الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              237 [ ص: 490 ] 69 - باب: إذا ألقي على ظهر المصلي قذر أو جيفة لم تفسد عليه صلاته

                                                                                                                                                                                                                              وكان ابن عمر إذا رأى في ثوبه دما وهو يصلي وضعه ومضى في صلاته. وقال ابن المسيب والشعبي: إذا صلى وفي ثوبه دم أو جنابة أو لغير القبلة أو تيمم، فصلى ثم أدرك الماء في وقته، لا يعيد. [فتح: 1 \ 438]

                                                                                                                                                                                                                              240 - حدثنا عبدان قال: أخبرني أبي، عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، عن عبد الله قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ساجد ح. قال: وحدثني أحمد بن عثمان قال: حدثنا شريح بن مسلمة قال: حدثنا إبراهيم بن يوسف، عن أبيه، عن أبي إسحاق قال: حدثني عمرو بن ميمون، أن عبد الله بن مسعود حدثه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي عند البيت، وأبو جهل وأصحاب له جلوس، إذ قال بعضهم لبعض: أيكم يجيء بسلى جزور بني فلان فيضعه على ظهر محمد إذا سجد؟ فانبعث أشقى القوم فجاء به، فنظر حتى إذا سجد النبي صلى الله عليه وسلم وضعه على ظهره بين كتفيه، وأنا أنظر، لا أغير شيئا، لو كان لي منعة. قال: فجعلوا يضحكون، ويحيل بعضهم على بعض، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساجد لا يرفع رأسه، حتى جاءته فاطمة، فطرحت عن ظهره، فرفع رأسه ثم قال: " اللهم عليك بقريش". ثلاث مرات، فشق عليهم إذ دعا عليهم - قال: وكانوا يرون أن الدعوة في ذلك البلد مستجابة -ثم سمى: "اللهم عليك بأبي جهل، وعليك بعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي معيط". وعد السابع فلم يحفظه، قال: فوالذي نفسي بيده، لقد رأيت الذين عد رسول الله صلى الله عليه وسلم صرعى في القليب، قليب بدر [520، 2134، 3185، 3854، 3960 - مسلم: 1794 - فتح: 1 \ 341]

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 491 ]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 491 ] قال البخاري: وكان ابن عمر إذا رأى في ثوبه دما وهو يصلي وضعه ومضى في صلاته.

                                                                                                                                                                                                                              وهذا رواه في "المصنف" بنحوه عن وكيع، عن حسين بن جعفر، حدثني سليط بن عبد الله بن يسار: رأيت ابن عمر رأى في (جربائه) دما فبزق فيه ثم دلكه. قال: وحدثنا ابن نمير، عن عبيد الله، عن نافع عنه أنه رأى في ثوبه دما فغسله، فبقي أثره أسود، فدعا بمقص فقرضه.

                                                                                                                                                                                                                              قال البخاري: وقال الشعبي وابن المسيب: إذا صلى وفي ثوبه دم أو جنابة أو لغير القبلة أو تيمم، فصلى ثم أدرك الماء في وقته، لا يعيد.

                                                                                                                                                                                                                              أي: في واحدة من هؤلاء، ونقله ابن بطال - أعني: عدم الإعادة- عن ابن مسعود..

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 492 ] وابن عمر وسالم وعطاء والنخعي ومجاهد والزهري وطاوس فيما إذا صلى في ثوب نجس، ثم علم به بعد الصلاة، وحكاه عن الشعبي وابن المسيب أيضا، وهو قول إسحاق والأوزاعي وأبي ثور، وعن ربيعة ومالك: يعيد في الوقت. وقال الشافعي وأحمد: يعيد أبدا. وقال أهل الكوفة: من صلى بثوب نجس وأمكنه طرحه في الصلاة يتمادى في صلاته ولا يقطعها، وهي رواية عن مالك رواها ابن وهب عنه.

                                                                                                                                                                                                                              وروي عن أبي مجلز أنه سئل عن الدم يكون في الثوب، فقال: إذا كبرت ودخلت في الصلاة ولم تر شيئا، ثم رأيته بعد، فأتم الصلاة. وعن [ ص: 493 ] أبي جعفر مثله.

                                                                                                                                                                                                                              ومن تعمد الصلاة بالنجاسة أعاد أبدا عند مالك وكثير من العلماء; لاستخفافه بالصلاة، إلا أشهب فقال: لا يعيد المتعمد إلا في الوقت فقط.

                                                                                                                                                                                                                              ثم قال البخاري رحمه الله: حدثنا عبدان، أخبرني أبي، عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، عن عبد الله قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ساجد.

                                                                                                                                                                                                                              وحدثني أحمد بن عثمان، ثنا شريح بن مسلمة، ثنا إبراهيم بن يوسف، عن أبيه، عن أبي إسحاق، حدثني عمرو بن ميمون، أن (أبا) مسعود حدثه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي عند البيت، وأبو جهل وأصحاب له جلوس، إذ قال بعضهم لبعض: أيكم يجيء بسلى جزور بني فلان فيضعه على ظهر محمد إذا سجد؟ فانبعث أشقى القوم فجاء به، فنظر حتى إذا سجد النبي صلى الله عليه وسلم وضعه على ظهره بين كتفيه، وأنا أنظر، لا أغير شيئا، لو كان لي منعة. قال: فجعلوا يضحكون، ويحيل بعضهم على بعض، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساجد لا يرفع رأسه، حتى جاءته فاطمة، فطرحته عن ظهره، فرفع رأسه ثم قال: "اللهم عليك بقريش". ثلاث مرات، فشق عليهم إذ دعا عليهم - قال: وكانوا يرون أن الدعوة في ذلك البلد مستجابة - ثم سمى: "اللهم عليك بأبي جهل، وعليك بعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي معيط". وعد السابع فلم [ ص: 494 ] نحفظه، قال: فوالذي نفسي بيده، لقد رأيت الذين عد رسول الله صلى الله عليه وسلم صرعى في القليب، قليب بدر.

                                                                                                                                                                                                                              والكلام على هذا الحديث في مواضع:

                                                                                                                                                                                                                              أحدها:

                                                                                                                                                                                                                              هذا الحديث أخرجه البخاري في أربعة مواضع أخر: في الصلاة، في باب المرأة تطرح عن المصلي شيئا من الأذى، والمبعث، والجهاد، والجزية.

                                                                                                                                                                                                                              وأخرجه مسلم في المغازي، والنسائي هنا وفي السير.

                                                                                                                                                                                                                              ثانيها:

                                                                                                                                                                                                                              أبو إسحاق هذا: هو السبيعي، وقد ذكره في الطريق الثاني من رواية ابن ابنه، عن أبيه عنه، ورواه النسائي من طريق أحمد بن عثمان، شيخ البخاري عن خالد بن مخلد، عن علي بن صالح، عن أبي إسحاق، فرواه أحمد هذا عن خالد، وعن شريح، وقدم البخاري سند عبدان على سند أحمد بن عثمان; لعلوه ولثقة رواته، فإن إبراهيم (خ، م، د، ت، س) بن يوسف بن إسحاق بن أبي إسحاق، فيه لين، وإن كان من فرسان الصحيحين.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 495 ] ووالد عبدان هو: عثمان بن جبلة بن أبي رواد ميمون. وقيل: أيمن المروزي. مات بالكوفة سنة خمس وستين ومائتين، عن خمس وسبعين سنة.

                                                                                                                                                                                                                              وأحمد بن عثمان، شيخ البخاري: هو ابن حكيم - بفتح الحاء المهملة- ابن ذبيان - بكسر الذال وضمها- كوفي ثقة. مات سنة إحدى وستين ومائتين.

                                                                                                                                                                                                                              وشريح -بالشين المعجمة- ابن مسلمة، كوفي أيضا، وذكر عبد الغني في "الكمال" أن مسلما روى له ولم يذكر البخاري، والصواب العكس.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 496 ] وعمرو بن ميمون هو الأودي، الذي رجم القردة، كما ذكره البخاري في بعض نسخه وهي منكرة وهو جاهلي، حج مائة حجة، وقيل: سبعين، وهو معدود من كبار التابعين، ووهم من ذكره في الصحابة، مات بعد السبعين سنة خمس أو أربع.

                                                                                                                                                                                                                              ثالثها:

                                                                                                                                                                                                                              أبو جهل اسمه: عمرو بن هشام بن المغيرة، كانت قريش تكنيه أبا الحكم، وكناه الشارع أبا جهل. وقال ابن الحذاء: كان يكنى أبا الوليد، وكان يعرف بابن الحنظلية، وكان أحول، وفي "المحبر": وكان مأبونا، وفي "الوشاح" لابن دريد: هو أول من جز رأسه، فلما رآه الشارع قال: "هذا فرعون هذه الأمة" قتل يوم بدر كافرا.

                                                                                                                                                                                                                              رابعها:

                                                                                                                                                                                                                              قوله: (وأصحاب له جلوس) يحتمل أن يكونوا من ذكر في آخر الحديث المدعو عليهم.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (إذ قال بعضهم لبعض) جاء في رواية أخرى: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي في ظل الكعبة وجمع من قريش في مجالسهم، إذ قال [ ص: 497 ] قائل منهم: ألا تنظروا إلى هذا المرائي. وفي أخرى ولقد نحرت جزور بالأمس، فقال أبو جهل: أيكم يقوم إلى سلى جزور بني فلان؟

                                                                                                                                                                                                                              خامسها:

                                                                                                                                                                                                                              السلى - بفتح السين وتخفيف اللام مقصور- الجلد الذي يكون فيه الولد كاللفافة، يقال لها من سائر البهائم: سلى، ومن بني آدم: المشيمة، حكاه في "المخصص" عن الأصمعي، وقال في "المحكم": السلى: الجلدة التي يكون فيها الولد، ويكون ذلك للناس والخيل والإبل.

                                                                                                                                                                                                                              وقال الجوهري: هي جلدة رقيقة يكون فيها الولد - مقصور- إن نزعت عن وجه الفصيل ساعة يولد وإلا قتلته، وكذلك إذا انقطع السلى في البطن.

                                                                                                                                                                                                                              والجزور: ما يجزر؛ أي: يقطع من الإبل والشاة.

                                                                                                                                                                                                                              سادسها:

                                                                                                                                                                                                                              قوله: (فانبعث أشقى القوم فجاء به) هو: عقبة بن أبي معيط، كما صرح به في "صحيح مسلم"، وكذا هو في "صحيح الإسماعيلي"

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 498 ] أيضا، وحكاه المهلب عن شعبة، وقال السفاقسي، عن الداودي: إنه أبو جهل; ورأيته في "شرحه" فقال: انبعث أشقاها؛ يعني: أبا جهل هو أشقى القوم وأعتاهم، وكذلك عقبة بن أبي معيط، ولم يكن عقبة من أنفس قريش، إنما كان ملصقا بهم، وكان عقبة أقل القوم أذى، إلا أنه سبق عليه الكتاب، وحمله الحسد لرسول الله صلى الله عليه وسلم على أن مات كافرا.

                                                                                                                                                                                                                              سابعها:

                                                                                                                                                                                                                              المنعة، بفتح النون وحكي إسكانها، قال النووي: وهو شاذ ضعيف، وخالف القرطبي فقال: المنعة - بسكون النون- قال: وروي بفتحها جمع مانع.

                                                                                                                                                                                                                              وحكي في "المحكم" فيها لغات: منعة، ومنعة، ومنعة. وقدم القزاز وصاحب "الغريبين" الإسكان على الفتح، وعكس يعقوب في "ألفاظه"، وكذا ابن القوطية، وابن طريف. والمراد بها الامتناع من العدو والقوة عليها، ولم يكن لابن مسعود عشيرة منهم; لأنه من هذيل.

                                                                                                                                                                                                                              ثامنها:

                                                                                                                                                                                                                              قوله: (فجعلوا يضحكون)؛ أي: استهزاء - قاتلهم الله- وجاء في رواية: حتى مال بعضهم على بعض من الضحك.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 499 ] وقوله: (ويحيل بعضهم على بعض) كذا هو بالحاء المهملة في نسخ البخاري. قال ابن بطال: يعني ينسب ذلك بعضهم إلى بعض، من قولك: أحلت الغريم؛ إذا جعلت له أن يتقاضى ما له عليك من غيرك. قال: ويحتمل أن يكون من قول العرب حال الرجل على ظهر الدابة حولا وأحال: وثب.

                                                                                                                                                                                                                              وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم لما صبح خيبر غدوة، فرآه أهلها أحالوا إلى الحصن؛ أي: وثبوا إليه. وقال ابن الأثير: ويحيل بعضهم على بعض، أي: يقبل عليه ويحيل إليه.

                                                                                                                                                                                                                              وجاء في بعض الروايات: وجعل بعضهم يميل إلى بعض، وكذا أورده شيخنا في "شرحه" بلفظ: ويميل بعضهم إلى بعض، وكذا جاء في كتاب الصلاة في باب المرأة تطرح عن المصلي شيئا من الأذى، ولفظه: حتى مال بعضهم على بعض.

                                                                                                                                                                                                                              تاسعها:

                                                                                                                                                                                                                              قوله: (حتى جاءت فاطمة) سيأتي في الباب المذكور أنه انطلق إليها منطلق وهي جويرية، فأقبلت تسعى، وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم (ساجدا) حتى ألقته عنه، وأقبلت عليهم تسبهم، وهذا دال على قوة نفسها من صغرها وكيف لا؟!

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 500 ] عاشرها:

                                                                                                                                                                                                                              دعاؤه عليهم ثلاثا; لأن هذا كان دأبه، وشق ذلك عليهم؛ لما ذكر في الحديث، أنهم كانوا يرون أن الدعوة في ذلك البلد مستجابة، وفي رواية أبي نعيم في "مستخرجه": أن الدعوة في الثالثة مستجابة، وذلك دال على علمهم بفضله، وعلو مكانته عند ربه، بحيث يجيبه إذا دعاه، ولكن لم ينتفعوا بذلك; للحسد والشقوة الغالبة عليهم.

                                                                                                                                                                                                                              الحادي عشر:

                                                                                                                                                                                                                              قوله: (اللهم عليك بأبي جهل) قد أسلفنا اسمه، وقد صرح به البخاري في الباب المذكور، فقال: "اللهم عليك بعمرو بن هشام".

                                                                                                                                                                                                                              و(عتبة) بالمثناة فوق، قتله حمزة يوم بدر كافرا.

                                                                                                                                                                                                                              و(شيبة بن ربيعة) هو ابن عبد شمس بن عبد مناف، كان من سادات قريش، قتله علي يوم بدر مبارزة. وقيل: حمزة، وهو كافر.

                                                                                                                                                                                                                              ووالد الوليد: هو عتبة، بالتاء، ووقع في بعض نسخ مسلم بالقاف، وهو خطأ، والصواب الأول، والوليد بن عتبة قتل يوم بدر كافرا، قتله عبيدة بن الحارث.

                                                                                                                                                                                                                              وقيل: علي، وقيل: حمزة. وقيل: اشتركا في قتله. والوليد بن [ ص: 501 ] عقبة بن أبي معيط لم يكن ذلك الوقت موجودا، أو كان طفلا صغيرا جدا، وقد أتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح وقد ناهز الاحتلام، ليمسح رأسه وكان متضمخا بالخلوق فلم يمسح رأسه من أجله، في حديث منكر مضطرب لا يصح، وفيه جهالة كما قاله أبو عمر.

                                                                                                                                                                                                                              ولا يمكن أن يكون بعث مصدقا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم صبيا يوم الفتح، ويوضح فساده أن الزبير وغيره من أهل العلم بالسير والخبر ذكروا أن الوليد وعمارة ابني عقبة خرجا ليردا أختهما أم كلثوم عن الهجرة، وكانت هجرتها في الهدنة، ومن كان غلاما قد ناهز الاحتلام لا يتأتى منه فعل هذا، ولا خلاف أن قوله تعالى: إن جاءكم فاسق الآية [الحجرات: 6] نزلت فيه، وذلك أنه بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقا إلى بني المصطلق، فأخبر عنهم بأنهم ارتدوا وأبوا من أداء الصدقة، فأرسل إليهم خالد بن الوليد فأخبر أنهم مستمسكون بالإسلام، ونزلت الآية. [ ص: 502 ] الثاني عشر: أمية بن خلف: هو ابن صفوان بن أمية بن خلف بن وهب بن حذافة بن جمح القرشي الجمحي، واختلف المؤرخون في قاتله، فذكر موسى بن عقبة أنه رجل من الأنصار من بني مازن، وفي "السيرة" لابن إسحاق: أن معاذ بن عفراء، وخارجة بن زيد، وخبيب بن إساف اشتركوا في قتله.

                                                                                                                                                                                                                              وذكر ابن عبد البر وغيره: أن أمية بن خلف كان ممن يعذب بلالا، وتوالى عليه بالعذاب والمكروه، وكان من قدر الله أن قتله بلال يوم بدر، وقال الصديق فيه أبياتا منها:


                                                                                                                                                                                                                              هنيئا زادك الرحمن خيرا... فقد أدركت ثأرك يا بلال



                                                                                                                                                                                                                              وفي "صحيح البخاري" من حديث ابن مسعود أن سعد بن معاذ قال له:

                                                                                                                                                                                                                              إني سمعت محمدا يزعم أنه قاتلك، وساق الخبر إلى أن ذكر أنه قتل يوم بدر، فادعى ابن الجوزي أن ظاهر الحديث أنه صلى الله عليه وسلم هو الذي قتله.

                                                                                                                                                                                                                              وفيه، وفي السير أيضا من حديث عبد الرحمن بن عوف أن بلالا خرج إليه ومعه نفر من الأنصار فقتلوه، وكان بدينا، فلما قتل انتفخ فألقوا عليه التراب حتى غيبه، ثم جر إلى القليب فتقطع قبل وصوله، وكان [ ص: 503 ] من المستهزئين، وفيه نزل قوله تعالى: ويل لكل همزة لمزة ; لأنه كان إذا رأى النبي صلى الله عليه وسلم همزه ولمزه.

                                                                                                                                                                                                                              وفي "مسند أحمد": ثم سحبوا إلى القليب غير أبي بن خلف، أو أمية بن خلف. هكذا على الشك، وهو من الراوي، وإنما هو أمية بلا شك، فإن أبي بن خلف لم يقتل يوم بدر، وإنما أسر وفدى نفسه وعاد إلى مكة، ثم جاء يوم أحد فقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده يومئذ.

                                                                                                                                                                                                                              الثالث عشر:

                                                                                                                                                                                                                              عقبة بن أبي معيط، هو بالقاف، واسم أبي معيط: أبان بن أبي عمرو ذكوان بن أمية بن عبد شمس، قتل يوم بدر كافرا. فقيل: قتله علي. وقيل: عاصم بن ثابت صبرا. وقيل: أسره عبد الله بن مسلمة، وقتله عاصم بن ثابت صبرا، وكان قتله بعرق الظبية، وهي من الروحاء على ثلاثة أميال من المدينة، فقيل: إنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أتقتلني من بين سائر قريش؟ قال: "نعم". ثم قال: "بينا أنا ساجد بفناء الكعبة وأنا خلف المقام، إذ أخذ بمنكبي فلف ثوبه في عنقي، فخنقني خنقا شديدا، ثم جاء مرة أخرى بسلى جزور بني فلان.." فذكر الحديث، وكان عقبة من المستهزئين أيضا، وذكر محمد بن حبيب أنه من زنادقة قريش.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 504 ] الرابع عشر:

                                                                                                                                                                                                                              قوله: (وعد السابع فلم يحفظه) هذا من قول أبي إسحاق فيما ذكره القرطبي، وقد ذكر البخاري في الصلاة: أنه عمارة بن الوليد بن أبي المغيرة، وذكره البرقاني أيضا وغيره، وكان من أجمل الناس، وله قصة طويلة مع النجاشي مشهورة في السيرة.

                                                                                                                                                                                                                              الخامس عشر:

                                                                                                                                                                                                                              قوله: (فوالذي نفسي بيده، لقد رأيت الذين عد رسول الله صلى الله عليه وسلم صرعى في القليب، قليب بدر)؛ أي: رأى أكثرهم; لأن عقبة بن أبي معيط لم يقتل ببدر، بل حمل منها أسيرا، وقتل بعرق الظبية، كما سلف. وعمارة قصته مع النجاشي مشهورة، وأنه سحر فصار متوحشا، وذلك بأرض الحبشة زمن عمر بن الخطاب، وروى ثابت، عن أنس، عن عمر: أنه صلى الله عليه وسلم أراهم مصارع أهل بدر بالأمس فيقول: "هذا مصرع فلان غدا إن شاء الله" قال عمر: فوالذي بعثه بالحق ما أخطئوا الحدود التي حد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعلوا في بئر بعضهم على بعض. وفي رواية: أنه صلى الله عليه وسلم ترك قتلى بدر ثلاثا، ثم أتاهم فقام عليهم فناداهم. وفي رواية قتادة، عن أنس، عن أبي طلحة قال:

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 505 ] لما كان يوم بدر، وظهر عليهم نبي الله، أمر ببضعة وعشرين رجلا - وفي رواية: بأربعة وعشرين رجلا- من صناديد قريش، فألقوا في طوى من أطواء بدر.

                                                                                                                                                                                                                              السادس عشر:

                                                                                                                                                                                                                              القليب: البئر الذي لم تطو، فإذا طويت فهي الطوى، وذكر ابن سيده: أنها البئر ما كانت، قال: وقيل: هي قبل أن تطوى. وقيل: هي العادية القديمة التي لا يعلم بها رب ولا حافر تكون بالبراري، تذكر وتؤنث. وقال ابن الأعرابي: القليب: ما كان فيه عين وإلا فلا، والجمع أقلبة وقلب، وقيل: قلب في لغة من أنث، وأقلبة وقلب جمعا في لغة من ذكر.

                                                                                                                                                                                                                              السابع عشر:

                                                                                                                                                                                                                              إلقاؤهم في القليب، كان تحقيا لهم، ولئلا يتأذى الناس برائحتهم، وليس دفنا فإن الحربي لا يجب دفنه بل يترك في الصحراء، إلا أن يتأذى منه.

                                                                                                                                                                                                                              وفي "سنن الدارقطني" أن من سنته صلى الله عليه وسلم في مغازيه إذا مر بجيفة إنسان أمر بدفنه، لا يسأل عنه مؤمنا كان أو كافرا، فإلقاؤهم في القليب من هذا الباب، غير أنه كره أن يشق على أصحابه; لكثرة جيف الكفار أن [ ص: 506 ] يأمرهم بدفنهم، فكان جرهم إليه أيسر عليهم.

                                                                                                                                                                                                                              ووافق أنها كان حفرها رجل من بني النضر، اسمه بدر بن قريش بن الحارث بن مخلد بن النضر، من كنانة الذي سميت قريش به على أحد الأقوال، وكان فألا مقدما لهم.

                                                                                                                                                                                                                              الثامن عشر: في فوائده:

                                                                                                                                                                                                                              الأولى: بركة دعوته صلى الله عليه وسلم، وأنها أجيبت فيمن دعا عليه وكيف لا؟!

                                                                                                                                                                                                                              الثاني: أن من أوذي له أن يدعو على من آذاه، وحمله ابن بطال على ما إذا كان المؤذي كافرا، قال: فإن كان مسلما، فالأحسن أن لا يدعو عليه; لقوله صلى الله عليه وسلم لعائشة حين دعت على السارق: "لا تسبخي عنه بدعائك عليه" ومعنى لا تسبخي: لا تخففي، والتسبيخ التخفيف [ ص: 507 ] قاله صاحب "العين".

                                                                                                                                                                                                                              الثالثة: وهي المقصودة من الباب أنه صلى الله عليه وسلم كيف استمر في الصلاة مع وجود هذا الذي ألقي عليه؟ وتحزب العلماء للجواب عن ذلك على آراء:

                                                                                                                                                                                                                              أحدها: أن هذا السلى لم يكن فيه نجاسة محققة، فهو كعضو من أعضائها، قال القاضي عياض: السلى ليس بنجس; لأن الفرث ورطوبة البدن طاهران، والسلى من ذلك، وإنما النجس الدم، وهذا ماش على مذهب مالك ومن وافقه في أن روث ما يؤكل لحمه طاهر.

                                                                                                                                                                                                                              وهو ضعيف; لأمرين: أحدهما: أن هذا السلى يتضمن النجاسة من حيث إنه لا ينفك من الدم عادة، وقد روى البخاري في كتاب الصلاة: فيعمد إلى فرثها ودمها وسلاها فانبعث أشقى القوم.. وذكر الحديث.

                                                                                                                                                                                                                              ثانيهما: أنه ميتة; لأنه ذبحه عبدة الأوثان، فهو نجس، وكذا اللحم وجميع أجزاء هذا الجزور، وقد أجيب عن هذا بأنه كان قبل تحريم ذبيحة الوثنيين، كما كانت تجوز مناكحتهم، ثم حرمت بعد، حكاه الخطابي.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 508 ] ثانيها: أن هذا قبل ورود الأحكام، وأنه لم يكن تعبد بتحريمه إذ ذاك كالخمر، حكاه الخطابي، وهذا قد أسلفناه في أواخر غسل المني وفركه.

                                                                                                                                                                                                                              ثالثها: سلمنا نجاسته كما هو مذهب الشافعي وأبي حنيفة وآخرين، فإزالة النجاسة ليست واجبة، وقد قال به أشهب والأوزاعي وجماعة من التابعين تنزلنا وسلمنا أيضا، فقد فرق بين ابتداء الصلاة بها، فلا يجوز وبين طروئها على المصلي في نفس الصلاة فيطرحها عنه، وتصح صلاته، حكاه القرطبي ومشهور مذهب مالك قطع طروئها للصلاة إذا لم يمكن طرحها بناء على أن إزالتها واجبة. وروى ابن وهب عن مالك أنه إذا أمكن طرح الثوب النجس في الصلاة يتمادى في صلاته ولا يقطعها، وقد أسلفنا هذا في أول الباب عنه.

                                                                                                                                                                                                                              رابعها: وهو ما ارتضاه النووي - رحمه الله- أنه صلى الله عليه وسلم لم يعلم ما وضع على ظهره، فاستمر في سجوده استصحابا للطهارة، وما ندري هل كانت هذه الصلاة فريضة، فتجب إعادتها على الصحيح عندنا، أم غيرها، فلا يجب؟ فإن وجبت الإعادة فالوقت موسع لها، وإن كان يبعد ألا يحس ما وضع على ظهره، ولئن أحس به فما تحقق نجاسته.

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن بطال: ولا شك أن هذا كان بعد نزول قوله تعالى: وثيابك فطهر [المدثر: 4]؛ لأن هذه الآية أول - أي: من أول- ما نزل عليه [ ص: 509 ] من القرآن قبل كل صلاة، فريضة كانت أو نافلة، وتأولها جمهور السلف أنها في غير الثياب، وأن المراد بها طهارة القلب ونزاهة النفس عن الدناءة والآثام، قالوا: وقول ابن سيرين أنه أراد الثياب، شذوذ لم يقله غيره.




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية