الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف - رحمه الله تعالى - ( ويحرم عليه استعمال الطيب في ثيابه وبدنه لحديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { ولا يلبس من الثياب ما مسه ورس أو زعفران } ويجب به الفدية قياسا على الحلق ولا يلبس ثوبا مبخرا بالطيب ولا ثوبا مصبوغا بالطيب وتجب به الفدية قياسا على ما مسه الورس والزعفران وإن علق بخفه طيب وجبت به الفدية ; لأنه ملبوس فهو كالثوب ويحرم عليه استعمال الطيب في بدنه ولا يجوز أن يأكله ولا أن يكتحل به ولا أن يستعط به ولا يحتقن به فإن استعمله في شيء من ذلك لزمته الفدية ; لأنه إذا وجب ذلك فيما يستعمله في الثياب فلأن يجب فيما يستعمله في بدنه [ ص: 282 ] أولى وإن كان الطيب في طعام نظرت فإن ظهر في طعمه أو رائحته لم يجز أكله وتجب به الفدية وإن ظهر ذلك في لونه وصبغ به اللسان من غير طعم ولا رائحة فقد قال في المختصر والأوسط من الحج : لا يجوز وقال في الأم والإملاء : يجوز قال أبو إسحاق : يجوز قولا واحدا وتأول قوله في الأوسط على ما إذا كانت له رائحة ومنهم من قال : فيه قولان : ( أحدهما ) لا يجوز ; لأن اللون إحدى صفات الطيب فمنع من استعماله كالطعم والرائحة ( والثاني ) يجوز وهو الصحيح ; لأن الطيب بالطعم والرائحة )

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) حديث ابن عمر رواه البخاري ومسلم ( وقوله ) : قياسا على الحلق إنما قاس عليه ; لأنه منصوص عليه في القرآن وفي حديث كعب بن عجرة السابق وقوله : وإن علق بخفه طيب قال الفارقي : " وفرض هذا في النعل أولى ; لأن النعل يجوز له لبسه والخف يحرم لبسه قال : ويمكن تصويره بأن يكون قد لبسه ولزمته الفدية " وعلق به الطيب فيلزمه فدية هذا كلامه وهو متصور في النعل وفي الخف كما ذكره وفيما لو لبس خفا مقطوعا للعجز عن النعلين وفيما لو لبس الخفين جاهلا تحريمهما وعلق به طيب وهو يعلم تحريمه أما الأحكام فقال الشافعي والأصحاب : يحرم على الرجل والمرأة استعمال الطيب وهذا مجمع عليه لحديث ابن عمر قال أصحابنا : واستعمال الطيب هو أن يلصق الطيب ببدنه أو ملبوسه على الوجه المعتاد في ذلك الطيب فلو طيب جزءا من بدنه بغالية أو مسك مسحوق أو ماء ورد لزمته الفدية سواء الإلصاق بظاهر البدن أو باطنه بأن أكله أو احتقن به أو استعط أو اكتحل أو لطخ به رأسه أو وجهه أو غير ذلك من بدنه أثم ولزمته الفدية ولا خلاف في شيء من ذلك إلا الحقنة والسعوط ففيهما وجه أنه لا فدية فيهما حكاه الرافعي وهو ضعيف .

                                      ( والمشهور ) وجوب الفدية وبه قطع المصنف والجمهور ولو لبس ثوبا مبخرا بالطيب أو ثوبا مصبوغا بالطيب أو علق بنعله طيب لزمته الفدية لما ذكره المصنف [ ص: 283 ] ولو عبقت رائحة الطيب دون عينه بأن جلس في دكان عطار أو عند الكعبة وهي تبخر أو في بيت يبخر ساكنوه فلا فدية بلا خلاف ثم إن لم يقصد الموضع لاشتمام الرائحة لم يكره وإن قصد لاشتمامها ففي كراهته قولان للشافعي : ( أصحهما ) يكره وبه قطع القاضي أبو الطيب وآخرون وهو نصه في الإملاء ( والثاني ) لا يكره وقطع القاضي حسين بالكراهة وقال : إنما القولان في وجوب الفدية ( والمذهب ) الأول وبه قطع الأكثرون وقطع البندنيجي أنه لا يكره القرب من الكعبة لشم الطيب قال : وإنما القولان في غيرها وليس كما قال بل المذهب طرد الخلاف في الجميع ولو احتوى على مجمرة فتبخر بالعود بدنه أو ثيابه لزمته الفدية بلا خلاف ; لأنه يعد استعمالا ولو مس طيبا يابسا كالمسك والكافور والذريرة فإن علق بيده لونه وريحه وجبت الفدية بلا خلاف ; لأن استعماله هكذا يكون وإن لم يعلق بيده شيء من عينه لكن عبقت به الرائحة ففي وجوب الفدية قولان : ( الأصح ) عند الأكثرين هو نصه في الأوسط لا تجب ; لأنها عن مجاورة فأشبه من قعد عند الكعبة وهي تبخر ( والثاني ) تجب وصححه القاضي أبو الطيب وهو في الأم والإملاء والقديم ; لأنها عن مباشرة وإن كان الطيب رطبا فإن علم أنه رطب وقصد مسه فعلق بيده لزمته الفدية وإن ظن أنه يابس فمسه فعلق بيده فقولان : ( أحدهما ) تجب الفدية ; لأنه مسه قاصدا فصار كمن علم أنه رطب ( والثاني ) لا ; لأنه علق به بغير اختياره فصار كمن رش عليه ماء ورد بغير اختياره وذكر الدارمي أن هذا القول الثاني نصه في الجديد والأول هو القديم ولذلك ذكره صاحب التقريب قال الرافعي : رجح إمام الحرمين وغيره الوجوب ورجحت طائفة عدم الوجوب قلت : هذا أصح ; لأنه نصه في الجديد ولأنه غير قاصد وقد ذكر المصنف المسألة في أواخر الباب في استعمال الطيب ناسيا والله أعلم .

                                      [ ص: 284 ] ولو شد مسكا أو كافورا أو عنبرا في طرف ثوبه أو جبته أو لبسته المرأة حشوا بشيء منها وجبت الفدية قطعا ; لأنه استعماله ولو شد العود فلا فدية ; لأنه لا يعد تطيبا بخلاف شد المسك ولو شم الورد فقد تطيب ولو شم ماء الورد فلا بل استعماله أن يصبه على بدنه أو ثوبه ولو حمل مسكا أو طيبا في كيس أو خرقة مشدودا أو قارورة مصممة الرأس أو حمل الورد في وعاء فلا فدية نص عليه في الأم وقطع به الجمهور وفيه وجه شاذ أنه إن كان يشم قصدا لزمته الفدية ولو حمل مسكا في قارورة غير مشقوقة فلا فدية في أصح الوجهين وبه قطع القاضي أبو الطيب ونقله عن الأصحاب ولو كانت القارورة مشقوقة أو مفتوحة الرأس قال الأصحاب : وجبت الفدية قال الرافعي : وفيه نظر ; لأنه لا يعد طيبا ولو جلس على فراش مطيب أو أرض مطيبة أو نام عليها مفضيا إليها ببدنه أو ملبوسه لزمته الفدية ولو فرش فوقه ثوبا ثم جلس عليه أو نام لم تجب الفدية نص عليه الشافعي في الأم واتفق عليه الأصحاب .

                                      لكن إن كان الثوب رقيقا كره وإلا فلا ولو داس بنعله طيبا لزمته الفدية ( فرع ) لو خفيت رائحة الطيب أو الثوب المطيب لمرور الزمان أو لغبار وغيره فإن كانت بحيث لو أصابه الماء فاحت رائحته حرم استعماله وإن بقي اللون لم يحرم على أصح الوجهين ولو انغمر شيء من الطيب في غيره كماء ورد انمحق في ماء كثير لم تجب الفدية باستعماله على أصح الوجهين فلو انغمرت الرائحة وبقي اللون أو الطعم ففيه الخلاف الذي سنذكره إن شاء الله - تعالى - في الطعام المطيب ( أما ) إذا أكل طعاما فيه زعفران أو طيب آخر أو استعمل مخلوطا بالطيب لا لجهة الأكل فينظر إن استهلك الطيب فلم يبق له ريح ولا طعم ولا لون فلا فدية بلا خلاف وإن ظهرت هذه الأوصاف وجبت الفدية بلا خلاف وإن بقيت الرائحة فقط وجبت الفدية ; لأنه يعد طيبا وإن بقي اللون وحده فطريقان مشهوران ذكرهما المصنف والأصحاب ودليلهما في الكتاب : ( أصحهما ) [ ص: 285 ] على قولين : ( أصحهما ) لا فدية وهو نصه في الأم والإملاء والقديم ( والثاني ) يجب وهو نصه في الأوسط ( والطريق الثاني ) لا فدية قطعا وإن بقي الطعم فقط فثلاث طرق ذكرها صاحب الشامل والبيان وغيرهما ( أصحهما ) وجوب الفدية قطعا وبه قطع المصنف والجمهور ونقل القاضي أبو الطيب في تعليقه اتفاق الأصحاب عليه كالرائحة ( والثاني ) فيه طريقان : ( والثالث ) لا فدية وهذا ضعيف أو غلط . وحكى البندنيجي طريقا رابعا لا فدية قطعا ولو أكل الحليحلتين المربى في الورد نظر في استهلاك الورد فيه وعدمه قال الرافعي : ويجيء فيه هذا التفصيل أطلق الدارمي أنه إن كان فيه ورد ظاهر وجبت الفدية قال الماوردي والروياني : لو أكل العود لا فدية عليه ; لأنه لا يعد تطييبا إلا بالتبخر به بخلاف المسك والله أعلم



                                      ( فرع ) لو كان المحرم أخشم لا يجد رائحة فاستعمل الطيب لزمته الفدية بلا خلاف ; لأنه وجد استعمال الطيب مع العلم بتحريمه فوجبت الفدية وإن لم ينتفع به كما لو نتف شعر لحيته أو غيرها من شعوره التي لا ينفعه نتفها وممن صرح بالمسألة المتولي وصاحبا العدة والبيان



                                      ( فرع ) قال القاضي أبو الطيب في تعليقه : قال الشافعي في الأم : وإن لبس إزارا مطيبا لزمته فدية واحدة للطيب ولا شيء عليه في اللبس ; لأن لبس الإزار مباح قال : وإن جعل على رأسه الغالية لزمه فديتان إحداهما للطيب والثانية لتغطيته رأسه وهما جنسان فلا يتداخلان هذا نقل القاضي وكذا نقله غيره قال الدارمي : لو لبس إزارا غير مطيب ولبس فوقه إزارا آخر مطيبا قال ابن القطان فيه وجهان يعني هل تجب فيه فدية أم فديتان ؟ الأصح فدية ; لأن جنس الإزار مباح ولو طبق أزرا كثيرة بعضها فوق بعض جاز




                                      الخدمات العلمية