الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا

                                                          * * *

                                                          الاستفهام هنا للتنبيه، وبيان ما سيكون يوم القيامة من حساب يتبعه عقاب عادل، أو ثواب يتبعه جزاء سابغ وعطاء غير ممنون. والمعنى تنبهوا أي هؤلاء الذين يجحدون الأدلة القائمة، والرسالات الثابتة، وتصوروا حالكم، وأعمالكم تنطق بها ألسنتكم وجوارحكم، ومعكم النبيون يشهدون عليكم بالتبليغ والبيان، وأنه لم يكن لكم حجة في كفر، ولا معذرة في جحود. والشهيد هو الشاهد الناطق بالحق، المتحري المستقصي الذي لا يترك حقا لم يبينه. ومعنى قوله تعالى:

                                                          وجئنا بك على هؤلاء شهيدا أنه يؤتى لكل أمة من الأمم بشهيد منها هو نبيها الذي بعث فيها ودعاها إلى الحق، فمنهم من آمن ومنهم من كفر، فكل نبي يشهد على قومه بالتبليغ والبيان. وما من أمة إلا كان لها نذير، فقد قال تعالى: وإن من أمة إلا خلا فيها نذير [فاطر]، وقال تعالى: وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا [الإسراء].

                                                          وقد اختلف في الإشارة في قوله تعالى: وجئنا بك على هؤلاء شهيدا فقال بعض المفسرين: إن الإشارة في هؤلاء إلى النبيين السابقين، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- باعتباره خاتم النبيين، وأن رسالته خالدة إلى يوم القيامة، ولتكريم الله تعالى، يكون شاهدا على كل النبيين السابقين، والشهادة عليهم بمعنى أداء الشهادة بأنهم بلغوا، وكانت التعدية بـ على للإشارة إلى معنى المحافظة على أصول الشرائع السابقة لاشتمال القرآن الكريم عليها، ونشرها خالصة سائغة واضحة بينة للأجيال. [ ص: 1688 ] هذا هو القول الأول - والقول الثاني أن المشار إليهم في النص الكريم هم أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، وهي أكثر الأمم عددا; لأن محمدا -صلى الله عليه وسلم- أكثر الأنبياء تابعا; إذ دينه لم يحرف ولم يبدل، فقد حفظت أصوله في القرآن الكريم، وهو نور الله تعالى الباقي إلى يوم القيامة، كما قال تعالى: إنا نحن نـزلنا الذكر وإنا له لحافظون [الحجر]، وإن الكثيرين على الأول؛ لأن للنبي -صلى الله عليه وسلم- شهادتين؛ إحداهما شهادته للرسالات السابقة بالصدق والبيان، وقد اطلع على هذه الشهادة المسلمون ببيان القرآن، والثانية شهادته على أمته، وقد جمع الشهادتين قوله تعالى: وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا [البقرة]، وإن تلك منزلة عالية للنبي -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين به إيمانا صادقا الذين يذعنون للحق دائما، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يستعظم أمر هذه الشهادة، فقد روى أحمد في مسنده، والبخاري في صحيحه، والترمذي والنسائي في سننهما، عن عبد الله بن مسعود أنه قال: "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: اقرأ علي، قلت: يا رسول الله، أقرأ عليك، وعليك أنزل؟! قال: "نعم أحب أن أسمع من غيري"، فقرأت سورة النساء، حتى أتيت إلى هذه الآية: فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا فقال: "أمسك"، وفي رواية: "حسبك الآن"، فإذا عيناه تذرفان . وكأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لفرط إيمانه بالله تعالى تخوف يوم الحساب والعقاب، واستعظم تلك الشهادة التي وضعت في عنقه، وهي أعظم أمانة، فسالت عبرات عينيه -صلى الله عليه وسلم- .

                                                          * * *

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية