الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 50 ) مسألة قال : ( ولا يتوضأ بسؤر كل بهيمة لا يؤكل لحمها ، إلا السنور وما دونها في الخلقة ) . السؤر فضلة الشرب . والحيوان قسمان : نجس وطاهر . فالنجس نوعان : أحدهما ما هو نجس ، رواية واحدة ، وهو الكلب ، والخنزير ، وما تولد منهما ، أو من أحدهما ، فهذا نجس ، عينه ، وسؤره ، وجميع ما خرج منه ، روي ذلك عن عروة ، وهو مذهب الشافعي ، وأبي عبيد ، وهو قول أبي حنيفة في السؤر خاصة . وقال مالك ، والأوزاعي ، وداود : سؤرهما طاهر ، يتوضأ به ويشرب ، وإن ولغا في طعام لم يحرم أكله .

                                                                                                                                            وقال الزهري : يتوضأ به إذا لم يجد غيره . وقال عبدة بن أبي لبابة ، والثوري ، وابن الماجشون ، وابن مسلمة : يتوضأ ويتيمم . قال مالك : ويغسل الإناء الذي ولغ فيه الكلب تعبدا .

                                                                                                                                            واحتج بعضهم على طهارته بأن الله تعالى قال { : فكلوا مما أمسكن عليكم } ولم يأمر بغسل ما أصابه فمه ، وروى ابن ماجه بإسناده ، عن أبي سعيد الخدري ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم { سئل عن الحياض التي بين مكة والمدينة ، تردها السباع والكلاب والحمر ، وعن الطهارة بها ؟ فقال : لها ما حملت في بطونها ، ولنا ما غبر طهور } ; ولأنه حيوان فكان طاهرا كالمأكول .

                                                                                                                                            ولنا ما روى أبو هريرة ، رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا } متفق عليه ، ولمسلم : { فليرقه ، ثم ليغسله سبع مرات } ، ولو كان سؤره طاهرا لم تجز إراقته ، ولا وجب غسله . فإن قيل : إنما وجب غسله تعبدا ، كما تغسل أعضاء الوضوء وتغسل اليد من نوم الليل .

                                                                                                                                            قلنا : الأصل وجوب الغسل من النجاسة ; بدليل سائر الغسل ، ثم لو كان تعبدا لما أمر بإراقة الماء ، ولما اختص الغسل بموضع الولوغ ; لعموم اللفظ في الإناء كله .

                                                                                                                                            وأما غسل اليد من النوم فإنما أمر به للاحتفاظ ; لاحتمال أن تكون يده قد أصابتها نجاسة ، فيتنجس الماء ، ثم تنجس أعضاؤه به ، وغسل أعضاء الوضوء شرع للوضاءة والنظافة ليكون العبد في حال قيامه بين يدي الله سبحانه وتعالى على أحسن حال وأكملها ، ثم إن سلمنا ذلك ، فإنما عهدنا التعبد في غسل اليدين .

                                                                                                                                            أما الآنية والثياب فإنما يجب غسلها من النجاسات ، وقد روي في لفظ : { طهور إناء أحدكم إذا ولغ الكلب فيه أن يغسله سبعا } أخرجه أبو داود ، ولا يكون الطهور إلا في محل الطهارة . وقولهم : إن الله تعالى أمر بأكل ما أمسكه الكلب قبل غسله ،

                                                                                                                                            قلنا : الله تعالى أمر بأكله ، والنبي صلى الله عليه وسلم أمر بغسله ، فيعمل بأمرهما ، وإن سلمنا أنه لا يجب غسله فلأنه يشق ، فعفي عنه ، وحديثهم قضية في عين ، يحتمل أن الماء المسئول عنه كان كثيرا ، ولذلك قال في موضع آخر ، حين سئل عن الماء ، وما ينوبه من السباع : { إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث } ; ولأن الماء لا ينجس إلا بالتغير على رواية لنا ، وشربها من الماء لا يغيره ، فلم ينجسه ذلك [ ص: 44 ]

                                                                                                                                            النوع الثاني ما اختلف فيه ، وهو سائر سباع البهائم ، إلا السنور وما دونها في الخلقة ، وكذلك جوارح الطير ، والحمار الأهلي والبغل ; فعن أحمد أن سؤرها نجس ، إذا لم يجد غيره تيمم ، وتركه .

                                                                                                                                            وروي عن ابن عمر : أنه كره سؤر الحمار . وهو قول الحسن ، وابن سيرين ، والشعبي ، والأوزاعي ، وحماد ، وإسحاق وعن أحمد رحمه الله : أنه قال في البغل والحمار : إذا لم يجد غير سؤرهما تيمم معه . وهو قول أبي حنيفة ، والثوري . وهذه الرواية تدل على طهارة سؤرهما ; لأنه لو كان نجسا لم تجز الطهارة به

                                                                                                                                            وروي عن إسماعيل بن سعيد : لا بأس بسؤر السباع ; لأن عمر قال في السباع : ترد علينا ، ونرد عليها . ورخص في سؤر جميع ذلك الحسن ، وعطاء ، والزهري ، ويحيى الأنصاري ، وبكير بن الأشج ، وربيعة ، وأبو الزناد ، ومالك ، والشافعي ، وابن المنذر ; لحديث أبي سعيد في الحياض ، وقد روي عن جابر أيضا ، وفي حديث آخر عن جابر ، أن النبي صلى الله عليه وسلم { سئل : أنتوضأ بما أفضلت الحمر ؟ قال : نعم وبما أفضلت السباع كلها } رواه الشافعي في " مسنده " ، وهذا نص ; ولأنه حيوان يجوز الانتفاع به من غير ضرورة ، فكان طاهرا كالشاة .

                                                                                                                                            ووجه الرواية الأولى ، أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الماء ، وما ينوبه من السباع ؟ فقال : " إذا بلغ الماء قلتين لم ينجس " . ولو كانت طاهرة لم يحده بالقلتين ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم { في الحمر يوم خيبر : إنها رجس } ولأنه حيوان حرم أكله ، لا لحرمته ، يمكن التحرز منه غالبا ، أشبه الكلب ; ولأن السباع والجوارح الغالب عليها أكل الميتات والنجاسات ، فتنجس أفواهها ، ولا يتحقق وجود مطهر لها ، فينبغي أن يقضى بنجاستها ، كالكلاب ، وحديث أبي سعيد قد أجبنا عنه ، ويتعين حمله على الماء الكثير ، عند من يرى نجاسة سؤر الكلب ، والحديث الآخر يرويه ابن أبي حبيبة ، وهو منكر الحديث .

                                                                                                                                            قاله البخاري . وإبراهيم بن يحيى ، وهو كذاب . والصحيح عندي : طهارة البغل والحمار ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يركبها ، وتركب في زمنه ، وفي عصر الصحابة ، فلو كان نجسا لبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ; ولأنهما لا يمكن التحرز منهما لمقتنيهما . فأشبها السنور ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم " إنها رجس " . أراد أنها محرمة ، كقوله تعالى في الخمر والميسر والأنصاب والأزلام إنها " رجس " ، ويحتمل أنه أراد لحمها الذي كان في قدورهم ، فإنه رجس ، فإن ذبح ما لا يحل أكله لا يطهره .

                                                                                                                                            القسم الثاني طاهر في نفسه ، وسؤره وعرقه ، وهو ثلاثة أضرب : الأول ، الآدمي ، فهو طاهر ، وسؤره طاهر ، سواء كان مسلما أم كافرا ، عند عامة أهل العلم ، إلا أنه حكي عن النخعي أنه كره سؤر الحائض ، وعن جابر بن زيد ، لا يتوضأ منه ، وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { المؤمن لا ينجس } .

                                                                                                                                            وعن عائشة { أنها كانت تشرب من الإناء ، وهي حائض ، فيأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيضع فاه على موضع فيها فيشرب ، وتتعرق العرق فيأخذه فيضع فاه على موضع فيها . } رواه مسلم ، { وكانت تغسل رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي حائض } ، متفق عليه ، وقال صلى الله عليه وسلم { لعائشة : ناوليني الخمرة من المسجد قالت : إني حائض . قال : إن حيضتك ليست في يدك } .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية