الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 419 ] قوله - عز وجل -:

ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون

هذه ألفاظ عامة؛ فكل من واقع شيئا مما يدخل تحت هذه الألفاظ فهو داخل في الظلم الذي قد عظمه الله تعالى بقوله: "ومن أظلم"؛ أي: "لا أحد أظلم..."؛ وقال قتادة ؛ وغيره: المراد بهذه الآيات مسيلمة؛ والأسود العنسي ؛ وذكروا رؤية النبي - صلى اللـه عليه وسلم - للسوارين؛ وقال السدي : المراد بها عبد الله بن سعد بن أبي سرح العامري؛ وكان يكتب للنبي - صلى اللـه عليه وسلم - الوحي؛ وكان أخا عثمان بن عفان - رضي الله عنه - من الرضاعة؛ فلما نزلت ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر ؛ فقال عبد الله بن سعد - من تلقاء نفسه -: فتبارك الله أحسن الخالقين فقال له رسول الله - صلى اللـه عليه وسلم -: "اكتبها؛ فهكذا أنزلت"؛ فتوهم عبد الله ؛ ولحق بمكة مرتدا؛ وقال: أنا أنزل مثل ما أنزل الله؛ وروي عنه أيضا أن النبي - صلى اللـه عليه وسلم - ربما أملى عليه: "والله غفور رحيم"؛ فبدلها هو: "والله سميع عليم"؛ فقال النبي - صلى اللـه عليه وسلم -: "ذلك سواء"؛ ونحو هذا.

[ ص: 420 ] وقال عكرمة : أولها في مسيلمة؛ والآخر في عبد الله بن سعد بن أبي سرح ؛ وذكر الزهراوي ؛ والمهدوي أن الآية نزلت في النضر بن الحارث ؛ لأنه عارض القرآن بقوله: "والزارعات زرعا؛ والخابزات خبزا"؛ إلى غير ذلك من السخافات.

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: فخصص المتأولون في هذه الآيات ذكر قوم قد يمكن أن كانوا أسباب نزولها؛ ثم هي إلى يوم القيامة تتناول من تعرض شيئا من معانيها؛ كطليحة الأسدي؛ والمختار بن أبي عبيد ؛ وسواهما؛ وقرأ الجمهور: سأنزل مثل ما أنزل ؛ بتخفيف؛ وقرأ أبو حيوة: "سأنزل"؛ بفتح النون؛ وتشديد الزاي.

قوله - عز وجل -: ولو ترى إذ الظالمون ؛ الآية؛ جواب "ولو"؛ محذوف؛ تقديره: لرأيت عجبا؛ أو هولا؛ ونحو هذا؛ وحذف هذا الجواب أبلغ من نصه؛ لأن السامع إذا لم ينص له الجواب يترك مع غاية تخيله؛ و"الظالمون"؛ لفظ عام لمن واقع ما تقدم ذكره؛ وغير ذلك من أنواع الظلم الذي هو كفر؛ والغمرات: جمع "غمرة"؛ وهي المصيبة المبهمة المذهلة؛ وهي مشبهة بغمرة الماء؛ ومنه قول الشاعر:


ولا ينجي من الغمرات إلا ... براكاء القتال أو الفرار



"والملائكة"؛ ملائكة قبض الروح؛ و باسطو أيديهم ؛ كناية عن مدها بالمكروه؛ كما قال تعالى - حكاية عن ابني آدم -: لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ؛ وهذا المكروه هو - لا محالة - أوائل عذاب؛ وأماراته؛ قال ابن عباس : يضربون وجوههم وأدبارهم؛ وأما البسط لمجرد قبض النفس فإنه يشترك فيه الصالحون؛ والكفرة؛ وقيل: إن المراد بسط الأيدي في جهنم؛ والغمرات كذلك؛ لكنهم لا يقضى عليهم فيموتوا.

وقوله تعالى أخرجوا أنفسكم ؛ حكاية لما تقوله الملائكة؛ والتقدير: "يقولون أخرجوا أنفسكم"؛ ويحتمل قول الملائكة ذلك أن يريدوا: "فأخرجوا أنفسكم [ ص: 421 ] من هذه المصائب؛ والمحن؛ وخلصوها؛ إن كان ما زعمتموه حقا في الدنيا"؛ وفي ذلك توبيخ؛ وتوقيف على سالف فعلهم القبيح؛ قال الحسن: هذا التوبيخ - على هذا الوجه - هو في جهنم؛ ويحتمل أن يكون ذلك على معنى الزجر؛ والإهانة؛ كما يقول الرجل لمن يقهره بنفسه على أمر ما: "افعل كذا"؛ لذلك الأمر الذي هو يتناوله بنفسه منه على جهة الإهانة؛ وإدخال الرعب عليه.

وقوله تعالى اليوم تجزون عذاب الهون ؛ الآية؛ هذه حكاية عن قول الملائكة للكفرة عند قبض أرواحهم؛ و"الهون": الهوان؛ ومنه قول ذي الإصبع:


إليك عني فما أمي براعية ...     ترعى المخاض ولا أغضي على الهون



وقرأ عبد الله بن مسعود ؛ وعكرمة : "عذاب الهوان"؛ بالألف.

وقوله تعالى تقولون على الله غير الحق ؛ لفظ جامع لكل نوع من الكفر؛ ولكنه يظهر منه؛ ومن قوله: وكنتم عن آياته تستكبرون ؛ الإنحاء على من قرب ذكره من هؤلاء الذين ادعوا الوحي؛ وأن ينزلوا مثل ما أنزل الله تعالى ؛ فإنها أفعال بين فيها قول غير الحق على الله تعالى ؛ وبين فيها الاستكبار.

التالي السابق


الخدمات العلمية