الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( وإن إلياس لمن المرسلين إذ قال لقومه ألا تتقون أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين الله ربكم ورب آبائكم الأولين فكذبوه فإنهم لمحضرون إلا عباد الله المخلصين وتركنا عليه في الآخرين سلام على إل ياسين إنا كذلك نجزي المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين )

                                                                                                                                                                                                                                            قصة إلياس عليه السلام

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى : ( وإن إلياس لمن المرسلين إذ قال لقومه ألا تتقون أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين الله ربكم ورب آبائكم الأولين فكذبوه فإنهم لمحضرون إلا عباد الله المخلصين وتركنا عليه في الآخرين سلام على إل ياسين إنا كذلك نجزي المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين )

                                                                                                                                                                                                                                            اعلم أن هذه القصة الرابعة من القصص المذكورة في هذه السورة وفيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : قرأ ابن عامر : "وإن الياس" بغير همزة على وصل الألف ، والباقون بالهمزة وقطع الألف ، قال أبو بكر بن مهران : من ذكر عند الوصل الألف فقد أخطأ ، وكان أهل الشام ينكرونه ولا يعرفونه ، قال الواحدي وله وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : أنه حذف الهمزة من إلياس حذفا ، كما حذفها ابن كثير من قوله : ( إنها لإحدى الكبر ) ( المدثر : 35 ) وكقول الشاعر :


                                                                                                                                                                                                                                            ويلمها في هواء الجو طالبة



                                                                                                                                                                                                                                            والآخر أنه جعل الهمزة التي تصحب اللام للتعريف كقوله : ( واليسع ) [الأنعام : 86] .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : في إلياس قولان : يروى عن ابن مسعود أنه قرأ "وإن إدريس " ، وقال إن إلياس هو إدريس ، وهذا قول عكرمة ، وأما أكثر المفسرين فهم متفقون على أنه نبي من أنبياء بني إسرائيل وهو إلياس بن ياسين ، من ولد هارون أخي موسى عليهم السلام ، ثم قال تعالى : ( إذ قال لقومه ألا تتقون ) والتقدير : اذكر يا محمد لقومك : ( إذ قال لقومه ألا تتقون ) أي ألا تخافون الله ، وقال الكلبي : ألا تخافون عبادة غير الله . واعلم أنه لما خوفهم أولا على سبيل الإجمال ذكر ما هو السبب لذلك الخوف فقال : ( أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين ) وفيه أبحاث :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : في " بعل " قولان :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : أنه اسم علم لصنم كان لهم كمناة وهبل ، وقيل كان من ذهب ، وكان طوله عشرين ذراعا وله أربعة أوجه ، وفتنوا به وعظموه ، حتى عينوا له أربعمائة سادن وجعلوهم أنبياء ، وكان الشيطان يدخل في جوف بعل ويتكلم بشريعة الضلالة ، والسدنة يحفظونها ويعلمونها الناس وهم أهل بعلبك [ ص: 141 ] من بلاد الشأم ، وبه سميت مدينتهم بعلبك . واعلم أن قولهم بعل اسم لصنم من أصنامهم لا بأس به ، وأما قولهم إن الشيطان كان يدخل في جوف بعلبك ويتكلم بشريعة الضلالة . فهذا مشكل لأنا إن جوزنا هذا كان ذلك قادحا في كثير من المعجزات ، لأنه نقل في معجزات النبي صلى الله عليه وسلم كلام الذئب معه وكلام الجمل معه وحنين الجذع ، ولو جوزنا أن يدخل الشيطان في جوف جسم ويتكلم . فحينئذ يكون هذا الاحتمال قائما في الذئب والجمل والجذع ، وذلك يقدح في كون هذه الأشياء معجزات .

                                                                                                                                                                                                                                            القول الثاني : إن البعل هو الرب بلغة اليمن ، يقال من بعل هذه الدار ، أي من ربها ، وسمي الزوج بعلا لهذا المعنى ، قال تعالى : ( وبعولتهن أحق بردهن ) ( البقرة : 228 ) وقال تعالى : ( وهذا بعلي شيخا ) ( هود : 72 ) فعلى هذا التقدير المعنى : أتعبدون بعض البعول وتتركون عبادة الله .

                                                                                                                                                                                                                                            البحث الثاني : المعتزلة احتجوا بهذه الآية على كون العبد خالقا لأفعال نفسه ، فقالوا : لو لم يكن غير الله خالقا لما جاز وصف الله بأنه أحسن الخالقين ، والكلام فيه قد تقدم في قوله تعالى : ( فتبارك الله أحسن الخالقين ) ( المؤمنون : 14 ) .

                                                                                                                                                                                                                                            البحث الثالث : كان الملقب بالرشيد الكاتب يقول : لو قيل : أتدعون بعلا وتدعون أحسن الخالقين . أوهم أنه أحسن ، لأنه كان قد تحصل فيه رعاية معنى التحسين . وجوابه : أن فصاحة ، القرآن ليست لأجل رعاية هذه التكاليف ، بل لأجل قوة المعاني وجزالة الألفاظ . واعلم أنه لما عابهم على عبادة غير الله صرح بالتوحيد ونفي الشركاء ، فقال : ( الله ربكم ورب آبائكم الأولين ) وفيه مباحث :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أنا ذكرنا في هذا الكتاب أن حدوث الأشخاص البشرية كيف يدل على وجود الصانع المختار ، وكيف يدل على وحدته وبراءته عن الأضداد والأنداد ، فلا فائدة في الإعادة .

                                                                                                                                                                                                                                            البحث الثاني : قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم ( الله ربكم ورب آبائكم ) كلها بالنصب على البدل من قوله : ( أحسن الخالقين ) والباقون بالرفع على الاستئناف ، والأول اختيار أبي حاتم وأبي عبيد ، ونقل صاحب "الكشاف" أن حمزة إذا وصل نصب ، وإذا وقف رفع ، ولما حكى الله عنه أنه قرر مع قومه التوحيد قال : ( فكذبوه فإنهم لمحضرون ) أي لمحضرون النار غدا ، وقد ذكرنا الكلام فيه عند قوله : ( لكنت من المحضرين ) ( الصافات : 57 ) ثم قال تعالى : ( إلا عباد الله المخلصين ) وذلك لأن قومه ما كذبوه بكليتهم ، بل كان فيهم من قبل ذلك التوحيد فلهذا قال تعالى : ( إلا عباد الله المخلصين ) يعني الذين أتوا بالتوحيد الخالص فإنهم لا يحضرون ، ثم قال : ( وتركنا عليه في الآخرين سلام على إل ياسين ) قرأ نافع وابن عامر ويعقوب "آل ياسين" على إضافة لفظ آل إلى لفظ ياسين ، والباقون بكسر الألف وجزم اللام موصولة بياسين :

                                                                                                                                                                                                                                            أما القراءة الأولى ففيها وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : وهو الأقرب : أنا ذكرنا أنه إلياس بن ياسين فكان إلياس آل ياسين .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : آل ياسين آل محمد صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                                                                            والثالث : أن ياسين اسم القرآن ، كأنه قيل سلام الله على من آمن بكتاب الله الذي هو ياسين ، والوجه هو الأول لأنه أليق بسياق الكلام .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما القراءة الثانية ففيها وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : قال الزجاج : يقال : ميكال وميكائيل وميكالين ، فكذا ههنا إلياس وإلياسين .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : قال الفراء هو جمع وأراد به إلياس وأتباعه من المؤمنين ، كقولهم المهلبون والسعدون قال :


                                                                                                                                                                                                                                            أنا ابن سعد أكرم السعدينا



                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 142 ] ثم قال تعالى : ( إنا كذلك نجزي المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين ) وقد سبق تفسيره ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية