الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
[ ص: 133 ] ترتيب الآيات والسور

ترتيب الآيات :

القرآن سور وآيات منها القصار والطوال ، والآية : هي الجملة من كلام الله المندرجة في سورة من القرآن ، والسورة : هي الجملة من آيات القرآن ذات المطلع والمقطع . وترتيب الآيات في القرآن الكريم توقيفي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وحكى بعضهم الإجماع على ذلك : منهم : الزركشي في " البرهان " ، وأبو جعفر بن الزبير في " مناسباته " إذ يقول : " ترتيب الآيات في سورها واقع بتوقيفه -صلى الله عليه وسلم- وأمره من غير خلاف بين المسلمين " وجزم السيوطي بذلك فقال : " الإجماع والنصوص المترادفة على أن ترتيب الآيات توقيفي لا شبهة في ذلك " فقد كان جبريل يتنزل بالآيات على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويرشده إلى موضعها من السورة أو الآيات التي نزلت قبل ، فيأمر الرسول كتبة الوحي بكتابتها في موضعها ويقول لهم : ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا أو كذا ، أو ضعوا آية كذا في موضع كذا ، كما بلغها أصحابه كذلك ، عن عثمان بن أبي العاص قال : " كنت جالسا عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ شخص ببصره ثم صوبه ، ثم قال : أتاني جبريل فأمرني أن أضع هذه الآية هذا الموضع من هذه السورة : إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى . . . إلى آخرها “ .

ووقف عثمان في جمع القرآن عند موضع كل آية من سورتها في القرآن ، ولو كانت منسوخة الحكم . لا يغيرها . وهذا يدل على أن كتابتها بهذا الترتيب توقيفية ، عن ابن الزبير قال : " قلت لعثمان : والذين يتوفون [ ص: 134 ] منكم ويذرون أزواجا ، قد نسختها الآية الأخرى ، فلم تكتبها أو تدعها ؟ 1 قال : " يا ابن أخي ، لا أغير شيئا من مكانه “ .

وجاءت الأحاديث الدالة على فضل آيات من سور بعينها ، ويستلزم هذا أن يكون ترتيبها توقيفيا . إذ لو جاز تغييرها لما صدقت عليها الأحاديث ، عن أبي الدرداء مرفوعا : " من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال " وفي لفظ : " من قرأ العشر الأواخر من سورة الكهف . . . “ ، كما جاءت الأحاديث الدالة على آية بعينها في موضعها ، عن عمر قال : ما سألت النبي -صلى الله عليه وسلم- عن شيء أكثر مما سألته عن الكلالة ، حتى طعن بأصبعه في صدري وقال : " تكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء “ .

وثبتت قراءة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لسور عديدة بترتيب آياتها في الصلاة ، أو في خطبة الجمعة ، كسورة البقرة وآل عمران والنساء ، وصح أنه قرأ " الأعراف " في المغرب ، وأنه كان يقرأ في صبح الجمعة :الم تنزيل الكتاب لا ريب " السجدة “ ، و هل أتى على الإنسان " الدهر “ وكان يقرأ سورة " ق " في الخطبة ، ويقرأ " الجمعة " و " المنافقون " في صلاة الجمعة .

وكان جبريل يعارض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالقرآن كل عام مرة في رمضان ، وعارضه في العام الأخير من حياته مرتين ، وكان ذلك العرض على الترتيب المعروف الآن .

وبهذا يكون ترتيب آيات القرآن كما هو في المصحف المتداول في أيدينا توقيفيا ، لا مراء في ذلك ، قال السيوطي بعد أن ذكر أحاديث السور المخصوصة : " تدل قراءته -صلى الله عليه وسلم- لها بمشهد من الصحابة على أن ترتيب آياتها توقيفي وما كان الصحابة ليرتبوا ترتيبا سمعوا النبي -صلى الله عليه وسلم- يقرأ على خلافه ، فبلغ ذلك مبلغ التواتر “ .

[ ص: 135 ] - ترتيب السور :

اختلف العلماء في ترتيب السور :

أ- فقيل : إنه توقيفي ، تولاه النبي -صلى الله عليه وسلم- كما أخبر به جبريل عن أمر ربه ، فكان القرآن على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- مرتب السور ، كما كان مرتب الآيات على هذا الترتيب الذي لدينا اليوم ، وهو ترتيب مصحف عثمان الذي لم يتنازع أحد من الصحابة فيه مما يدل على عدم المخالفة والإجماع عليه .

ويؤيد هذا الرأي : أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قرأ بعض السور مرتبة في صلاته ، روى ابن أبي شيبة : أنه عليه الصلاة والسلام كان يجمع المفصل في ركعة ، وروى البخاري عن ابن مسعود أنه قال في بني إسرائيل والكهف ومريم وطه والأنبياء : " إنهن من العتاق الأول ، وهن من تلادي " فذكرها نسقا كما استقر ترتيبها .

وروي من طريق ابن وهب عن سليمان بن بلال قال : " سمعت ربيعة يسأل : لم قدمت البقرة وآل عمران وقد نزل قبلهما بضع وثمانون سورة مكية ، وإنما أنزلتا بالمدينة ؟ فقال : قدمتا وألف القرآن على علم ممن ألفه به ، ثم قال : فهذا مما ينتهى إليه ولا يسأل عنه “ .

وقال ابن الحصار : " ترتيب السور ووضع الآيات مواضعها إنما كان بالوحي ، كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول : ضعوا آية كذا في موضع كذا ، وقد حصل اليقين من النقل المتواتر بهذا الترتيب من تلاوة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومما أجمع الصحابة على وضعه هكذا في المصحف “ .

ب- وقيل : إن ترتيب السور باجتهاد من الصحابة بدليل اختلاف مصاحفهم في الترتيب .

فمصحف " علي " كان مرتبا على النزول ، أوله : اقرأ ، ثم المدثر ، ثم ن والقلم ، ثم المزمل وهكذا . . . إلى آخر المكي والمدني .

[ ص: 136 ] وكان أول مصحف ابن مسعود : البقرة ، ثم النساء ، ثم آل عمران .

وأول مصحف أبي : الفاتحة ، ثم البقرة ، ثم النساء ، ثم آل عمران .

وقد روى ابن عباس قال : " قلت لعثمان : ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني ، وإلى براءة وهي من المئين ، فقرنتم بينهما . ولم تكتبوا بينهما سطر : بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتموها في السبع الطوال ، فقال : كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تنزل عليه السور ذوات العدد ، فكان إذا أنزل عليه شيء دعا بعض من يكتب فيقول : ضعوا هذه الآية في السورة التي فيها كذا وكذا ، وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة ، وكانت براءة من آخر القرآن نزولا ، وكانت قصتها شبيهة بقصتها فظننت أنها منها ، فقبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم يبين لنا أنها منها ، فمن أجل ذلك قرنت بينهما ، ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتها في السبع الطوال “ .

جـ- وقيل : إن بعض السور ترتيبه توقيفي وبعضها باجتهاد الصحابة : حيث ورد ما يدل على ترتيب بعض السور في عهد النبوة ، فقد ورد ما يدل على ترتيب السبع الطوال والحواميم والمفصل في حياته عليه الصلاة والسلام .

وروي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال : " اقرءوا الزهراوين : البقرة وآل عمران “ .

وروي : " أنه كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه ثم نفث فيهما ، فقرأ : قل هو الله أحد و " المعوذتين “ .

وقال ابن حجر : " ترتيب بعض السور على بعضها أو معظمها لا يمتنع أن يكون توقيفيا " واستدل على ذلك بحديث حذيفة الثقفي حيث جاء فيه : " فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : " طرأ علي حزب من القرآن فأردت أن لا أخرج حتى أقضيه " ، فسألنا أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قلنا : كيف تحزبون القرآن ، قالوا : نحزبه ثلاث سور ، وخمس سور ، وسبع سور ، وتسع سور ، وإحدى عشرة ، وثلاث عشرة ، [ ص: 137 ] وحزب المفصل من " ق " حتى نختم ، قال ابن حجر : فهذا يدل على أن ترتيب السور على ما هو في المصحف الآن كان على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال : ويحتمل أن الذي كان مرتبا حينئذ حزب المفصل خاصة بخلاف ما عداه " .

وإذا ناقشنا هذه الآراء الثلاثة يتبين لنا :

أن الرأي الثاني الذي يرى أن ترتيب السور باجتهاد الصحابة لم يستند إلى دليل يعتمد عليه .

فاجتهاد بعض الصحابة في ترتيب مصاحفهم الخاصة كان اختيارا منهم قبل أن يجمع القرآن جمعا مرتبا ، فلما جمع في عهد عثمان بترتيب الآيات والسور على حرف واحد واجتمعت الأمة على ذلك تركوا مصاحفهم ، ولو كان الترتيب اجتهاديا لتمسكوا بها .

وحديث سورتي : الأنفال والتوبة الذي روي عن ابن عباس يدور إسناده في كل رواياته على " يزيد الفارسي " الذي يذكره البخاري في الضعفاء ، وفيه تشكيك في إثبات البسملة في أوائل السور . كأن عثمان كان يثبتها برأيه وينفيها برأيه . ولذا قال فيه الشيخ أحمد شاكر في تعليقه عليه بمسند الإمام أحمد : " إنه حديث لا أصل له " . وغاية ما فيه أنه يدل على عدم الترتيب بين هاتين السورتين فقط .

أما الرأي الثالث الذي يرى أن بعض السور ترتيبها توقيفي ، وبعضها ترتيبه اجتهادي . فإن أدلته ترتكز على ذكر النصوص الدالة على ما هو توقيفي . أما القسم الاجتهادي فإنه لا يستند إلى دليل يدل على أن ترتيبه اجتهادي . إذ إن ثبوت التوقيفي بأدلته لا يعني أن ما سواه اجتهادي . مع أنه قليل جدا .

وبهذا يترجح أن ترتيب السور توقيفي كترتيب الآيات . قال أبو بكر [ ص: 138 ] بن الأنباري : " أنزل الله القرآن كله إلى سماء الدنيا ، ثم فرقه في بضع وعشرين ، فكانت السورة تنزل لأمر يحدث ، والآية جوابا لمستخبر ، ويوقف جبريل النبي -صلى الله عليه وسلم- على موضع الآية والسورة ، فاتساق السور كاتساق الآيات والحروف كله عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فمن قدم سورة أو أخرها فقد أفسد نظم القرآن " وقال الكرماني في " البرهان " : " ترتيب السور هكذا هو عند الله في اللوح المحفوظ على هذا الترتيب ، وعليه كان -صلى الله عليه وسلم- يعرض على جبريل كل سنة ما كان يجتمع عنده منه . وعرضه عليه في السنة التي توفي فيها مرتين . وكان آخر الآيات نزولا : واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ، فأمره جبريل أن يضعها بين آيتي الربا والدين “ .

ومال السيوطي إلى ما ذهب إليه البيهقي قال : " كان القرآن على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- مرتبا سوره وآياته على هذا الترتيب إلا الأنفال وبراءة لحديث عثمان " . .

"

التالي السابق


الخدمات العلمية