الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        صفحة جزء
                        النوع الثاني : إن الخبر ينقسم إلى صدق وكذب ، وخالف في ذلك القرافي ، وادعى أن العرب لم تضع الخبر إلا للصدق وليس لنا خبر كذب ، واحتمال الصدق والكذب إنما هو من جهة المتكلم ، لا من جهة الواضع ، ونظيره قولهم : الكلام يحتمل الحقيقة والمجاز ، وقد أجمعوا على أن المجاز ليس من الوضع الأول .

                        ثم استدل على ذلك باتفاق اللغويين والنحاة على أن معنى قولنا : ( قام زيد ) حصول القيام له في الزمن الماضي ، ولم يقل أحد : إن معناه صدور القيام ، أو عدمه ، وإنما احتماله له من جهة المتكلم لا من جهة اللغة .

                        وأجيب عنه : بأنه مصادم للإجماع على أن الخبر موضوع لأعم من ذلك ، وما ادعاه من أن معنى ( قام زيد ) حصول القيام له في الزمن الماضي باتفاق أهل اللغة والنحو ممنوع ; فإن مدلوله الحكم بحصول القيام ، وذلك يحتمل الصدق والكذب .

                        ويجاب عن هذا الجواب : بأن هذا الاحتمال إن كان من جهة المتكلم ، فلا يقدح على القرافي ، بل هو معترف به ، كما تقدم عنه ، وإن كان من جهة اللغة ، فذلك مجرد دعوى ، ويقوي ما قاله القرافي إجماع أهل اللغة قبل ورود الشرع ، وبعده على مدح الصادق وذم الكاذب ، ولو كان الخبر موضوعا لهما لما كان على من تكلم بما هو موضوع من بأس .

                        ثم اعلم أنه قد ذهب الجمهور إلى أنه لا واسطة بين الصدق والكذب ; لأن الحكم إما مطابق للخارج أو لا ، والأول الصدق ، والثاني الكذب ، وأثبت الجاحظ الواسطة بينهما ، فقال : الخبر إما مطابق للخارج أو لا مطابق ، والمطابق إما مع اعتقاده أنه مطابق أو لا ، وغير المطابق إما مع اعتقاد أنه غير مطابق أو لا ، والثاني منهما وهو ما ليس مع [ ص: 162 ] الاعتقاد ليس بصدق ولا كذب .

                        واستدل بقوله تعالى : أافترى على الله كذبا أم به جنة ووجه الاستدلال بالآية : أنه حصر ذلك في كونه افتراء ، أو كلام مجنون ، فعلى تقدير كونه كلام مجنون لا يكون صدقا ; لأنهم لا يعتقدون كونه صدقا ، وقد صرحوا بنفي الكذب عنه ; لكونه قسيمه ، وما ذاك إلا لأن المجنون لا يقول عن قصد واعتقاد .

                        وأجيب : بأن المراد من الآية أفترى أم لم يفتر ، فيكون مجنونا ; لأن المجنون لا افتراء له ، والكاذب من غير قصد يكون مجنونا ، أو المراد أقصد فيكون مجنونا ، أم لم يقصد فلا يكون خبرا .

                        والحاصل : أن الافتراء أخص من الكذب ، ومقابله قد يكون كذبا ، وإن سلم فقد لا يكون خبرا ، فيكون هذا حصرا للكذب في نوعيه ، الكذب عن عمد ، والكذب لا عن عمد .

                        قال الرازي في المحصول : والحق أن المسألة لفظية ; لأنا نعلم بالبديهة أن كل خبر فإما أن يكون مطابقا للمخبر عنه أو لا يكون مطابقا ، فإن أريد بالصدق الخبر المطابق كيف كان ، وبالكذب الخبر الغير مطابق كيف كان ، وجب القطع بأنه لا واسطة بين الصدق والكذب ، وإن أريد بالصدق ما يكون مطابقا مع أن المخبر يكون عالما بكونه مطابقا ، وبالكذب الذي لا يكون مطابقا مع أن المخبر يكون عالما بأنه غير مطابق ، كان هناك قسم ثالث بالضرورة ، وهو الخبر الذي لا يعلم قائله أنه مطابق أم لا ، فثبت أن المسألة لفظية انتهى .

                        وقال النظام ومن تابعه من أهل الأصول والفقهاء : إن الصدق مطابقة الخبر للاعتقاد ، والكذب عدم مطابقته للاعتقاد ، واستدل بالنقل والعقل .

                        [ ص: 163 ] أما النقل : فبقوله تعالى : إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون فإن الله سبحانه حكم عليهم في هذه الآية حكما مؤكدا بأنهم كاذبون في قولهم إنك لرسول الله مع مطابقته للواقع ، فلو كان للمطابقة للواقع أو لعدمها مدخل في الصدق والكذب ، لما كانوا كاذبين ; لأن خبرهم هذا مطابق للواقع ، ولا واسطة بين الصدق والكذب .

                        وأجيب : بأن التكذيب راجع إلى خبر تضمنه معنى نشهد إنك لرسول الله وهو أن شهادتهم هذه من صميم القلب وخلوص الاعتقاد ; لأن ذلك معنى الشهادة ، سيما بعد تأكيده بإن واللام والجملة الاسمية .

                        وأجيب أيضا : بأن التكذيب راجع إلى زعمهم الفاسد ، واعتقادهم الباطل ; لأنهم يعتقدون أنه غير مطابق للواقع .

                        وأجيب أيضا : بأن التكذيب راجع إلى حلفهم المدلول عليه بقوله : لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولا يخفى ما في الأجوبة من مزيد التكلف ، ولكنه ألجأ إلى المصير إليها الجمع بين الأدلة ، وأما العقل فمن وجهين :

                        الأول : أن من غلب على ظنه أن زيدا في الدار ، فأخبر عن كونه في الدار ، ثم ظهر أنه ما كان كذلك لم يقل أحد : إنه كذب في هذا الخبر ، بل يقال : أخطأ أو وهم .

                        الثاني : أن أكثر العمومات والمطلقات مخصصة ومقيدة ، فلو كان الخبر الذي لا يطابق المخبر عنه كذبا ، لتطرق إلى كلام الشارع .

                        واحتج الجمهور على ما قالوه من أن صدق الخبر مطابقته للواقع ، وكذبه عدمها بقوله سبحانه : لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد فكذبهم الله سبحانه مع كونهم يعتقدون ذلك ، وبقوله وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين والآيات في هذا المعنى كثيرة .

                        [ ص: 164 ] ويدل لذلك من السنة ما ثبت في الصحيحين من حديث سلمة بن الأكوع ، وقد قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم : إن جماعة من الصحابة قالوا : بطل عمل عامر لما رجع سيفه على نفسه فقتله ، فقال صلى الله عليه وآله وسلم : كذب من قال ذلك بل له أجره مرتين ، فكذبهم صلى الله عليه وآله وسلم مع أنهم أخبروا بما كان في اعتقادهم .

                        وفي البخاري وغيره أن أبا سفيان قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم الفتح : إن سعد بن عبادة قال : اليوم تستحل الكعبة ، فقال صلى الله عليه وآله وسلم : كذب سعد ولكن هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة .

                        واحتجوا بالإجماع على تكذيب اليهود والنصارى في كفرياتهم مع أنا نعلم أنهم يعتقدون صحة تلك الكفريات ، وكذلك وقع الإجماع على تكذيب الكافر إذا قال : الإسلام باطل ، مع مطابقته لاعتقاده .

                        والذي يظهر لي أن الخبر لا يتصف بالصدق إلا إذا جمع بين مطابقة الواقع والاعتقاد ، فإن خالفهما أو أحدهما فكذب ، فيقال في تعريفهما هكذا : الصدق ما طابق الواقع والاعتقاد . والكذب ما خالفهما أو أحدهما ، ولا يلزم على هذا ثبوت واسطة ; لأن المعتبر هو كلام العقلاء ، فلا يرد كلام الساهي والمجنون والنائم .

                        [ ص: 165 ] وجميع أدلة الأقوال المتقدمة تصلح للاستدلال بها على هذا ، ولا يرد عليه شيء مما ورد عليها .

                        فإن قلت : من جملة ما استدل به الجمهور الإجماع على تصديق الكافر إذا قال : الإسلام حق ، وهو إنما طابق الواقع لا الاعتقاد . قلت : ليس النزاع إلا في مدلول الصدق والكذب لغة ، لا شرعا ، وهذا الإجماع إنما هو من أهل الشرع ، لا من أهل اللغة ، والدليل الذي هو مستند إجماعهم شرعي لا لغوي ، ولكن الكذب المذموم شرعا هو المخالف للاعتقاد ، سواء طابق الواقع ، أو خالفه ، وذلك لا يمنع من صدق وصف ما خالف الواقع ، وطابق الاعتقاد بالكذب لغة .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية