الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        بسم الله الرحمن الرحيم كتاب في اللقطة باب إذا أخبره رب اللقطة بالعلامة دفع إليه

                                                                                                                                                                                                        2294 حدثنا آدم حدثنا شعبة وحدثني محمد بن بشار حدثنا غندر حدثنا شعبة عن سلمة سمعت سويد بن غفلة قال لقيت أبي بن كعب رضي الله عنه فقال أخذت صرة مائة دينار فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال عرفها حولا فعرفتها حولا فلم أجد من يعرفها ثم أتيته فقال عرفها حولا فعرفتها فلم أجد ثم أتيته ثلاثا فقال احفظ وعاءها وعددها ووكاءها فإن جاء صاحبها وإلا فاستمتع بها فاستمتعت فلقيته بعد بمكة فقال لا أدري ثلاثة أحوال أو حولا واحدا [ ص: 94 ]

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        [ ص: 94 ] قوله : ( بسم الله الرحمن الرحيم . كتاب اللقطة ) كذا للمستملي والنسفي ، واقتصر الباقون على البسملة وما بعدها . واللقطة الشيء الذي يلتقط ، وهو بضم اللام وفتح القاف على المشهور عند أهل اللغة والمحدثين ، وقال عياض : لا يجوز غيره وقال الزمخشري في الفائق : اللقطة بفتح القاف والعامة تسكنها . كذا قال ، وقد جزم الخليل بأنها بالسكون قال : وأما بالفتح فهو اللاقط : وقال الأزهري : هذا الذي قاله هو القياس ولكن الذي سمع من العرب وأجمع عليه أهل اللغة والحديث الفتح . وقال ابن بري : التحريك للمفعول نادر فاقتضى أن الذي قاله الخليل هو القياس . وفيها لغتان أيضا : لقاطة بضم اللام ، ولقطة بفتحها . وقد نظم الأربعة ابن مالك حيث قال :

                                                                                                                                                                                                        لقاطة ولقطة ولقطه ولقطة ما لاقط قد لقطه

                                                                                                                                                                                                        ووجه بعض المتأخرين فتح القاف في المأخوذ أنه للمبالغة . وذلك لمعنى فيها اختصت به ، وهو أن كل من يراها يميل لأخذها فسميت باسم الفاعل لذلك .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( باب إذا أخبره رب اللقطة بالعلامة دفع إليه ) أورد فيه حديث أبي بن كعب " أصبت صرة [ ص: 95 ] فيها مائة دينار " كذا للمستملي ، وللكشميهني " وجدت " وللباقين " أخذت " . ولم يقع في سياقه ما ترجم به صريحا ، وكأنه أشار إلى ما وقع في بعض طرقه كما سيأتي ذكره .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( حدثنا آدم حدثنا شعبة ، وحدثني محمد بن بشار حدثنا غندر حدثنا شعبة ) هكذا ساقه عاليا ونازلا ، والسياق للإسناد النازل . وقد أخرجه البيهقي من طريق آدم مطولا .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فإن جاء صاحبها وإلا فاستمتع بها ) في رواية حماد بن سلمة وسفيان الثوري وزيد بن أنيسة عند مسلم وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي من طريق الثوري ، وأحمد وأبو داود من طريق حماد كلهم عن سلمة بن كهيل في هذا الحديث فإن جاء أحد يخبرك بعددها ووعائها ووكائها فأعطها إياه . لفظ مسلم . وأما قول أبي داود : إن هذه الزيادة زادها حماد بن سلمة وهي غير محفوظة فتمسك بها من حاول تضعيفها فلم يصب ، بل هي صحيحة ، وقد عرفت من وافق حمادا عليها وليست شاذة . وقد أخذ بظاهرها مالك وأحمد ، وقال أبو حنيفة والشافعي : إن وقع في نفسه صدقه جاز أن يدفع إليه ، ولا يجبر على ذلك إلا ببينة ، لأنه قد يصيب الصفة .

                                                                                                                                                                                                        وقال الخطابي : إن صحت هذه اللفظة لم يجز مخالفتها ، وهي فائدة قوله : " اعرف عفاصها إلخ " وإلا فالاحتياط مع من لم ير الرد إلا بالبينة ، قال : ويتأول قوله : " اعرف عفاصها " على أنه أمره بذلك لئلا تختلط بماله . أو لتكون الدعوى فيها معلومة . وذكر غيره من فوائد ذلك أيضا أن يعرف صدق المدعي من كذبه ، وأن فيه تنبيها على حفظ الوعاء وغيره لأن العادة جرت بإلقائه إذا أخذت النفقة ، وأنه إذا نبه على حفظ الوعاء كان فيه تنبيه على حفظ المال من باب الأولى . قلت : قد صحت هذه الزيادة فتعين المصير إليها ، وسيأتي أيضا في حديث زيد بن خالد في آخر أبواب اللقطة ، وما اعتل به بعضهم من أنه إذا وصفها فأصاب فدفعها إليه فجاء شخص آخر فوصفها فأصاب لا يقتضي الطعن في الزيادة ، فإنه يصير الحكم حينئذ كما لو دفعها إليه بالبينة فجاء آخر فأقام بينة أخرى أنها له ، وفي ذلك تفاصيل للمالكية وغيرهم .

                                                                                                                                                                                                        وقال بعض متأخري الشافعية : يمكن أن يحمل وجوب الدفع لمن أصاب الوصف على ما إذا كان ذلك قبل التملك . لأنه حينئذ مال ضائع لم يتعلق به حق ثان ، بخلاف ما بعد التملك فإنه حينئذ يحتاج المدعي إلى البينة لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم - : البينة على المدعي ثم قال : أما إذا صحت الزيادة فتخص صورة الملتقط من عموم البينة على المدعي والله أعلم . وقوله : " احفظ وعاءها وعددها ووكاءها " الوعاء بالمد وبكسر الواو وقد تضم ، وقرأ بها الحسن في قوله : قبل وعاء أخيه وقرأ سعيد بن جبير " إعاء " بقلب الواو المكسورة همزة . والوعاء ما يجعل فيه الشيء سواء كان من جلد أو خزف أو خشب أو غير ذلك . والوكاء بكسر الواو والمد الخيط الذي يشد به الصرة وغيرها . وزاد في حديث زيد بن خالد " العفاص " وسيأتي ذكره وشرحه وحكم هذه العلامات في الباب الذي بعده .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فلقيته بعد بمكة ) القائل شعبة والذي قال : " لا أدري " هو شيخه سلمة بن كهيل ، وقد بينه مسلم من رواية بهز بن أسد عن شعبة أخبرني سلمة بن كهيل واختصر الحديث ، قال شعبة : فسمعته بعد عشر سنين يقول : " عرفها عاما واحدا " . وقد بينه أبو داود الطيالسي في مسنده أيضا فقال في آخر الحديث " قال شعبة فلقيت سلمة بعد ذلك فقال لا أدري ثلاثة أحوال أو حولا واحدا " . وأغرب ابن بطال فقال : [ ص: 96 ] الذي شك فيه هو أبي بن كعب ، والقائل هو سويد بن غفلة انتهى . ولم يصب في ذلك وإن تبعه جماعة منهم المنذري ، بل الشك فيه من أحد رواته وهو سلمة لما استثبته فيه شعبة ، وقد رواه غير شعبة عن سلمة بن كهيل بغير شك جماعة ، وفيه هذه الزيادة ، وأخرجها مسلم من طريق الأعمش والثوري وزيد بن أبي أنيسة وحماد بن سلمة كلهم عن سلمة وقال : قالوا في حديثهم جميعا : ثلاثة أحوال إلا حماد بن سلمة فإن في حديثه عامين أو ثلاثة . وجمع بعضهم بين حديث أبي هذا وحديث زيد بن خالد الآتي في الباب الذي يليه فإنه لم يختلف عليه في الاقتصار على سنة واحدة فقال : يحمل حديث أبي بن كعب على مزيد الورع عن التصرف في اللقطة والمبالغة في التعفف عنها ، وحديث زيد على ما لا بد منه ، أو لاحتياج الأعرابي واستغناء أبي .

                                                                                                                                                                                                        قال المنذري : لم يقل أحد من أئمة الفتوى أن اللقطة تعرف ثلاثة أعوام ، إلا شيئا جاء عن عمر انتهى . وقد حكاه الماوردي عن شواذ من الفقهاء . وحكى ابن المنذر عن عمر أربعة أقوال : يعرفها ثلاثة أحوال ، عاما واحدا ، ثلاثة أشهر ، ثلاثة أيام . ويحمل ذلك على عظم اللقطة وحقارتها . وزاد ابن حزم عن عمر قولا خامسا وهو أربعة أشهر . وجزم ابن حزم وابن الجوزي بأن هذه الزيادة غلط . قال : والذي يظهر أن سلمة أخطأ فيها ثم تثبت واستذكر واستمر على عام واحد ، ولا يؤخذ إلا بما لم يشك فيه راويه . وقال ابن الجوزي : يحتمل أن يكون - صلى الله عليه وسلم - عرف أن تعريفها لم يقع على الوجه الذي ينبغي ، فأمر أبيا بإعادة التعريف كما قال للمسيء صلاته ارجع فصل فإنك لم تصل انتهى . ولا يخفى بعد هذا على مثل أبي مع كونه من فقهاء الصحابة وفضلائهم . وقد حكى صاحب الهداية من الحنفية رواية عندهم أن الأمر في التعريف مفوض لأمر الملتقط ، فعليه أن يعرفها إلى أن يغلب على ظنه أن صاحبها لا يطلبها بعد ذلك ، والله أعلم . وسيأتي بقية الكلام على حديث أبي بن كعب في أواخر أبواب اللقطة قريبا إن شاء الله تعالى .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية