الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى - ( وينوي الإحرام ولا يصح الإحرام إلا بالنية ، لقوله صلى الله عليه وسلم { : إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى } ولأنه عبادة محضة ، فلم يصح من غير نية كالصوم والصلاة . ويلبي لنقل الخلف عن السلف فإن اقتصر على النية ولم يلب أجزأه ، وقال [ أبو إسحاق ] وأبو عبد الله الزبيري : لا ينعقد إلا بالنية والتلبية ، كما لا تنعقد الصلاة إلا بالنية والتكبير ، والمذهب الأول ; ولأنها عبادة لا يجب النطق في آخرها ، فلم يجب [ النطق ] في أولها كالصوم ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) حديث { : إنما الأعمال بالنيات } رواه البخاري ومسلم من رواية عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وسبق بيانه واضحا في أول باب نية الوضوء ( وقوله ) : عبادة محضة احتراز من الأذان والعدة ونحوهما ، والسلف الصدر الأول والخلف من بعدهم ، وسبق بيانه في باب صفة الصلاة ، وأبو عبد الله الزبيري من أصحابنا المتقدمين سبق بيان حاله في باب الحيض ، ( وقوله ) : لا يجب النطق في آخرها احتراز من الصلاة .

                                      أما الأحكام فقال أصحابنا : ينبغي لمريد الإحرام أن ينويه بقلبه ، ويلفظ بذلك بلسانه ، ويلبي فيقول بقلبه ولسانه : نويت الحج وأحرمت به لله - تعالى - ، لبيك اللهم لبيك إلى آخر التلبية ، فهذا أكمل ما ينبغي له ، فالإحرام هو النية بالقلب ، وهي قصد الدخول في الحج أو العمرة أو كليهما هكذا صرح به البندنيجي والأصحاب ، ( وأما ) اللفظ بذلك فمستحب لتوكيد ما في القلب كما سبق في نية الصلاة ونية الوضوء ، فإن اقتصر على [ ص: 236 ] اللفظ دون القلب لم يصح إحرامه ، وإن اقتصر على القلب دون لفظ اللسان صح إحرامه كما سبق هناك ، ( أما ) إذا لبى ولم ينو فنص الشافعي في رواية الربيع أنه يلزمه ما لبى به ، وقال الشافعي في مختصر المزني : وإن لم يرد حجا ولا عمرة فليس بشيء ، وللأصحاب طريقان : ( المذهب ) القطع بأنه لا ينعقد إحرامه ، وتأولوا رواية الربيع على من أحرم مطلقا ، ثم تلفظ بنسك معين ولم ينوه فيجعل لفظه تعيينا للإحرام المطلق ، وبهذا الطريق قطع الجمهور .

                                      ( والطريق الثاني ) حكاه إمام الحرمين ومتابعوه أن المسألة على قولين : ( أصحهما ) لا ينعقد إحرامه ، ( والثاني ) ينعقد ويلزمه ما سمى ; لأنه التزمه بالتسمية ، قالوا : وعلى هذا لو أطلق التلبية انعقد الإحرام مطلقا يصرفه إلى ما شاء من حج أو عمرة أو قران ، وهذا القول ضعيف جدا بل غلط ، قال إمام الحرمين : لا أعرف له وجها ، قال : فإن تكلف له متكلف وقال : من ضرورة تجريد القصد إلى التلبية مع انتفاء سائر المقاصد سوى الإحرام أن يجزئ في الضمير ، قصد الإحرام ( قلنا ) : هذا ليس بشيء ; لأنه إذا فرض هذا فهو إحرام بنية ، ولا خلاف في انعقاد الإحرام بالنية ، ( قلت ) : والتأويل المذكور أولا ضعيف جدا لأنا سنذكر قريبا إن شاء الله - تعالى - أن الإحرام المطلق لا يصح صرفه إلا بنية ، ( واعلم ) أن نصه في مختصر المزني محتاج إلى قيد آخر ، ومعناه لم يرد حجا ولا عمرة ، ولا أصل الإحرام والله أعلم .

                                      هذا كله إذا لبى ولم ينو فلو نوى ولم يلب ففيه أربعة أوجه أو أقوال : ( الصحيح ) المشهور من نصوص الشافعي ، وبه قطع جمهور أصحابنا المتقدمين والمتأخرين ينعقد إحرامه ( والثاني ) لا ينعقد ، وهو قول أبي عبد الله الزبيري وأبي علي بن خيران وأبي علي بن أبي هريرة وأبي العباس بن القاص وحكاه إمام الحرمين وغيره قولا قديما ( والثالث ) حكاه الشيخ أبو محمد الجويني وغيره قولا للشافعي أنه لا ينعقد إلا بالتلبية [ ص: 237 ] أو سوق الهدي وتقليده والتوجه معه ( والرابع ) حكاه الحناطي وغيره قولا للشافعي أن التلبية واجبة وليست بشرط للانعقاد ، فإن نوى ولم يلب انعقد وأثم ولزمه دم ، والمذهب الأول ، فعلى المذهب قال الشافعي والأصحاب : الاعتبار بالنية ، فلو لبى بحج ونوى عمرة فهو معتمر ، وإن لبى بعمرة ونوى حجا فهو حاج ، وإن لبى بأحدهما ونوى القران فقارن ، ولو لبى بهما ونوى أحدهما انعقد ما نوى فقط ، وقد سبق هذا مع نظائره في نية الوضوء .

                                      ( فرع ) قد ذكرنا أن مذهبنا المشهور أن الإحرام ينعقد بالنية دون التلبية ، ولا ينعقد بالتلبية بلا نية ، وقال داود وجماعة من أهل الظاهر : ينعقد بمجرد التلبية قال داود : ولا تكفي النية بل لا بد من التلبية ورفع الصوت بها . وقال أبو حنيفة : لا ينعقد الإحرام إلا بالنية مع التلبية أو مع سوق الهدي واحتج لهم { بأن النبي صلى الله عليه وسلم لبى وقال صلى الله عليه وسلم : لتأخذوا عني مناسككم } . واحتج داود لوجوب رفع الصوت بالتلبية بحديث خلاد بن السائب الأنصاري عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي ومن معي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال - أو قال بالتلبية - } رواه أحمد بن حنبل وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه وغيرهم بأسانيد صحيحة ، قال الترمذي : هو حديث حسن صحيح ، وهذا لفظ أبي داود ، ولفظ النسائي : { جاءني جبريل فقال لي : يا محمد مر أصحابك أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية } واستدل أصحابنا بما ذكره المصنف وحملوا أحاديث التلبية على الاستحباب والله أعلم .




                                      الخدمات العلمية