الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله - عز وجل -:

وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون

الضمير في "قدروا"؛ و"قالوا"؛ قيل يراد به العرب؛ قاله مجاهد ؛ وغيره؛ وقيل: يراد به بنو إسرائيل؛ قاله ابن عباس - رضي الله عنهما -؛ وقيل: رجل مخصوص منهم؛ يقال له: مالك بن الصيف؛ قاله سعيد بن جبير ؛ وقيل: في فنحاص؛ قاله السدي .

و"قدروا"؛ هو من توفية القدر والمنزلة؛ فهي عامة يدخل تحتها من لم يعرف؛ ومن لم يعظم؛ وغير ذلك؛ غير أن تعليله بقولهم: "ما أنزل الله"؛ يقضي بأنهم جهلوا؛ ولم يعرفوا الله تعالى حق معرفته؛ إذ أحالوا عليه تعالى بعثه الرسل - عليهم السلام -؛ و"حق"؛ نصب على المقدر؛ ومن قال "إن المراد كفار العرب"؛ فيجيء الاحتجاج عليهم بقوله: من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى ؛ احتجاجا بأمر مشهور؛ منقول بكافة قوم لم تكن العرب مكذبة لهم؛ ومن قال: "إن المراد بنو إسرائيل"؛ فيجيء الاحتجاج عليهم مستقيما؛ لأنهم يلتزمون صحة نزول الكتاب على موسى - عليه السلام.

وروي أن مالك بن الصيف كان سمينا؛ فجاء يخاصم النبي - صلى اللـه عليه وسلم - بزعمه؛ فقال له رسول الله - صلى اللـه عليه وسلم -: "أنشدك الله؛ ألست تقرأ فيما أنزل على موسى أن الله يبغض الحبر السمين؟"؛ فغضب؛ وقال: "والله ما أنزل الله على بشر من شيء".

[ ص: 416 ] والآية - على قول من قال: نزلت في قول بني إسرائيل - تلزم أن تكون مدنية؛ وكذلك حكى النقاش أنها مدنية؛ وقرأ الحسن؛ وعيسى الثقفي ؛ وغيرهما: "وما قدروا"؛ بتشديد الدال؛ "الله حق قدره"؛ بفتح الدال؛ وقرأ الجمهور في الأول بالتخفيف؛ وفي الثاني بإسكانه.

وقوله تعالى قل من أنزل الكتاب ؛ الآية؛ أمره الله تعالى أن يستفهم على جهة التقرير على موضع الحجة؛ والمراد بـ "الكتاب"؛ التوراة؛ و"نورا وهدى"؛ اسمان في موضع الحال؛ بمعنى: "نيرا؛ وهاديا"؛ فإن جعلناه حالا من "الكتاب"؛ فالعامل فيه "أنزل"؛ وإن جعلناه حالا من الضمير في "به"؛ فالعامل فيه "جاء".

وقرأ جمهور الناس: "تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون"؛ بالتاء من فوق؛ في الأفعال الثلاثة؛ فمن رأى أن الاحتجاج على بني إسرائيل؛ استقامت له هذه القراءة؛ وتناسقت مع قوله تعالى وعلمتم ما لم تعلموا ؛ ومن رأى أن الاحتجاج إنما هو على كفار العرب؛ فيضطر في هذه القراءة - إذ لا يمكن رفعها - إلى أن يقول: إنه خرج من مخاطبة قريش في استفهامهم؛ وتقريرهم؛ إلى مخاطبة بني إسرائيل؛ بتوبيخهم؛ وتوبيخ أفعالهم.

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وهذا مع بعده أسهل من دفع القراءة؛ فكأنه - على هذا التأويل - قال لقريش: "من أنزل الكتاب على موسى؟"؛ ثم اعترض على بني إسرائيل؛ فقال لهم - خلال الكلام -: "تجعلونه أنتم يا بني إسرائيل قراطيس"؛ وقرأ ابن كثير ؛ وأبو عمرو : "يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيرا"؛ بالياء في الأفعال الثلاثة؛ فمن رأى الاحتجاج على قريش رآه إخبارا من الله - عز وجل - بما فعلته اليهود في الكتاب؛ ويحتمل أن يكون الإخبار بذلك لقريش؛ أو للنبي - صلى اللـه عليه وسلم - وحده؛ وما أخبر به النبي - صلى اللـه عليه وسلم - في القرآن؛ فأمته متلقية ذلك.

و"قراطيس"؛ جمع قرطاس؛ أي بطائق؛ وأوراقا؛ والمعنى يجعلونه ذا قراطيس؛ من حيث يكتب فيها؛ وتوبيخهم بالإبداء؛ والإخفاء؛ هو على إخفائهم آيات محمد - عليه الصلاة والسلام -؛ والإخبار بنبوته؛ وجميع ما عليهم فيه حجة.

[ ص: 417 ] وقوله: وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم ؛ قال مجاهد ؛ وغيره: هي مخاطبة للعرب؛ فالمعنى - على هذا - قصد ذكر منة الله تعالى عليهم بذلك؛ أي: "علمتم يا معشر العرب من الهدايات؛ والتوحيد؛ والإرشاد إلى الحق؛ ما لم تكونوا عالمين به؛ ولا آباؤكم".

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وقوله تعالى وعلمتم ما لم تعلموا ؛ يصلح - على هذا المعنى - لمخاطبة من انتفع بالتعليم؛ ومن لم ينتفع به؛ ويصح الامتنان بتعليم الصنفين؛ وليس من شرط من علم أن يعلم ولا بد؛ أما إن التعليم الكامل هو الذي يقع معه التعلم.

وقالت فرقة: بل هي مخاطبة لبني إسرائيل؛ والمعنى - على هذا - يترتب على وجهين: أحدهما أن يقصد به الامتنان عليهم وعلى آبائهم؛ بأن علموا من دين الله تعالى وهداياته ما لم يكونوا عالمين به؛ لأن آباء المخاطبين من بني إسرائيل كانوا علموا أيضا؛ وعلم بعضهم؛ وليس ذلك في آباء العرب؛ والوجه الآخر أن يكون المقصود ذمهم؛ أي: "وعلمتم أنتم وآباؤكم ما لم تعلموه بعد التعليم؛ ولا انتفعتم به؛ لإعراضكم؛ وضلالكم".

ثم أمره تعالى بالمبادرة إلى موضع الحجة؛ أي: "قل لهم: الله تعالى هو الذي أنزل الكتاب على موسى"؛ ويحتمل أن يكون المعنى: "فإن جهلوا؛ أو تحيروا؛ أو سألوا؛ أو نحو هذا؛ فقل: الله"؛ ثم أمره بترك من كفر وأعرض.

وهذه آية منسوخة بآية القتال؛ إن تؤولت موادعة؛ وقد يحتمل ألا يدخلها نسخ إذا جعلت تتضمن تهديدا؛ ووعيدا مجردا من موادعة.

والخوض: الذهاب فيما لا تسبر حقائقه؛ وأصله في الماء؛ ثم يستعمل في المعاني المشكلة الملتبسة؛ و"يلعبون"؛ في موضع الحال.

التالي السابق


الخدمات العلمية