الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 5 ] النصيب الثاني في بيان الاعتصام بالسنة والاجتناب عن البدعة وهو معنى أشهد أن محمدا رسول الله

وإنك إذا جمعت هذين النصيبين ، وأسفر لك الصبح في العينين ، عرفت أن هذا الكتاب كالشرح للكلمة الطيبة التي هي «لا إله إلا الله ، محمد رسول الله» .

اللهم أحينا على هذه الكلمة ، وأمتنا عليها .

[ ص: 6 ] [ ص: 7 ] باب في الاعتصام بالسنة والاجتناب عن البدعة

قال الله تعالى : واعتصموا بحبل الله جميعا [آل عمران : 103] الحبل : لفظ مشترك وأصله في اللغة : السبب الذي يتوصل به إلى البغية .

وهو إما تمثيل ، أو استعارة مصرحة أصلية ، تحقيقية .

أمرهم سبحانه بأن يجتمعوا على التمسك بدين الإسلام ، أو بالقرآن ، وقد وردت أحاديث بأن كتاب الله هو حبل الله ، وأن القرآن هو حبل الله المتين .

قال أبو العالية : بالإخلاص لله وحده . وعن الحسن : بطاعته . وعن قتادة : بعهده وأمره .

وعن ابن زيد : بالإسلام . ولا تفرقوا بعد الإسلام كما تفرقت اليهود والنصارى ، أو كما كنتم في الجاهلية متدابرين .

وقيل : لا تحدثوا ما يكون عنه التفرق ، ويزول معه الاجتماع .

والمعنى : نهاهم عن التفرق الناشئ عن الاختلاف في الدين ، وعن الفرقة; لأن كل ذلك عادة الجاهلية .

والنهي أصل في التحريم ، وقد خالف أكثر الناس هذا النهي ، وتفرقوا فرقا ، وتحزبوا أحزابا ، وتحنفوا ، وتشفعوا ، وتملكوا ، وتحنبلوا ، وأحدثوا بدعا وأقيسة ، زال معها الاجتماع والائتلاف ، وجلس موضعهما التباين والاختلاف ، وقد كانوا مسمين بأهل السنة والجماعة ، فصاروا مسمين بأهل البدعة والفرقة .

[ ص: 8 ] واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا [ آل عمران : 103] .

أمرهم بأن يذكروا نعمة الله عليهم; لأن الشكر على الفعل أبلغ من الشكر على أثره .

وبين لهم من هذه النعمة ما يناسب المقام ، وهو أنهم كانوا أعداء مختلفين ، يقتل بعضهم بعضا ، وينهب بعضهم بعضا ، فأصبحوا بسبب هذه النعمة إخوانا في الدين والولاية .

قال ابن عباس : كانت الحرب بين «الأوس» و «الخزرج» عشرين ومئة سنة ، حتى قام الإسلام ، وأطفأ الله ذلك ، وألف بينهم .

قلت : وسياق الآية الشريفة يشير إلى إيثار الائتلاف ، والكون على صفة الأخوة ، ويرشد سياقها إلى الاعتصام بالكتاب والسنة ، في حكمة ، وينهى عن الافتراق .

وكل آفة جاءت في الإسلام ، وكل بلاء شمل المسلمين ، فإنما هو من هذه الفرقة ، وترك الاعتصام بالقرآن والحديث ، وصار أهل الملة الإسلامية اليوم يضلل بعضهم بعضا ، ويبدع أحدهم الآخر ، ويكفر بعضهم بعضا ، ويرد بعضهم على بعض في التأليفات ، من غير قرآن ولا برهان ، وعاد الزمان كما كان في الجاهلية ، إلا من رحمه الله تعالى .

وهذا من أشراط الساعة ، وأسباب غربة الإسلام وأهله ، فإنا لله وإنا إليه راجعون .

وقال تعالى : ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا [آل عمران : 105] هم اليهود والنصارى ، عند جمهور المفسرين; فقد تفرق كل منهم فرقا ، واختلف كل منهم باستخراج التأويلات الزائغة ، وكتم الآيات النافعة وتحريفها ، لما أخلدوا إليه من حطام الدنيا .

ويدل له حديث عبد الله بن عمرو ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن بني [ ص: 9 ] إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة ، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة ، كلهم في النار إلا ملة واحدة» ، قالوا : من هي يا رسول الله؟ قال : «ما أنا عليه وأصحابي» رواه الترمذي .

وفي رواية أحمد ، وأبي داود ، عن معاوية : «ثنتان وسبعون في النار ، وواحدة في الجنة ، وهي الجماعة . . . إلخ» .

وهذا الحديث نص في محل النزاع; فإنه يدل على أن الفرقة الناجية هي التي يقال لها اليوم : أهل السنة والجماعة .

وفي حق هذه الجماعة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ويد الله على الجماعة ، ومن شذ ، شذ في النار» أخرجه الترمذي عن ابن عمر . وقال : «وإياكم والشعاب ، وعليكم بالجماعة والعامة» رواه أحمد عن معاذ بن جبل .

وروى أيضا أحمد ، وأبو داود ، عن أبي ذر مرفوعا : «من فارق الجماعة شبرا ، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه» .

وفي الباب أحاديث ، كلها تدل على أن الجماعة هي عصابة أهل الكتاب والسنة ، وأن الفرق غيرها هي الشعاب ، كانت ما كانت ، وأن هذه الفرقة دخلت في هذه الأمة من جهة تقليد بني إسرائيل; فإن أصل الداء من عندهم ، والناس مقتدون بهم .

وفيه : إشارة إلى أن المتمذهب بالمذاهب المتفرقة ، خلاف مفهوم الجماعة ، وأنه يخرج أهلها من الاجتماع الذي هو النور إلى الظلمات التي هي الشعاب والمذاهب .

وقيل في الآية : هم المبتدعة من هذه الأمة ، والبدعة تخالف الاعتصام بالقرآن والحديث; لأن في الإتيان بها رفعهما; كما في حديث غضيف بن الحارث يرفعه : «ما أحدث قوم بدعة ، إلا رفع مثلها من السنة ، فتمسك بسنة خير من إحداث بدعة» رواه أحمد .

وعن حسان ، قال : «ما ابتدع قوم بدعة في دينهم ، إلا نزع الله من سنتهم [ ص: 10 ] مثلها ، ثم لا يعيدها إليهم إلى يوم القيامة» رواه الدارمي .

وقيل : المراد بالآية : «الحرورية» ، والأول الظاهر ، وكذا الثاني .

قال بعض أهل العلم : هذا النهي عن التفرق والاختلاف يختص بالمسائل الأصولية .

وأما المسائل الفروعية الاجتهادية ، فالاختلاف فيها جائز ، وما زال الصحابة فمن بعدهم مختلفين في أحكام الحوادث . انتهى .

وتعقبه في «فتح البيان» ، وقال : فيه نظر; فإنه ما زال في تلك العصور المنكر للاختلاف موجودا ، وتخصيص بعض المسائل بجواز الاختلاف فيها ، دون البعض الآخر ، ليس بصواب; فالمسائل الشرعية متساوية الأقدام في انتسابها إلى الشرع . انتهى .

ويوضحه : أن المذاهب في الأصول ثلاثة لا غير : مذهب الماتريدية ، ومذهب الأشعرية ، ومذهب الحنابلة . ولا اختلاف فيما بينهم إلا في مسائل قليلة عديدة لا تزيد على اثنتي عشرة مسألة أو نحوها .

وإنما الاختلاف الكثير الواقع هو في المسائل الفروعية التي لأجلها صارت الأمة جنودا متفرقة ، وأحزابا متباينة ، وهذا هو المنهي عنه ، المذموم على لسان الله ولسان رسوله .

وكم من آيات وأحاديث كثيرة في الأمر بالكون في الجماعة ، والنهي عن الفرقة .

من بعد ما جاءهم البينات [آل عمران : 105]; أي : الحجج الواضحات المبينات للحق ، الموجبات لعدم الاختلاف والفرقة ، فعلموها ثم خالفوها .

وهذه حال هذه الأمة الإسلامية اليوم ، فإنها علمت ما ورد من الله تعالى ورسوله في ذمها والنهي عنها ، ثم خالفت أوامر نبيها ونواهيه ، وتمسكت [ ص: 11 ] بتقليدات الرجال وآراء الأحبار والرهبان ، فكان اختلافها أشد كراهة; لأن العصيان بعد العلم أقبح منه على الجهل .

هذه دواوين السنة المطهرة من كتب الصحاح الستة ونحوها ، قد عمت وطابت ، وهي في أيدي أهل الزمان ، بل في يد كل إنسان ، وقد وقف عليه الفقهاء وأصحاب الرأي ، وإن كان وقوفهم عليها لتأييد المذهب وتشييد النحلة ، فشقاقهم - بعد هذا العبور والعثور - تفرقة واختلاف بعد مجيء البينات القرآنية والحديثية ، وعلى هذا يترتب قوله تعالى : وأولئك لهم ; أي : لهؤلاء الذين تفرقوا واختلفوا عذاب عظيم في الآخرة .

قال في «فتح البيان» : فيه زجر عظيم للمؤمنين عن التفرقة والاختلاف ، ثم ذكر حديث أبي ذر المتقدم وقال عن عمر بن الخطاب : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «من سره أن يسكن بحبوبة الجنة ، فعليه بالجماعة ، فإن الشيطان مع الفذ ، وهو من الاثنين أبعد» رواه البغوي بسنده . انتهى .

وفيه : إشارة إلى أن الاثنين وما فوقهما جماعة .

ومن نعم الله تعالى على هذه الأمة : أن جماعة أهل الحديث قديما وحديثا كثيرة أضعاف أضعاف الاثنين بل ثلث الأمة ، يصدق ذلك كتب طبقات المحدثين ، وأنه لا يزال طائفة منهم ظاهرين على الحق ، لا يضرهم من خالفهم وخذلهم حتى يأتي أمر الله .

اللهم أحينا جماعة ، وأمتنا جماعة ، واحشرنا في زمرة السلف الصلحاء ، وجماعتهم يوم القرار .

يوم تبيض وجوه وتسود وجوه [آل عمران : 106] . قال ابن عباس : يقول : تبيض وجوه أهل السنة والجماعة ، وتسود وجوه أهل البدعة والضلالة . وروي نحوه عن ابن عمر ، وأبي سعيد .

قيل : إن البياض كناية عن الفرح والسرور ، والسواد كناية عن الغم والحزن والشرور .

[ ص: 12 ] وقيل : هما حقيقة يحصلان في الوجه ، وقيل : المراد : وجوه المؤمنين ووجوه الكفار .

ولا مانع من الحمل على الجميع ، فيدخل فيه أهل السنة وأهل البدعة دخولا أوليا .

فأما الذين اسودت وجوههم . قيل : هم أهل الكتاب ، وقيل : المرتدون ، وقيل : المبتدعون ، وقيل : الكافرون . والعموم أولى .

ويقال لهم : أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب أمر إهانة بما كنتم تكفرون ; أي : تنكرون السنة ، وتأخذون البدعة ، وتشركون لا توحدون .

وأما الذين ابيضت وجوههم هم المؤمنون المتبعون للكتاب والسنة ، المجانبون عن البدعة والمحدثات ففي رحمة الله هم فيها خالدون ; أي : مستقرون في الجنة دار الكرامة .

وقال تعالى : إن الذين فرقوا دينهم [الأنعام : 159]; أي : تركوه وخرجوا عنه باختلافهم فيه .

يعني : جعلوا دينهم متفرقا ، فأخذوا ببعضه ، وتركوا بعضه ، وتمسكوا بالبدع والمحدثات; من التقليد ، والرأي ، ورفضوا السنة والاتباع .

قيل : المراد بهم : أهل الكتاب ، وقيل : المشركون . وقال أبو هريرة : هم أهل الضلالة من هذه الأمة . وقيل : عام في جميع الكفار ، وفي كل من ابتدع وجاء بما لم يأمر به الله .

وهذا هو الراجح الأظهر; لأن اللفظ يفيد العموم ، فيدخل فيه طوائف أهل الكتاب ، وأهل الشرك والبدع من أهل الإسلام .

أخرج ابن جرير ، والطبراني ، وابن مردويه ، والحكيم الترمذي ، والشيرازي في «الألقاب» عن أبي هريرة ، عنه صلى الله عليه وسلم في الآية ، قال : هم أهل البدع والأهواء من هذه الأمة» ، والصحيح أنه موقوف .

[ ص: 13 ] وعن عمر - رضي الله عنه - : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعائشة : «يا عائش! إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا هم أصحاب البدع ، وأصحاب الأهواء ، وأصحاب الضلالة من هذه الأمة ، ليست لهم توبة ، وهم مني براء» رواه الطبراني ، والبيهقي ، وأبو نعيم ، وغيرهم .

قال ابن كثير : هو غريب لا يصح رفعه ، يعني : أنه موقوف .

ولكن مثل هذا لا يقال من الرأي ، فله حكم الرفع ، ويدل له أحاديث أخرى مرفوعة .

وعلى كل حال ، المراد بهذه الآية : الحث على أن تكون كلمة المسلمين واحدة ، وألا يتفرقوا في الدين ، ولا يبتدعوا البدع المضلة .

روى أبو داود والترمذي عن معاوية ، قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : «ألا إن من كان قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين ملة ، وإن هذه الملة ستفترق على ثلاثة وسبعين ، ثنتان وسبعون في النار ، وواحدة في الجنة ، وهي الجماعة» .

وعن ابن عمرو بن العاص يرفعه : «إن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة ، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة ، كلها في النار ، إلا ملة واحدة» ، قالوا : ومن هي يا رسول الله؟ قال : «من كان على ما أنا عليه وأصحابي» رواه الترمذي .

وقد بين صاحب كتاب «خبيئة الأكوان في افتراق الأمم على المذاهب والأديان» ، وكتاب «حجج الكرامة» حال هذه الفرق الثلاثة والسبعين ، وسماهم ، وعين الفرقة الناجية منهم .

ومن هذا التفريق : هذه المذاهب الأربعة في أهل السنة ، وهذه الجماعات الأربعة في الحرم الشريف ، نص على ذلك جماعة من أهل السنة في مؤلفاتهم .

وكانوا شيعا ; أي : فرقا وأحزابا .

[ ص: 14 ] فيصدق على كل قوم كان أمرهم في الدين واحدا [وهم] مجتمعون ، ثم اتبع كل جماعة منهم رأي كبير من كبرائهم ، يخالف الصواب وبيان الحق .

وما أبلغ هذه الآية ! فإنها تشير إلى ذم التشيع ، وصحة إطلاق هذه اللفظة على كل مخالف للجماعة وأهل السنة . لست منهم ; أي : من تفرقهم ، أو من السؤال عن سبب تفرقهم ، والبحث عن موجب تحزبهم في شيء من الأشياء ، فلا يلزمك من ذلك شيء ، ولا تخاطب به ، إنما عليك البلاغ . والمعنى : أنت بريء منهم . وقال الفراء : لست من عقابهم في شيء ، وإنما عليك الإنذار .

إنما أمرهم إلى الله في الجزاء والمكافأة على تشيعهم وتشعبهم ، ثم ينبئهم يوم القيامة ، ويخبرهم بما ينزل بهم من المجازاة بما كانوا يفعلون من الأعمال التي تخالف ما شرعه الله لهم ، وأوجب عليهم من اتباع الكتاب والسنة ، واجتناب البدع والضلالة ، وإيثار التوحيد على الشرك والتنديد ، واختيار الاعتصام وترك التقليد .

وقال تعالى : ولا تكونوا من المشركين [الروم : 31]; أي : من يشرك به تعالى غيره في العبادة من الذين فرقوا دينهم باختلافهم فيما يعبدونه وكانوا شيعا «الشيع» : الفرق; أي : ولا تكونوا من الذين تفرقوا في الدين ، يشايع بعضهم بعضا ، من أهل البدع والأهواء ، فيصلي بعضهم في مصلى الحنفية ، وبعضهم في مصلى الحنبلية ، وبعضهم في مصلى المالكية ، وبعضهم في مصلى الشافعية في «الحرم الشريف المكي» حيث اختار كل ذي مذهب معين شخصي مقلد لإمامه ، مصلى خاصا له ولأهل جلدته ، وهذا من أقبح البدعات .

وكذلك حال من لا يصلي في مسجد أهل الحديث ، ولا يترك أهل الحديث يصلون في مساجدهم .

وقرئ : (فارقوا دينهم) ; أي : الذي يجب اتباعه ، وهو التوحيد ، وهي قراءة سبعية .

كل حزب ; أي : كل فريق من فرق الضلال ، والبدع ، والأهواء ، والآراء ، [ ص: 15 ] والإشراك ، والكفر بما لديهم من الدين المبني على غير الصواب ، وجاءهم من الأمهات والآباء والأحبار والرهبان الذين هم لهم أرباب فرحون [الروم : 32]; أي : مسرورون مبتهجون ، يظنون أنهم على الحق ، وليس بأيديهم منه شيء .

ومعيار ذلك يظهر عند عرض المجتهدات ، والأقيسة الباطلات ، والآراء الفاسدات ، والتأويلات الكاسدات ، على نصوص الكتاب العزيز ، وأدلة السنة المطهرة .

وهذا تسجيل من الله - عز وجل - ، وتوقيع منه سبحانه لتاركي القرآن والحديث ، على أن ظنهم هذا وفرحهم بذلك باطل ، وليس لهم من أصل الحق والصواب شيء ، ولنعم ما قيل :

وكل يدعي وصلا لليلى وليلى لا تقر لهم بذاكا

وقال تعالى : وأن هذا صراطي مستقيما [الأنعام : 153]; أي : ما ذكر في هذه الآيات من الأوامر والنواهي . قاله مقاتل . وقيل : الإشارة إلى ما ذكر في السورة; فإنها بأسرها في إثبات التوحيد والنبوة ، وبيان الشريعة .

و «الصراط» : هو طريق دين الإسلام . و «المستقيم» : المستوي ، الذي لا اعوجاج فيه .

وقد تشعبت منه طرق ، فمن سلك الجادة ، نجا ، ومن خرج إلى الطرق ، أفضت به إلى النار .

فاتبعوه وأمرهم باتباع جملته وتفصيله ولا تتبعوا السبل نهاهم عن اتباع سائر الأديان المتباينة طرقها ، والمذاهب المستحدثة سبلها ، والأهواء المضلة ، والبدع والآراء المختلفة .

فتفرق بكم عن سبيله ; أي : فتميل بكم عن سبيل الله المستقيم ، الذي هو اتباع الكتاب والسنة .

قال ابن عطية : هذه السبل تعم اليهودية ، والنصرانية ، والمجوسية ، وسائر [ ص: 16 ] أهل الملل ، وأهل البدع والضلالات ، من أهل الأهواء والشذوذ ، في الفروع ، وغير ذلك ، من أهل التعمق في الجدل ، والخوض في الكلام ، وهذه كلها عرضة للزلل ، ومظنة لسوء المعتقد .

قال قتادة : اعلموا أن السبيل واحد : جماعة الهدى ، ومصيره الجنة ، وأن إبليس استبدع سبلا متفرقة : جماعة الضلالة ، ومصيره إلى النار .

ثم ذكر حديث : «خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا» ، وسيأتي . قال ابن عباس : السبل : الضلالات .

قال ابن مسعود : من سره أن ينظر إلى الصحيفة التي عليها خاتم محمد صلى الله عليه وسلم ، فليقرأ هؤلاء الآيات . أخرجه الترمذي ، وحسنه .

ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون ; أي : أكد عليكم الوصية بما تقدم ذكره ، من اتباع سبيل واحد ، هو اقتداء الكتاب والسنة; لعلكم تخافون ما نهاكم عنه من الطرق المختلفة ، والسبل البدعية المضلة .

وقال تعالى : قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله [آل عمران : 31] . الحب والمحبة : ميل النفس إلى الشيء لكمال أدركته فيه .

يقال : أحبه ، فهو محب . وحبه يحبه - بالكسر - فهو محبوب .

قال : ابن الدهان في «حب» لغتان : حب ، و «أحب» ، وقد فسرت المحبة لله سبحانه بإرادة طاعته .

قال الأزهري : محبة العبد لله ولرسوله : طاعته لهما ، واتباعه أمرهما . ومحبة الله للعباد : إنعامه عليهم بالغفران .

وقيل : العبد إذا علم أن الكمال الحقيقي ليس إلا لله ، وأن كل ما يراه كمالا من نفسه أو من غيره ، فهو من الله وبالله ، لم يكن حبه إلا لله ، وفي الله ، وذلك يقتضي إرادة طاعته والرغبة فيما يقربه إليه .

فلذلك فسرت المحبة بإرادة الطاعة ، وجعلت مستلزمة لاتباع الرسول صلى الله عليه وسلم في عبادته ، والحث على مطاوعته ، قاله القاضي .

[ ص: 17 ] أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن الحسن ، من طرق ، قال : قال أقوام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا محمد! إنا لنحب ربنا ، فأنزل الله هذه الآية ، وفي حديث عائشة عند ابن أبي حاتم ، وأبي نعيم في «الحلية» مرفوعا : وهل الدين إلا الحب والبغض في الله» .

قال الله تعالى : قل إن كنتم تحبون الله الآية . والمعنى : إن كنتم صادقين في ادعاء محبة الله ، فكونوا منقادين لأوامره وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم ، مطيعين لهما ، فإن اتباع الرسول من محبة الله وطاعته .

وفيه : حث على اتباع النبي صلى الله عليه وسلم ، وإشارة إلى ترك التقليد المشؤوم عند وضوح النص من الكتاب والسنة ، وأن دعوى محبة الله ، أو محبة الرسول بدون اتباع القرآن والحديث ، وترجيحهما على كل قول قديم وحديث باطلة لا تصح من قائلها ، وأن محبة الله لعباده موقوفة على الاعتصام بكتابه وسنة رسوله .

ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم [آل عمران : 31] يغفر ذنوب الموحدين المتبعين ، ويرحمهم بفضله وكرمه .

وهذا تذييل مقرر لما قبله قل أطيعوا الله والرسول حذف المتعلق مشعر بالتعميم; أي : في جميع الأوامر والنواهي .

والمقلد غير مطيع لله وللرسول ، بل يطيع من يقلده من الأئمة والكبراء ، بل هو مشاق بهذا لهما ، حيث ترك إطاعة الله واتباع الرسول ، وأطاع غيرهما ، من غير حجة نيرة وبرهان جلي .

فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين [آل عمران : 32] فيه : أن الإعراض عن إطاعة الله ، واتباع رسوله من شأن الكفار ، وأنه سبحانه لا يرضى بفعلهم ، ولا يغفر لهم .

والآية دليل على أن الدين المرضي هو الإسلام ، وأن محمدا هو الرسول صلى الله عليه وسلم ، الذي لا يصح لأحد أن يحب الله إلا باتباعه .

[ ص: 18 ] وأن من تعلق بغير كتابه وسنة رسوله ، فهو عن الاتباع المطلوب منه بمعزل . وفي هذا وعيد عظيم لا يقادر قدره ، ولا يبلغ مداه .

التالي السابق


الخدمات العلمية