الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            صفحة جزء
            46 - أعذب المناهل

            في حديث من قال أنا عالم فهو جاهل

            بسم الله الرحمن الرحيم

            الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى ، سئلت عن حديث من قال : أنا عالم فهو جاهل .

            الجواب : هذا إنما يعرف من كلام يحيى بن أبي كثير موقوفا عليه على ضعف في إسناده إليه ، ويحيى من صغار التابعين فإنه رأى أنس بن مالك وحده ، وقد يعد في أتباع التابعين باعتبار أنه لم يلق غيره من الصحابة ، ولا يعرف له عن أحد منهم رواية متصلة ، وقد وهم بعض الرواة فرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم إن وجد عنه الجزم بذلك ، وذلك أن الحديث أخرجه الطبراني في الأوسط من طريق ليث بن أبي سليم عن مجاهد عن ابن عمر لا أعلمه إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره ، وقال الطبراني : لا يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا بهذا الإسناد ، وهذا الحديث حكم عليه الحفاظ بالوهم في رفعه ، فإن ليث بن أبي سليم متفق على ضعفه ، قال فيه أحمد بن حنبل : مضطرب الحديث . وقال : ما رأيت يحيى بن سعيد أسوأ رأيا في أحد منه في ليث لا يستطيع أحد أن يراجعه فيه ، وقال فيه ابن معين ، والنسائي : ضعيف ، وقال فيه ابن معين : ليث أضعف من عطاء بن السائب ، وقال عثمان بن أبي شيبة : سألت جريرا عن ليث ، وعن عطاء بن السائب ، وعن يزيد بن أبي زياد فقال : كان يزيد أحسنهم استقامة في الحديث ثم عطاء ، وكان ليث أكثرهم تخليطا ، قال عبد الله بن أحمد بن حنبل : وسألت أبي عن هذا فقال : أقول كما قال جرير ، وقال إبراهيم بن سعيد الجوهري : حدثنا يحيى بن معين عن يحيى بن سعيد القطان أنه كان لا يحدث عن ليث [ ص: 10 ] بن أبي سليم ، وقال عمرو بن علي : كان يحيى لا يحدث عن ليث بن أبي سليم ، وقال أبو معمر القطيعي : كان ابن عيينة يضعف ليث بن أبي سليم ، وقال علي بن المديني : قلت لسفيان : إن ليثا روى عن طلحة بن مصرف عن أبيه عن جده أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ ، فأنكر ذلك سفيان وعجب منه أن يكون جد طلحة لقي النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال علي بن محمد الطنافسي : سألت وكيعا عن حديث من حديث ليث بن أبي سليم ، فقال : ليث ليث كان سفيان لا يسمى ليثا ، وقال قبيصة ، قال شعبة لليث بن أبي سليم : أين اجتمع لك عطاء ، وطاووس ، ومجاهد ؟ فقال : إذ أبوك يضرب بالخف ليلة عرسه فما زال شعبة متقيا لليث مذ يومئذ ، وقال أبو حاتم : أقول في ليث كما قال جرير بن عبد الحميد ، وقال ابن أبي حاتم : سمعت أبي ، وأبا زرعة يقولان : ليث لا يشتغل به وهو مضطرب الحديث ، وقال أبو زرعة أيضا : ليث لا تقوم به الحجة عند أهل العلم بالحديث ، وقال مؤمل بن الفضل : قلنا لعيسى بن يونس : لم تسمع من ليث بن أبي سليم ؟ قال : قد رأيته وكان قد اختلط وكان يصعد المنارة ارتفاع النهار فيؤذن ، وقال ابن حبان : اختلط في آخر عمره .

            هذا مجموع كلام أئمة الحديث في تخريجه .

            والحاصل أنه كان في حال صحة عقله كثير التخليط في حديثه بحيث جرح بسبب ذلك ، ثم طرأ له بعد ذلك الاختلاط في عقله فازداد حاله سوءا ، وحكم المختلط الذي كان قبل اختلاطه من الثقات الحفاظ المحتج بهم أن ما رواه بعد اختلاطه يرد ، وكذا ما شك فيه هل رواه قبل الاختلاط أو بعده فإنه مردود .

            فإذا كان هذا حكم من اختلط من الثقات الحفاظ الذين يحتج بهم فكيف بمن اختلط من الضعفاء المجروحين الذين لا يحتج بهم قبل طروء الاختلاط عليهم ؟ وقد جرت عادة الحفاظ إذا ترجموا أحدا ممن تكلم فيه أن يسردوا في ترجمته كثيرا من الأحاديث التي أنكرت عليه ، وإن كان له أحاديث سواها صالحة نبهوا على أن ما عدا ما سردوه من أحاديثه صالح مقبول ، خصوصا إذا كان ذلك الرجل ممن خرج له في أحد الصحيحين فإنهم يقولون : إن صاحب الصحيح لم يخرج من حديثه إلا ما صح عنده من طريق غيره فلا يلزم من ذلك قبول كل ما رواه ، هكذا نصوا عليه . وهذا الرجل روى له مسلم مقرونا بأبي إسحاق الشيباني فالحجة في رواية أبي إسحاق ، والحديث الذي خرجه صحيح من طريق أبي إسحاق ، لا من طريق ليث بن أبي سليم . ولما ترجمه ابن عدي في الكامل سرد أحاديثه التي أنكرت عليه ، ثم قال : له أحاديث صالحة غير ما ذكرت ، وكذا صنع الحافظ الذهبي في الميزان سرد له أكثر من عشرة أحاديث أنكرت [ ص: 11 ] عليه منها هذا الحديث الذي نحن فيه - أعني حديث : " من قال أنا عالم فهو جاهل " - وحديث : " من ولد له ثلاثة أولاد فلم يسم أحدهم محمدا فقد جهل " . وقد أورده ابن الجوزي في الموضوعات ، وحديث : " كان باليمن ماء يقال له زعاق من شرب منه مات ، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم وجه إليه : أيها الماء أسلم فقد أسلم الناس ، فكان بعد ذلك من شرب منه حم ولا يموت ، في أحاديث أخر على أن هذا الحديث الذي نحن فيه لم يجزم ليث برفعه ; لقوله فيما تقدم : لا أعلمه إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم وهذه صيغة تقال عند الشك .

            ومما يؤيد بطلان هذا الحديث الذي نحن فيه من جهة المعنى ثبوت هذا اللفظ عن جماعة من الصحابة منهم علي بن أبي طالب ، وعبد الله بن مسعود ، ومعاوية بن أبي سفيان ، وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم ، وما كان هؤلاء ليقعوا في شيء ورد فيه ذم عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وكذا ثبت مثل ذلك عن خلائق لا يحصون من التابعين فمن بعدهم كما سقت رواياتهم وألفاظهم في الكتاب المسمى - بالصواعق على النواعق - ولا شك أن مثل هؤلاء الأئمة لا يطبقون على التلفظ بما ذم النبي صلى الله عليه وسلم التلفظ به ، وأبلغ من ذلك قول نبي الله يوسف عليه السلام فيما حكاه الله عنه في التنزيل ( إني حفيظ عليم ) . فإن قلت : كيف حكم على الحديث بالإبطال وليث لم يتهم بكذب ؟ قلت : الموضوع قسمان : قسم تعمد واضعه وضعه وهذا شأن الكذابين ، وقسم وقع غلطا لا عن قصد وهذا شأن المخلطين والمضطربين في الحديث كما حكم الحفاظ بالوضع على الحديث الذي أخرجه ابن ماجه في سننه وهو : " من كثرت صلاته بالليل ، حسن وجهه بالنهار " فإنهم أطبقوا على أنه موضوع ، وواضعه لم يتعمد وضعه وقصته في ذلك مشهورة . وإلى ذلك أشار العراقي في ألفيته بقوله :

            ومنه نوع وضعه لم يقصد

            ، نحو حديث ثابت : " من كثرت صلاته " الحديث .

            وأكثر ما يقع الوضع للمغفلين والمخلطين والسيئ الحفظ بعزو كلام غير النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم إليه إما كلام تابعي ، أو حكيم ، أو أثر إسرائيلي كما وقع في : " المعدة بيت الداء " ، " والحمية رأس الدواء " ، " وحب الدنيا رأس كل خطيئة " ، وغير ذلك يكون معروفا بعزوه إلى غير النبي صلى الله عليه وسلم ، فيلتبس على المخلط فيرفعه إليه وهما منه ، فيعده الحفاظ موضوعا ، وما ترك الحفاظ بحمد الله شيئا إلا بينوه ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) [ ص: 12 ] ولكن يحتاج إلى سعة النظر وطول الباع وكثرة الاطلاع ، وقد يقع الوضع في لفظة من الحديث لا في كله كحديث : " لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر أو جناح " ، فإن الحديث صدره ثابت ، وقوله : "أو جناح " موضوع تعمده واضع تقربا إلى الخليفة المهدي ، لما كان مشغوفا باللعب بالحمام ، وقد وقع نظير ذلك لليث هذا صاحب هذا الحديث ، فإنه روى عن مجاهد ، وعطاء عن أبي هريرة في الذي وقع على أهله في رمضان ، قال له النبي صلى الله عليه وسلم : أعتق رقبة قال : لا أجد ، قال : أهد بدنة ، قال : لا أجد ، قال الحفاظ : ذكر البدنة فيه منكر ، والظاهر أن ليثا إنما زادها غفلة وتخليطا لا عن قصد وعمد والله أعلم .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية