن يتطيب في بدنه عند إرادة الإحرام سواء الطيب الذي يبقى له جرم بعد الإحرام والذي لا يبقى ، وسواء الرجل والمرأة ، هذا هو المذهب ، وبه قطع جماهير الأصحاب في جميع الطرق ، وحكى الرافعي وجها أن التطيب مباح لا مستحب ، وحكى القاضي أبو الطيب وآخرون قولا أنه لا يستحب للنساء التطيب بحال ، وحكى القاضي أبو الطيب وآخرون قولا أنه يحرم عليهن التطيب بما يبقى عينه ، وحكى صاحب البيان وغيره وجها في تحريم ما يبقى عينه على الرجل والمرأة وليس بشيء ، والصواب استحبابه مطلقا . قال القاضي أبو الطيب : هذا هو المنصوص للشافعي في كتبه ، قال : وبه قطع عامة الأصحاب . وسنبسط أدلته في فرع مذاهب العلماء إن شاء الله - - تعالى - .

                                      قال أصحابنا : وسواء في استحبابه المرأة الشابة والعجوز ، وقالوا : والفرق بينه وبين الجمعة أنه يكره للنساء الخروج إليها متطيبات لأن مكان الجمعة يضيق ، وكذلك وقتها فلا يمكنها اجتناب الرجال بخلاف النسك . قال أصحابنا : فإذا تطيب فله استدامته بعد الإحرام بخلاف المرأة إذا تطيبت ثم لزمتها عدة فإنه يلزمها إزالة الطيب في أحد الوجهين ، لأن العدة حق آدمي فالمضايقة فيه أكثر . ولو أخذ طيبا من موضعه بعد الإحرام ورده إليه أو إلى موضع آخر لزمته الفدية على المذهب ، وبه قطع الأكثرون ، وقيل : فيه قولان ، ولو انتقل الطيب من موضع إلى موضع بالعرق فوجهان : ( أصحهما ) لا شيء عليه لأنه تولد من مباح ( والثاني ) عليه الفدية إن تركه لخروجه عن محل الإذن ; لأنه حصل بغير اختيار فصار كالناسي ، ولأن حصوله هناك تولد من فعله ، فهذا الوجه ضعيف عن الأصحاب . ولو مسه بيده عمدا فعليه الفدية ، ويكون مستعملا للطيب ابتداء .



                                      ( الثالثة ) اتفق أصحابنا على أنه لا يستحب تطييب ثوب المحرم عند إرادة الإحرام ، وفي جواز تطييبه طريقان : ( أصحهما ) وبه قطع المصنف والعراقيون جوازه ، فإذا طيبه ولبسه ثم أحرم واستدام لبسه جاز ولا فدية ، [ ص: 229 ] فإن نزعه ثم لبسه لزمه الفدية لأنه لبس ثوبا مطيبا بعد إحرامه ، ( والطريق الثاني ) طريقة الخراسانيين فيه ثلاثة أوجه : ( أصحها ) الجواز كما سبق قياسا على البدن ، ( والثاني ) التحريم ; لأنه يبقى على الثوب ولا يستهلك ويلبسه أيضا بعد نزعه ، فيكون مستأنفا للطيب في الإحرام ، ( والثالث ) يجوز بما لا يبقى له جرم ولا يجوز بغيره . قالوا : فإن قلنا : يجوز فنزعه ثم لبسه ففي وجوب الفدية وجهان : ( أصحهما ) عند البغوي وغيره الوجوب ، كما لو أخذ الطيب من بدنه ثم رده إليه ، ( والثاني ) لا فدية ; لأن العادة في الثوب النزع واللبس فصار معفوا عنه . وحكى المتولي في طيب الثياب قولين : ( أحدهما ) يستحب كما يستحب في البدن ، ( والثاني ) أنه محرم ، وهذا الذي ذكره من الاستحباب غريب جدا ، هذا كله في تطيب ثياب الإحرام .

                                      ( أما ) إذا طيب البدن فتعطر ثوبه فلا خلاف أنه ليس بحرام ، وأنه لا فدية عليه ، والله أعلم .



                                      ( فرع ) قال الشافعي في الأم والمختصر : أحب للمرأة أن تختضب للإحرام واتفق الأصحاب على استحباب الخضاب لها ، قال أصحابنا : وسواء كان لها زوج أم لا لأن هذا مستحب بسبب الإحرام فلا فرق بينهما ، ( فأما ) إذا كانت تريد الإحرام - فإن كان لها زوج - استحب لها الخضاب في كل وقت ; لأنه زينة وجمال ، وهي مندوبة إلى الزينة والتجمل لزوجها كل وقت ، وإن كانت غير ذات زوج ولم ترد الإحرام كره لها الخضاب من غير عذر ; لأنه يخاف به الفتنة عليها وعلى غيرها بها ، وهذا كله متفق عليه عند أصحابنا ، وسواء في استحباب الخضاب عند الإحرام العجوز والشابة كما سبق في التطيب . قال أصحابنا : وحيث اختضبت تخضب يديها إلى الكوعين ولا تزيد عليه ; لأن ذلك القدر هو الذي يظهر منها ، قال أصحابنا : وتخضب الكفين تعميما ، ولا تطرف الأصابع ولا تنقش ولا تسود وقد سبق بيان هذا في باب طهارة البدن . واتفق أصحابنا على أن الرجل منهي عن الخضاب ، قالوا : وكذلك الخنثى المشكل والله أعلم .

                                      [ ص: 230 ] قال أصحابنا : ويستحب للمرأة عند الإحرام أن تمسح وجهها أيضا بشيء من الحناء قال : والحكمة في ذلك وفي خضاب كفها أن يستتر لون البشرة ، لأنها تؤمر بكشف الوجه وقد ينكشف الكفان أيضا . قال أصحابنا : ولأن الحناء من زينة النساء فاستحب عند الإحرام كالطيب وترجيل الشعر ، وقد ثبت في الصحيحين عن عائشة قالت : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : { دعي عمرتك وانفضي رأسك وامتشطي وأهلي بالحج } وروى أبو داود في سننه بإسناده عن عائشة قالت : { كنا نخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة فنضمد جباهنا بالمسك المطيب عند الإحرام فإذا عرقت إحدانا سالت على وجهها فيراه النبي فلا ينهانا } هذا حديث حسن رواه أبو داود بإسناد حسن . قال أصحابنا : ويكره للمرأة الخضاب بعد الإحرام ; لأنه من الزينة وهي مكروهة للمحرم ; لأنه أشعث أغبر . قال أصحابنا : فإذا اختضبت في الإحرام فلا فدية ; لأن الحناء ليس بطيب عندنا ، فإن اختضبت ولفت على يديها الخرق قال الشافعي في الأم : رأيت أن تفتدي ، وقال في الإملاء : لا يبين لي أن عليها الفدية قال ، القاضي أبو الطيب وصاحب الشامل ، والأصحاب هذا الاختلاف من قول الشافعي مع تحريمه القفازين من هذين الكتابين ، يدل على أن قوله مختلف في سبب تحريم القفازين فالموضع الذي أوجب فيه الفدية في الخرقة الملفوفة يدل على أن تحريم القفازين إنما كان لأمر إحرام المرأة يتعلق بوجهها وكفيها ، وإنما جوز لها ستر كفيها بكميها للحاجة إلى ذلك ، ولأنه لا يمكن الاحتراز من ذلك ودليل ذلك أن الكفين ليسا عورة فوجب كشفهما منها كالوجه .

                                      قالوا : والموضع الذي لم يوجب فيه الفدية في الخرق يدل على أنه إنما حرم القفازين لأنهما معمولان على قدر الكفين ، كما يحرم على الرجل الخفان . ودليل هذا أنه لما تعلق إحرامها بعضو تعلق تحريم المخيط بغيره [ ص: 231 ] كالرجل ، ولا يرد على هذا سائر بدنها لأنه عورة ، هذا نقل القاضي أبي الطيب وصاحب الشامل والأكثرين ، ولم يحك الشيخ أبو حامد نصه في الإملاء ، وإنما حكى نصه في الأم ، قال : إن لم يشد الخرقة فلا فدية وإلا فقولان كالقفازين ، وقطع آخرون بأن لف الخرق على يديها مع الحناء أو دونه لا فدية فيه . والحاصل ثلاث طرق : ( المذهب ) أن لف الخرق مع الحناء وغيره على يدي المرأة لا فدية فيه ، ( والثاني ) في وجوبها قولان ، ( والثالث ) إن لم تشدها لا فدية وإلا فقولان ، وسنعيد المسألة في فصل تحريم اللباس من هذا الباب إن شاء الله - - تعالى - .



                                      ( الرابعة ) قال أصحابنا : يستحب أن يتأهب للإحرام مع ما سبق بحلق العانة ونتف الإبط ، وقص الشارب ، وقلم الأظفار ، وغسل الرأس بسدر أو خطمي ونحوهما ، وعجب كون المصنف أهمل هذا في المهذب ، مع أنه ذكره في التنبيه ، ومع أنه مشهور في كتب المذهب ويستحب أن يلبد رأسه بصمغ أو خطمي أو عسل ونحوها ، والتلبيد أن يجعل في رأسه شيئا من صمغ ونحوه ليتلبد شعره فلا يتولد فيه القمل ولا يتشعث في مدة الإحرام . ودليل استحبابه الأحاديث الصحيحة المشهورة في ذلك ، ( منها ) حديث ابن عمر قال : { سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يهلل ملبدا } رواه البخاري ومسلم ، وعن ابن عباس { أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المحرم الذي خر من بعيره ميتا : اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه ، ولا تمسوه بطيب ، ولا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبدا } رواه البخاري ومسلم هكذا " { ملبدا } " فأما البخاري فرواه هكذا في رواية له في كتاب الجنائز ورواه مسلم في كتاب الحج هكذا من طرق ، ورويناه من أكثر الطرق " ملبيا " ولا مخالفة ، وكلاهما صحيح ، وعن حفصة رضي الله عنها { أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أزواجه أن يحللن عام حجة [ ص: 232 ] الوداع ، قالت : فقلت : ما يمنعك أن تحل فقال : إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر هديي } رواه البخاري ومسلم .



                                      ( الخامسة ) يستحب أن يصلي ركعتين عند إرادة الإحرام ، وهذه الصلاة مجمع على استحبابها ، قال القاضي حسين والبغوي والمتولي والرافعي وآخرون : لو كان في وقت فريضة فصلاها كفى عن ركعتي الإحرام كتحية المسجد تندرج في الفريضة وفيما قالوه نظر ; لأنها سنة مقصودة ، فينبغي أن لا تندرج كسنة الصبح وغيرها ، قال أصحابنا : فإن كان في الميقات مسجد استحب أن يصليهما فيه ، ويستحب أن يقرأ فيهما بعد الفاتحة في الأولى : { قل يا أيها الكافرون } وفي الثانية : { قل هو الله أحد } فإن كان إحرامه في وقت من الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها فالأولى انتظار زوال وقت الكراهة ثم يصليها ، فإن لم يمكنه الانتظار فوجهان : ( المشهور ) الذي قطع به الجمهور : تكره الصلاة ، ولا يكون الإحرام سببا لأنه متأخر وقد لا يقع فكرهت الصلاة كصلاة الاستخارة والاستسقاء ، ( والثاني ) لا يكره حكاه البغوي وغيره ، وقطع به البندنيجي لأن سببها إرادة الإحرام ، وقد وجدت ، وقد سبق بيان المسألة في باب الساعات التي نهي عن الإحرام فيها ، والله أعلم .



                                      ( السادسة ) هل الأفضل أن يحرم عقب صلاة الإحرام وهو جالس ؟ أم إذا انبعثت به راحلته متوجهة إلى مقصده حين ابتداء السير ؟ فيه قولان وهما مشهوران ، ذكرهما المصنف بدليلهما : ( القديم ) عقب الصلاة ، ( والأصح ) نصه في الأم أن الأفضل حين تنبعث به دابته إلى جهة مكة إن كان راكبا ، أو حين يتوجه إلى الطريق إن كان ماشيا ، قال أصحابنا : وعلى القولين يستحب استقبال الكعبة عند الإحرام لحديث ابن عمر في صحيح البخاري وغيره المصرح بذلك ، والله أعلم .



                                      ( فرع ) في مذاهب العلماء في الطيب عند إرادة الإحرام . قد [ ص: 233 ] ذكرنا أن مذهبنا استحبابه ، وبه قال جمهور العلماء من السلف والخلف والمحدثين والفقهاء ، منهم سعد بن أبي وقاص وابن عباس وابن الزبير ومعاوية وعائشة وأم حبيبة وأبو حنيفة والثوري وأبو يوسف وأحمد وإسحاق وأبو ثور وابن المنذر وداود وغيرهم . وقال عطاء والزهري ومالك ومحمد بن الحسن : يكره ، قال القاضي عياض : حكي أيضا عن جماعة من الصحابة والتابعين ، واحتج لهم بحديث يعلى بن أمية قال : { كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه رجل وهو بالجعرانة وعليه جبة ، وعليه أثر الخلوق فقال : يا رسول الله كيف تأمرني أن أصنع في عمرتي ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : اخلع عنك هذه الجبة ، واغسل عنك أثر الخلوق ، واصنع في عمرتك كما تصنع في حجك } رواه البخاري ومسلم ، قالوا : ولأنه في معنى المتطيب بعد إحرامه يمنع منه . واحتج أصحابنا بحديثي عائشة رضي الله عنها السابقين ، وهما صحيحان رواهما البخاري ومسلم كما سبق ، ; ولأن الطيب معنى يزاد للاستدامة فلم يمنع الإحرام من استدامته كالنكاح .

                                      ( والجواب ) عن حديث يعلى من أوجه : ( أحدها ) أن هذا الخلوق كان في الجبة لا في البدن ، والرجل منهي عن التزعفر في كل الأحوال ، قال أصحابنا : ويستوي في النهي عن المزعفر الرجل الحلال والمحرم ، وقد سبق بيانه واضحا في باب ما يكره لبسه .

                                      ( الجواب الثاني ) أن خبرهم متقدم ، وخبرنا متأخر فكان العمل على المتأخر ، وإنما قلنا ذلك ; لأن خبرهم بالجعرانة كان عقب فتح مكة سنة ثمان من الهجرة ، وخبرنا كان عام حجة الوداع بلا شك ، وحجة الوداع كانت سنة عشر من الهجرة ، وإنما قلنا : إنه كان عام حجة الوداع ; لأنه صلى الله عليه وسلم لم يحج بعد الهجرة غيرها بإجماع .

                                      ( فإن قيل ) : فلعل عائشة أرادت بقولها : " أطيبه لإحرامه " أي إحرامه للعمرة ، ( قلنا ) : هذا غلط [ ص: 234 ] وغباوة ظاهرة ، وجهالة بينة ; لأنها قالت : " كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه حين يحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت ولا خلاف أن الطيب يحرم على المعتمر قبل الطواف وبعده حتى تفرغ عمرته ، وإنما يباح الطيب قبل طواف الزيارة في الحج فتعين ما قلناه .

                                      ( الجواب الثالث ) أنه يحتمل أنه استعمل الطيب بعد إحرامه فأمر بإزالته ، وفي هذا الجواب جمع بين الأحاديث فيتعين المصير إليه .

                                      ( وأما ) قولهم : هو في معنى المتطيب بعد إحرامه فيبطل بعد إحرامه فيبطل عليهم بالنكاح والله أعلم .

                                      واعلم أن القاضي عياضا وغيره ممن يقول بكراهة الطيب تأولوا حديث عائشة على أنه تطيب ثم اغتسل بعده فذهب الطيب قبل الإحرام قالوا : ويزيد هذا قولها في الرواية الأخرى : { طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم عند إحرامه ، ثم طاف على نسائه ، ثم أصبح محرما } هكذا ثبت في رواية لمسلم فظاهره أنه إنما تطيب لمباشرة نسائه ، ثم زال بالغسل بعده . لا سيما وقد نقل أنه كان يتطهر من كل واحدة قبل الأخرى ولا يبقى مع ذلك طيب ويكون قولها : " ثم أصبح ينضح طيبا " كما ثبت في رواية لمسلم أي أصبح ينضح طيبا قبل غسله ، وقد ثبت في رواية لمسلم أن ذلك الطيب كان ذريرة ، وهي مما يذهبه الغسل ، قالوا : وقولها : { كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم } المراد أثره لا جرمه هذا اعتراضهم ، والصواب ما قاله الجمهور من استحباب الطيب للإحرام لقولها : " طيبته لإحرامه " وهذا ظاهر في أن التطيب للإحرام لا للنساء ، ويعضده قولها : " كأني أنظر إلى وبيص الطيب " وتأويلهم المذكور غير مقبول لمخالفته الظاهر بغير دليل يحملنا عليه والله أعلم .



                                      [ ص: 235 ] فرع ) في مذاهبهم في الوقت المستحب للإحرام . قد ذكرنا أن الأصح عندنا أنه يستحب إحرامه عند ابتداء السير وانبعاث الراحلة ، وبه قال مالك والجمهور من السلف والخلف ، وقال أبو حنيفة وأحمد وداود : إذا فرغ من الصلاة . وقد سبقت الأحاديث الدالة للمذهبين واضحة ، والله أعلم . .




                                      الخدمات العلمية