الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الباب الأول :

في فضل الكسب والحث عليه .

أما من الكتاب ، فقوله تعالى : وجعلنا النهار معاشا فذكره في معرض الامتنان .

وقال تعالى : وجعلنا لكم فيها معايش قليلا ما تشكرون ، فجعلها ربك نعمة ، وطلب الشكر عليها .

وقال تعالى : ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم وقال تعالى : وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وقال تعالى: فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله وأما الأخبار ، فقد قال صلى الله عليه وسلم : من الذنوب ذنوب لا يكفرها إلا الهم في طلب المعيشة .

وقال صلى الله عليه وسلم : التاجر الصدوق يحشر يوم القيامة مع الصديقين ، والشهداء .

وقال صلى الله عليه وسلم : من طلب الدنيا حلالا وتعففا عن المسئلة وسعيا على عياله وتعطفا على جاره لقي الله ووجهه كالقمر ، ليلة البدر .

وكان صلى الله عليه وسلم جالسا مع أصحابه ذات يوم فنظروا إلى شاب ذي جلد ، وقوة ، وقد بكر يسعى فقالوا : ويح هذا لو كان شبابه وجلده في سبيل الله فقال صلى الله عليه وسلم : لا تقولوا هذا ، فإنه إن كان يسعى على نفسه ليكفها عن المسئلة ويغنيها عن الناس فهو في سبيل الله وإن كان يسعى على أبوين ضعيفين أو ذرية ضعاف ليغنيهم ويكفيهم ، فهو في سبيل الله ، وإن كان يسعى تفاخرا وتكاثرا فهو في سبيل الشيطان .

وقال صلى الله عليه وسلم : إن الله يحب العبد يتخذ المهنة ليستغني بها عن الناس ويبغض العبد ، يتعلم العلم يتخذه مهنة .

وفي الخبر : إن الله تعالى يحب المؤمن المحترف .

وقال صلى الله عليه وسلم : أحل ما أكل الرجل من كسبه ، وكل بيع مبرور .

وفي خبر آخر أحل ما أكل العبد كسب يد الصانع إذا نصح .

وقال صلى الله عليه وسلم : عليكم بالتجارة ، فإن فيها تسعة أعشار الرزق .

وروي أن عيسى عليه السلام رأى رجلا ، فقال : ما تصنع؟ قال : أتعبد، قال من : يعولك ؟ قال : أخي ، قال : أخوك أعبد منك .

وقال نبينا صلى الله عليه وسلم : إني لا أعلم شيئا يقربكم من الجنة ويبعدكم من النار إلا أمرتكم به وإني لا ، أعلم شيئا يبعدكم من الجنة ويقربكم من النار إلا نهيتكم عنه ، وإن الروح الأمين نفث : في روعي إن نفسا لن تموت حتى تستوفي رزقها وإن أبطأ عنها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب أمر بالإجمال في الطلب ولم يقل : اتركوا الطلب ثم قال في آخره : ولا يحملنكم استبطاء شيء من الرزق على أن تطلبوه بمعصية الله تعالى فإن الله لا ينال ما عنده ، بمعصيته .

التالي السابق


(الباب الأول: في فضل الكسب والحث عليه) *

في الكتاب والسنة (أما في الكتاب، فقوله تعالى: وجعلنا النهار معاشا ) أي: وقت معاش، كما تقدم قريبا، أو سببا للمعايش، والتصرف في المصالح، أو حياة يبعثون فيها عن نومهم (فذكره في معرض الآيات) والنعم الجليلات، حيث قال: ألم نجعل الأرض مهادا والجبال أوتادا وخلقناكم أزواجا وجعلنا نومكم سباتا وجعلنا الليل لباسا وجعلنا النهار معاشا ،إلى آخر الآيات (وقال تعالى: وجعلنا لكم فيها ) أي: في الأرض (معايش) أي: معيشة وهي مفعلة من العيش، أي: ضروبا من المكاسب ( قليلا ما تشكرون ، فجعلها ربك نعمة، وطلب الشكر عليها) ولا يكون الشكر إلا في مقابلة النعمة (وقال عز وجل: ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم ) أي: رزقا، كما نقل عن ابن عباس، وقيل: المراد به: المباح من الدنيا، المآكل والمشارب، وقيل: غير ذلك، [ ص: 414 ] (وقال عز وجل: وآخرون يضربون في الأرض ) أي: يسافرون فيها ( يبتغون من فضل الله ) إلى ما يحصلون من الأرباح في أسفارهم، وتجارتهم، ومثل ذلك قوله تعالى: فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله ومن الآيات الدالات على المقصود، قوله تعالى: فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وقوله تعالى: أنفقوا من طيبات ما كسبتم وغير ذلك، مما هو موجود في القرآن .

(وأما الأخبار، فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: من الذنوب ذنوب لا يكفرها إلا الهم في طلب المعيشة) . رواه الطبراني في الأوسط، وأبو نعيم في الحلية، وقد تقدم الكلام عليه قريبا في كتاب النكاح (وقال -صلى الله عليه وسلم-: التاجر الصدوق يحشر يوم القيامة مع الصديقين، والشهداء) . قال العراقي: رواه الترمذي، والحاكم، من حديث أبي سعيد، قال الترمذي: حسن، وقال الحاكم: إنه من مراسيل الحسن، ولابن ماجه، والحاكم، نحو من حديث ابن عمر، قلت: أورده الترمذي، والحاكم، في البيوع، وزاد الترمذي، بعد قوله: حسن غريب، ولكن لفظهما: مع النبيين، والصديقين، والشهداء; ولذا قال الحكيم الترمذي في نوادر الأصول، بعد أن أخرجه: إنما حلق بدرجتهم; لأنه احتظى بقلبه من النبوة، والصديقية، والشهادة، فالنبوة: انكشاف الغطاء. والصديقية: استواء سريرة القلب بعلانية الأركان. والشهادة: احتساب المرء بنفسه على الله، فيكون عنده على حد الأمانة في جميع ما وضع عنده. وقال الطيبي: قوله: مع النبيين، بعد قوله: التاجر الصدوق، حكم مرتب على الوصف المناسب، من قوله: ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم وذلك أن اسم الإشارة يشعر بأن ما بعده جدير بما قبله; لاتصافه بإطاعة الله، وإنما ناسب الوصف الحكم; لأن الصدوق بناء مبالغة من الصدق، كالصديق، وإنما يستحقه التاجر، إذا كثر تعاطيه الصدق; لأن الأمناء ليسوا غير أمناء، فلا غرو من اتصف بهذين الوصفين أن ينخرط في زمرتهم، وقليل ما هم .

وقال العراقي: ولابن ماجه، والحاكم، نحوه من حديث ابن عمر، يشير به إلى حديثه عندهما، بلفظ: التاجر الأمين الصدوق المسلم مع الشهداء يوم القيامة. أخرجاه في البيوع، قال الحاكم: صحيح، واعترضه ابن القطان، وهو من رواية، كثير بن هشام، وهو وإن خرج له مسلم، ضعفه أبو حاتم، وغيره، قلت: ومن روى له أحد الشيخين، فقد جاوز القنطرة، ولا يسمع فيه لوم لائم .

وروى الأصبهاني في الترغيب، والديلمي في الفردوس، من حديث أنس: التاجر الصدوق تحت ظل العرش يوم القيامة. وعند ابن النجار، في حديث ابن عباس: التاجر الصدوق لا يحجب من أبواب الجنة. (وقال -صلى الله عليه وسلم-: من طلب الدنيا حلالا) أي: حال كون المطلوب حلالا (تعففا عن المسألة) أي: لأجل عفة نفسه عن سؤال مخلوق مثله (وسعيا على عياله) من زوجته وأطفاله (وتعطفا) أي: ترحما وتلطفا (على جاره) من الفقراء، في تحسين حاله (لقي الله) أي: يوم القيامة، في ماله (ووجهه كالقمر، ليلة البدر) من حسن جماله، وكمال مثاله .

قال العراقي: رواه أبو الشيخ في الثواب، وأبو نعيم في الحلية، والبيهقي في شعب الإيمان، من حديث أبي هريرة، بسند ضعيف .

قلت: أورده أبو نعيم، في ترجمة ابن السماك، عن الثوري، عن الحجاج بن فرافصة، عن مكحول، عن أبي هريرة، بلفظ: من طلب الدنيا حلالا، استعفافا عن المسألة، وسعيا على العلم، وتلطفا على جاره، بعثه الله يوم القيامة، ووجهه مثل القمر ليلة البدر، ومن طلب حلالا مكاثرا بها مفاخرا، لقي الله وهو عليه غضبان. ثم قال: غريب، من حديث مكحول، لا أعلم له راويا عنه إلا الحجاج، وهو عند الخطيب، والديلمي، بلفظ: من طلب مكسبه من مال الحلال يكف بها وجهه عن مسألة الناس، وولده، وعياله، جاء يوم القيامة مع النبيين، والصديقين، هكذا، وأشار بأصبعه السبابة والوسطى.

(وكان -صلى الله عليه وسلم- جالسا مع أصحابه ذات يوم فنظروا إلى شاب ذي جلد، وقوة، وقد بكر) أي: صار في بكرة النهار (يسعى) إلى، أي: جهة مقصده، من سوق، أو غيرها (فقالوا: ويح هذا) كلمة ترحم (لو كان شبابه وجلده في سبيل الله تعالى) كالسعي إلى المساجد، أو إلى الجهاد، أو غير ذلك من سبيل الخيرات! (فقال -صلى الله عليه وسلم-: لا تقولوا هذا، فإنه إن كان يسعى لنفسه) أي: لإعانة نفسه (ليكفها) أي: يمنعها (عن المسألة) أي: عن سؤال مخلوق مثله (ويغنيها عن الناس) إذ [ ص: 415 ] الحاجة إليهم لا تخلو عن الذل (فهو في سبيل الله) ; لأن هذا المقصد من جملة أعمال الخير (وإن كان يسعى على أبوين ضعيفين) أي: لا يستطيعان التكسب (أو) على (ذرية) صغار (ضعفاء) عادمين القوة (ليغنيهم) عن المسألة (ويكفهم، فهو في سبيل الله، وإن كان يسعى مكاثرا) على أقرانه، وأمثاله (ومفاخرا) بتحصيل ماله (فهو في سبيل الشيطان) . هكذا أورده صاحب القوت .

قال العراقي: رواه الطبراني في معاجمه الثلاثة، من حديث كعب بن عجرة، بسند ضعيف. قلت: ولفظه في الكبير: إن كان خرج يسعى على ولده صغارا، فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه، يعفها، فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى رياء، ومفاخرة، فهو في سبيل الشيطان.

(وقال -صلى الله عليه وسلم-: إن الله يحب العبد يتخذ المهنة ليستغني بها عن الناس) أي: عن سؤالهم، والاحتياج إليهم (ويبغض العبد، يتعلم العلم يتخذه مهنة) أي: لأن العلم من أمور الآخرة، فإذا امتهنه ليحصل به دنيا، فقد وضع الشيء في غير محله. وقد روي في ذلك وعيد شديد، ففي المعجم الكبير للطبراني، من حديث الجارود بن المعلى، مرفوعا: من طلب الدنيا بعمل الآخرة طمس وجهه، ومحق ذكره، وأثبت اسمه في أهل النار. والحديث المذكور هكذا أورده صاحب القوت، قال العراقي: لم أجده هكذا .

وروى الديلمي في مسند الفردوس، من حديث علي: إن الله يحب أن يرى عبده تعبا في طلب الحلال. وفيه محمد بن سهل العطار، قال الدارقطني: كان يضع الحديث. قلت: والتعب في كسب الحلال، يتضمن فوائد. منها: استغناؤه عن الناس، وعن إظهار الحاجة، لكن شرطه: اعتقاد الرزق من الرازق، لا من الكسب. ومنها: إيصال النفع إلى الغير، بإجراء الأجرة، وبتهيئة أسبابهم. ومنها: السلامة من البطالة، واللهو. ومنها: كسر النفس; ليقل طغيانها. ومنها: التعفف عن ذل السؤال .

(وفي الخبر: إن الله يحب المؤمن المحترف) أي: الذي له صناعة يكتسب منها، فإن تعود الرجل فارغا من غير شغل، أو اشتغاله بما لا يعنيه، من سفه الرأي، وسخافة العقل، واستيلاء الغفلة .

قال العراقي: رواه الطبراني، وابن عدي، من حديث ابن عمر، وضعفه .

قلت: وكذلك رواه الحكيم الترمذي، والبيهقي، وقال: تفرد به أبو الربيع، عن عاصم، وليسا بالقويين، وقال ابن الجوزي: حديث لا يصح، وقال في الميزان: أبو الربيع السمان، قال أحمد: مضطرب الحديث، والنسائي: لا يكتب حديثه، والدارقطني: متروك، وقال هيثم: كان يكذب، ثم أورد له بما أنكر عليه هذا الحديث، ونقل الزركشي تضعيفه، عن ابن عدي، وأقره، وقال الحافظ السيوطي: في سنده متروك، وقال الحافظ السخاوي: لكن له شواهد .

قلت: ومنها: ما يروى عن أبي هريرة، مرفوعا: إن الله تعالى يحب المؤمن المتبذل، المحترف، الذي لا يبالي ما لبس. رواه البيهقي، من طريق ابن نهيقي، عن عقيل، عن يعقوب بن عيينة، عن المغيرة بن الأختر، عن أبي هريرة، قال: والصواب: عن المغيرة مرسلا .

(وقال -صلى الله عليه وسلم-: أحل ما أكل الرجل من كسبه، وكل بيع مبرور) هكذا أورده صاحب القوت، قال العراقي: رواه أحمد، من حديث رافع بن خديج: قيل: يا رسول الله، أي الكسب أطيب؟ قال: عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور. ورواه البزار، والحاكم، في رواية سعيد بن عمير، عن عمه، قال الحاكم: صحيح الإسناد، قال: وذكر يحيى بن سعيد: أن عم سعيد، البراء بن عازب، ورواه البيهقي، من رواية سعيد بن عمير مرسلا، وقال: هذا هو المحفوظ، وخطأ قول من قال: عن عمه، وكلا عن البخاري، ورواه أحمد، والحاكم، من رواية جميع، يزعم، عن خاله، أبي بردة، وجميع ضعيف، والله أعلم .

قلت: وروى ابن عساكر، من حديث ابن عمر: وسئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن أطيب الكسب؟ قال: عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور. هكذا هو في نسخة الجامع الكبير للسيوطي: ابن عمر، وإخاله مصحفا، عن ابن عمير، والله أعلم .

(وفي خبر آخر) ولفظ القوت: في لفظ آخر: (أحل ما أكل العبد كسب يد الصانع إذا نصح) . قال العراقي: رواه أحمد، من حديث أبي هريرة، بلفظ: خير الكسب كسب العامل إذا نصح. وسنده حسن. قلت: وكذلك رواه البيهقي، والديلمي، وابن خزيمة، وقال الهيثمي: رجاله ثقات، ولفظهم: كسب يد العامل. ومعنى قوله: إذا نصح، أي: بأن عمل عمل إتقان، وإحسان، متجنبا للغش، وافيا بحق الصنعة، [ ص: 416 ] غير ملتفت إلى مقدار الأجر، وبذلك يحصل الخير والبركة، وبنقيضه يحصل الشر والوبال (وقال -صلى الله عليه وسلم-: عليكم بالتجارة، فإن فيها تسعة أعشار الرزق) . هكذا في القوت، والأعشار: جمع عشير، وهو لغة في العشر .

قال العراقي: رواه إبراهيم الحربي، في غريب الحديث، من حديث نعيم بن عبد الرحمن، بلفظ: تسعة أعشار الرزق في التجارة. ورجاله ثقات، ونعيم هذا، قال فيه ابن منده: ذكر في الصحابة، ولا يصح، وقال أبو حاتم الرازي، وابن حبان: إنه تابعي، فالحديث مرسل .

اهـ .

قلت: وكذلك رواه سعيد بن منصور في سننه، من حديثه، ومن حديث يحيى بن جابر الطائي، مرسلا، بزيادة: والعشر في المواشي. وفي رواية، بدل: المواشي، السائبات. قال الزمخشري: وهي النتاج، فمرجعهما واحد، ونعيم بن عبد الرحمن أزوير، مقبول، من الطبقة الثانية، ويحيى بن جابر الطائي، قاضي حمص، صدوق، كذا في الكاشف، وفي التقريب: ثقة، يرسل كثيرا، قال الماوردي: وإنما كانت التجارة تسعة أعشار الرزق; لأنها فرع لمادتي النتاج، والزرع، وهي نوعان: تقلب في الحضر من غير نقلة، ولا سفر .

والثاني: تقلب في المال بالأسفار، ونقلة إلى الأمصار، وكلاهما مما يحتاجه الخاص والعام .

(وروي أن عيسى -عليه السلام- رأى رجلا، فقال له: ما تصنع) ؟ أي: ما صنعتك؟ (قال: أتعبد) أي: منقطع في عبادة الله تعالى (قال: ومن يعولك؟ قال: أخي، قال: أخوك أعبد منك) نقله صاحب القوت .

(وقال نبينا -صلى الله عليه وسلم-: إني لا أعلم شيئا يقربكم من الجنة ويبعدكم من النار إلا أمرتكم به، ولا أعلم شيئا يبعدكم من الجنة ويقربكم من النار إلا نهينكم عنه، وإن الروح الأمين) وهو جبريل عليه السلام، إنما سمي روحا; لأنه يأتي بما فيه حياة القلب، فإنه المتولي لإنزال الكتب السماوية الإلهية، التي بها تحيا الأرواح الربانية، والقلوب الجسمانية، وهو الأمين عليها (نفث) بفاء، ومثلثة (أي: تفل) بغير ريق (في روعي) بالضم، أي: ألقى الوحي في خلدي، وبالي، أو في نفسي، أو بالي، أو عقلي، من غير أن أسمعه، ولا أراه، والنفث بما يلقيه الله -عز وجل- إلى نبيه -صلى الله عليه وسلم- إلهاما، كشفيا، بمشاهدة عين اليقين (إن نفسا لن تموت حتى تستوفي رزقها) الذي كتبه لها الملك، وهي في بطن أمها، فلا وجه للوله، والنصب، والحرص، إلا عن شك في الوعد (وإن أبطأ عنها) فإنه سبحانه وتعالى، قسم الرزق، وقدره لكل أحد، بحسب إرادته، لا يتقدم، ولا يتأخر، ولا يزيد، ولا ينقص، بحسب علمه القديم، الأولي; ولهذا لما سئل حكيم عن الرزق، قال: إن قسم فلا تعجل، وإن لم يقسم فلا تتعب (فاتقوا الله) أي: ثقوا بضمانه، ولا تتهموه إن أبطأ، ولكنه أمرنا تعبدا بطلبه من حله; فلهذا قال: (وأجملوا في الطلب) بأن تطلبوه بالطرق الجميلة، المحللة، بغير كد، ولا حرص، ولا تهافت على الحرام، والشبهات، قال المصنف: (ولم يقل: اتركوا الطلب) بل أمر بالطلب، لكن بشرط الإجمال فيه (ثم قال في آخر: ولا يحملنكم) وفي وراية: ولا يحملن أحدكم (استبطاء شيء من الرزق) أي: حصوله (أن تطلبوه بمعصية الله تعالى) وفي رواية: أن يطلبه بمعصيته تعالى (فإن الله تعالى لا ينال ما عنده من الرزق، وغيره، بمعصيته) .

قال العراقي: رواه ابن أبي الدنيا، في القناعة، والحاكم، من حديث ابن مسعود، ذكره شاهدا لحديث، أبي حميد، وجابر، وصححهما على شرط الشيخين، وهما مختصران، ورواه البيهقي في المدخل، وقال: إنه منقطع. اهـ .

قلت: ورواه أبو نعيم في الحلية، من حديث أبي أمامة، بلفظ: إن روح القدس نفث في روعي: إن نفسا لن تموت حتى تستكمل أجلها، وتستوعب رزقها، فاتقوا الله، وأجملوا في الطلب، ولا يحملن أحدكم استبطاء الرزق، أن يطلبه بمعصيته، فإن الله تعالى لا ينال ما عنده إلا بطاعته. ورواه الطبراني في الكبير، من حديث أبي أمامة، بلفظ: نفث روح القدس في روعي: إن نفسا لن تخرج من الدنيا حتى تستكمل أجلها، وتستوعب رزقها، فأجملوا في الطلب، ولا يحملنكم استبطاء الرزق، أن تطلبوه بمعصية الله، فإن الله لا ينال ما عنده إلا بطاعته.



(تنبيه)

قال الطيبي: الاستبطاء: بمعنى الإبطاء، والسين للمبالغة، وفيه: أن الرزق مقدر مقسوم، لا بد من وصوله إلى العبد، لكنه إذا سعى، وطلب على وجه مشروع، وصف بأنه حلال، وإذا طلب بوجه غير مشروع، فهو حرام، فقوله: ما عنده، إشارة إلى أن الرزق كله من عند الله، الحلال والحرام، وقوله: أن يطلبه بمعصية الله، إشارة إلى أن ما عند الله إذا طلب بمعصيته، [ ص: 417 ] سمي حراما، وقوله: إلا بطاعته، إشارة إلى أن ما عند الله، إذا طلب بطاعته، مدح، وسمي حلالا. وفيه دليل ظاهر لأهل السنة: أن الحرام يسمى رزقا، والكل من عند الله، خلافا للمعتزلة.




الخدمات العلمية