الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
عم يتساءلون عن النبإ العظيم الذي هم فيه مختلفون .

افتتاح الكلام بالاستفهام عن تساؤل جماعة عن نبأ عظيم افتتاح تشويق ثم تهويل لما سيذكر بعده ، فهو من الفواتح البديعة لما فيها من أسلوب عزيز غير مألوف ، ومن تشويق بطريقة الإجمال ثم التفصيل المحصلة لتمكن الخبر الآتي بعده في نفس السامع أكمل تمكن .

وإذا كان هذا الافتتاح مؤذنا بعظيم أمر كان مؤذنا بالتصدي لقول فصل فيه ، ولما كان في ذلك إشعار بأهم ما فيه خوضهم يومئذ يجعل افتتاح الكلام به من براعة الاستهلال .

[ ص: 7 ] ولفظ ( عم ) مركب من كلمتين هما : حرف ( عن ) الجار ، و ( ما ) التي هي اسم استفهام بمعنى : أي شيء ، ويتعلق ( عم ) بفعل ( يتساءلون ) فهذا مركب . وأصل ترتيبه : يتساءلون عن ما ؛ فقدم اسم الاستفهام لأنه لا يقع إلا في صدر الكلام المستفهم به ، وإذ قد كان اسم الاستفهام مقترنا بحرف الجر الذي تعدى به الفعل إلى اسم الاستفهام وكان الحرف لا ينفصل عن مجروره ؛ قدما معا فصار : ( عما يتساءلون ) .

وقد جرى الاستعمال الفصيح على أن ( ما ) الاستفهامية إذا دخل عليها حرف الجر يحذف الألف المختومة هي به تفرقة بينها وبين ( ما ) الموصولة .

وعلى ذلك جرى استعمال نطقهم ، فلما كتبوا المصاحف جروا على تلك التفرقة في النطق ، فكتبوا ( ما ) الاستفهامية بدون ألف حيثما وقعت ، مثل قوله تعالى : فيم أنت من ذكراها فبم تبشرون لم أذنت لهم عم يتساءلون مم خلق ، فلذلك لم يقرأها أحد بإثبات الألف إلا في الشاذ .

ولما بقيت كلمة ( ما ) بعد حذف ألفها على حرف واحد ، جروا في رسم المصحف على أن ميمها الباقية تكتب متصلة بحرف ( عن ) ; لأن ( ما ) لما حذف ألفها بقيت على حرف واحد فأشبه حروف التهجي ، فلما كان حرف الجر الذي قبل ( ما ) مختوما بنون والتقت النون مع ميم ( ما ) ، والعرب ينطقون بالنون الساكنة التي بعدها ميم ميما ويدغمونها فيها ، فلما حذفت النون في النطق جرى رسمهم على كتابة الكلمة محذوفة النون تبعا للنطق ، ونظيره قوله تعالى : مم خلق وهو اصطلاح حسن .

والتساؤل : تفاعل ، وحقيقة صيغة التفاعل تفيد صدور معنى المادة المشتقة منها من الفاعل إلى المفعول ، وصدور مثله من المفعول إلى الفاعل ، وترد كثيرا لإفادة تكرر وقوع ما اشتقت منه ، نحو قولهم : ساءل ، بمعنى سأل ، قال النابغة :


أسائل عن سعدى وقد مر بعدنا على عرصات الدار سبع كوامل



وقال رويشد بن كثير الطائي :


يا أيها الراكب المزجي مطيته     سائل بني أسد ما هذه الصوت



[ ص: 8 ] وتجيء لإفادة قوة صدور الفعل من الفاعل ، نحو قولهم : عافاك الله ، وذلك إما كناية أو مجاز ، ومحمله في الآية على جواز الاحتمالات الثلاثة ، وذلك من إرادة المعنى الكنائي مع المعنى الصريح ، أو من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه ، وكلا الاعتبارين صحيح في الكلام البليغ فلا وجه لمنعه .

فيجوز أن تكون مستعملة في حقيقتها بأن يسأل بعضهم بعضا سؤال متطلع للعلم ; لأنهم حينئذ لم يزالوا في شك من صحة ما أنبئوا به ، ثم استقر أمرهم على الإنكار .

ويجوز أن تكون مستعملة في المجاز الصوري ؛ يتظاهرون بالسؤال وهم موقنون بانتفاء وقوع ما يتساءلون عنه ، على طريقة استعمال فعل " يحذر " في قوله تعالى : يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة فيكونون قصدوا بالسؤال الاستهزاء .

وذهب المفسرون فريقين في كلتا الطريقتين ، يرجح كل فريق ما ذهب إليه ، والوجه حمل الآية على كلتيهما ; لأن المشركين كانوا متفاوتين في التكذيب ، فعن ابن عباس : لما نزل القرآن كانت قريش يتحدثون فيما بينهم ؛ فمنهم مصدق ومنهم مكذب .

وعن الحسن ، وقتادة مثل قول ابن عباس ، وقيل : هو سؤال استهزاء أو تعجب ، وإنما هم موقنون بالتكذيب .

فأما التساؤل الحقيقي فأن يسأل أحد منهم غيره عن بعض أحوال هذا النبأ ، فيسأل المسؤول سائله سؤالا عن حال آخر من أحوال النبأ ؛ إذ يخطر لكل واحد في ذلك خاطر غير الذي خطر للآخر ، فيسأل سؤال مستثبت ، أو سؤال كشف عن معتقده ، أو ما يوصف به المخبر بهذا النبأ ، كما قال بعضهم لبعض أفترى على الله كذبا أم به جنة وقال بعض آخر : أإذا كنا ترابا وآباؤنا أإنا لمخرجون إلى قوله : إن هذا إلا أساطير الأولين .

وأما التساؤل الصوري فأن يسأل بعضهم بعضا عن هذا الخبر سؤال تهكم واستهزاء ، فيقول أحدهم : هل بلغك خبر البعث ؟ ويقول له الآخر : هل سمعت ما [ ص: 9 ] قال ؟ فإطلاق لفظ التساؤل حقيقي ; لأنه موضوع لمثل تلك المساءلة ، وقصدهم منه غير حقيقي بل تهكمي .

والاستفهام بما في قوله : عم يتساءلون ليس استفهاما حقيقيا ، بل هو مستعمل في التشويق إلى تلقي الخبر نحو قوله تعالى : هل أنبئكم على من تنزل الشياطين .

والموجه إليه الاستفهام من قبيل خطاب غير المعين .

وضمير ( يتساءلون ) يجوز أن يكون ضمير جماعة الغائبين مرادا به المشركون ولم يسبق لهم ذكر في هذا الكلام ، ولكن ذكرهم متكرر في القرآن فصاروا معروفين بالقصد من بعض ضمائره وإشاراته المبهمة ، كالضمير في قوله تعالى : حتى توارت بالحجاب ( يعني : الشمس ) ، كلا إذا بلغت التراقي ( يعني : الروح ) ، فإن جعلت الكلام من باب الالتفات ، فالضمير ضمير جماعة المخاطبين .

ولما كان الاستفهام مستعملا في غير طلب الفهم حسن تعقيبه بالجواب عنه بقوله : عن النبإ العظيم فجوابه مستعمل بيانا لما أريد بالاستفهام من الإجمال لقصد التفخيم ؛ فبين جانب التفخيم ، ونظيره قوله تعالى : هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم فكأنه قيل : هم يتساءلون عن النبأ العظيم ، ومنه قول حسان بن ثابت :

لمن الدار أقفرت بمعان     بين أعلى اليرموك والصمان
ذاك مغنى لآل جفنة في الدهر     وحق تقلب الأزمان


والنبأ : الخبر ، قيل : مطلقا فيكون مرادفا للفظ الخبر ، وهو الذي جرى عليه إطلاق القاموس والصحاح واللسان .

وقال الراغب : " النبأ الخبر ذو الفائدة العظيمة ، يحصل به علم أو غلبة ظن ، ولا يقال للخبر نبأ حتى يتضمن هذه الأشياء الثلاثة ويكون صادقا " اهـ . وهذا فرق حسن ، ولا أحسب البلغاء جروا إلا على نحو ما قال الراغب ، فلا يقال للخبر عن الأمور المعتادة نبأ ، وذلك ما تدل عليه موارد استعمال لفظ النبأ في كلام البلغاء ، وأحسب أن الذين أطلقوا مرادفة النبأ للخبر راعوا ما يقع في بعض كلام الناس من [ ص: 10 ] تسامح بإطلاق النبأ بمعنى مطلق الخبر لضرب من التأويل أو المجاز المرسل بالإطلاق والتقييد ، فكثر ذلك في الكلام كثرة عسر معها تحديد مواقع الكلمتين ، ولكن أبلغ الكلام لا يليق تخريجه إلا على أدق مواقع الاستعمال . وتقدم عند قوله تعالى : ولقد جاءك من نبأ المرسلين في سورة الأنعام وقوله : قل هو نبأ عظيم أنتم عنه معرضون .

والعظيم حقيقته : كبير الجسم ويستعار للأمر المهم ; لأن أهمية المعنى تتخيل بكبر الجسم في أنها تقع عند مدكرها ، كمرأى الجسم الكبير في مرأى العين ، وشاعت هذه الاستعارة حتى ساوت الحقيقة .

ووصف النبأ بالعظيم هنا زيادة في التنويه به ; لأن كونه واردا من عالم الغيب زاده عظم أوصاف وأهوال ، فوصف النبأ بالعظيم باعتبار ما وصف فيه من أحوال البعث فيما نزل من آيات القرآن قبل هذا ، ونظيره قوله تعالى : قل هو نبأ عظيم أنتم عنه معرضون في سورة " ص " .

والتعريف في ( النبأ ) تعريف الجنس فيشمل كل نبأ عظيم أنبأهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - به ، وأول ذلك إنباؤه بأن القرآن كلام الله ، وما تضمنه القرآن من إبطال الشرك ، ومن إثبات بعث الناس يوم القيامة ، فما يروى عن بعض السلف من تعيين نبأ خاص يحمل على التمثيل ؛ فعن ابن عباس : هو القرآن ، وعن مجاهد ، وقتادة : هو البعث يوم القيامة .

وسوق الاستدلال بقوله : ألم نجعل الأرض مهادا إلى قوله : وجنات ألفافا يدل دلالة بينة على أن المراد من ( النبأ العظيم ) الإنباء بأن الله واحد لا شريك له .

وضمير هم فيه مختلفون يجري فيه الوجهان المتقدمان في قوله : يتساءلون واختلافهم في النبأ اختلافهم فيما يصفونه به ، كقول بعضهم : إن هذا إلا أساطير الأولين وقول بعضهم : هذا كلام مجنون ، وقول بعضهم : هذا كذب ، وبعضهم : هذا سحر ، وهم أيضا مختلفون في مراتب إنكاره ؛ فمنهم من يقطع بإنكار البعث ، مثل الذين حكى الله عنهم بقوله : [ ص: 11 ] وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد أفترى على الله كذبا أم به جنة ، ومنهم من يشكون فيه ، كالذين حكى الله عنهم بقوله : قلتم ما ندري ما الساعة إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين على أحد التفسيرين .

وجيء بالجملة الاسمية في صلة الموصول دون أن يقول : الذي يختلفون فيه أو نحو ذلك ، لتفيد الجملة الاسمية أن الاختلاف في أمر هذا النبأ متمكن منهم ودائم فيهم ، لدلالة الجملة الاسمية على الدوام والثبات .

وتقديم ( عنه ) على ( معرضون ) للاهتمام بالمجرور ، وللإشعار بأن الاختلاف ما كان من حقه أن يتعلق به ، مع ما في التقديم من الرعاية على الفاصلة .

التالي السابق


الخدمات العلمية