الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
أقسام البدعة وأحكامها

وعن جابر - رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أما بعد : فإن خير الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل بدعة ضلالة» .

قال في «أشعة اللمعات» : إن كل ما حدث بعد النبي صلى الله عليه وسلم بدعة ، فما وافق منها أصول السنة ، وقواعدها ، وقيس عليها ، يقال له : البدعة الحسنة ، وما خالفها يقال له : بدعة وضلالة .

وهذه الكلية المذكورة في هذا الحديث ، محمولة على ذلك .

وأن من البدع : ما هو واجب; كتعلم «الصرف» ، و «النحو» ، وتعليمهما ، فإنه يحصل بذلك معرفة الآيات والأحاديث ، وكحفظ غرائب الكتاب والسنة وغيرهما ، مما يتوقف عليه خط الدين والملة .

ومنها : ما هو مستحسن ومستحب; كبناء الرباطات والمدارس . ومنها : ما هو مكروه; كزخرفة المساجد والمصاحف - على قول البعض - .

ومنها : ما هو مباح; كالتوسعة في الأطعمة اللذيذة ، واللباسات الفاخرة ، بشرط كونها حلالا ، غير باعث على الطغيان والتكبر والمفاخرة .

وكذلك المباحات الأخرى التي لم تكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم; كالغربال ، ونحوها .

ومنها : ما هو حرام; كمذاهب أهل البدع والأهواء المخالفة للسنة والجماعة .

[ ص: 24 ] الخلفاء الراشدون لم يبتدعوا شيئا في الدين

وما فعله الخلفاء الراشدون ، وإن كان بدعة ، على معنى : أنه لم يكن في عصر النبوة ، ولكن ذلك من قسم البدعة الحسنة ، بل هو في الحقيقة سنة; لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين» . انتهى .

الرد على من قسم البدعة إلى حسنة وسيئة

وأقول : في هذا الكلام نظر من وجوه :

الأول : إن قوله : «كل بدعة ضلالة» كلية عامة شاملة لكل بدعة ، أي بدعة كانت ، حسنة أو سيئة ، ولا يصح حمله على القسمة إلا بدليل يساوي هذا النص ، أو يقدم عليه ، ولا دليل .

الثاني : إن قسمة البدع إليها قول جمع من الفقهاء ، وقد خالفهم جمع آخر من أهل الحديث والفقه والسلوك .

منهم : الشيخ أحمد السهرندي ، مجدد الألف الثاني ، والعلامة الشوكاني ، وصاحب «رد الإشراك» ، والسيد العلامة حسن الحسيني القنوجي البخاري ، والإمام محمد بن إسماعيل الأمير اليماني ، وسائر المحدثين قديما وحديثا .

واستدلوا بهذا الحديث وعمومه ، وقالوا : لم يرد في حديث صحيح ، ولا ضعيف ما يصلح للتخصيص ، ولا ملجئ إلى صرف ظاهر النص .


وهذا الحق ليس به خفاء فدعني عن بنيات الطريق

الثالث : الذي جعلوه أقساما للبدعة ، منها : ما هو ليس ببدعة - في الحقيقة - ، فلا معارضة بينه وبين هذا الحديث .

ومنها : ما هو في حكم السنة ، بعموم الأدلة .

[ ص: 25 ] ومنها : ما هو على أصل الإباحة والبراءة الأصلية; كما صرح بذلك في «إيضاح الحق الصريح» .

الرابع : أن هذا الحديث من أحاديث «صحيح مسلم» ، وهو أرجح من أحاديث غيره ، إلا البخاري ، فلا تصح معارضته بروايات أخرى على أي حال .

الخامس : أن حديث الباب بشرية الأمور المحدثات ، وليس في الشر خير ولا حسن أبدا ، والمحدث يعم البدع الاعتقادية ، والقولية ، والفعلية .

السادس : أن الحكم بالضلالة على كل بدعة ، ينادي بأعلى صوت أنه ليس فيها هدى أصلا ، والضلالة لا يكون فيها الحسن .

وبالجملة : الحديث - على إطلاقه - لم يرح رائحة التخصيص .

ويزيده إيضاحا حديث عائشة المتقدم ، وما ورد في معناه من الأحاديث الدالة على ذم البدع وأهله ، وكون كل ضلالة في النار ، وكل ما هو في النار لا يكون من الإسلام في صدر ولا ورد .

فتأمل في هذا النص الصريح الصحيح ، وأنصف إنصاف الفقيه الفحل النبيه ، ولا تكن من الممترين ، ولا من أبناء المبتدعين ، وانظر هذا البحث في كتاب «هداية السائل إلى أدلة المسائل» ، ففيه شفاء العليل ، وإرواء الغليل - إن شاء الله تعالى - وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أبغض الناس إلى الله ثلاثة : ملحد في الحرم» .

الإلحاد في اللغة : الميل ، ولهذا يقال للحفرة التي تكون في جانب من القبر : لحد بهذا المعنى .

وفي الشرع : ميل من الحق إلى الباطل . والمراد به «في الحرم» : ارتكاب الأمور المنهي عنها في أرضه المحترمة; [ ص: 26 ] كالقتل ، والجدال ، والصيد ، أو فعل المعاصي مطلقا ، وإليه ذهب ابن عباس ، وقال : كما أن الطاعة تضعف في الحرم ، كذلك حكم المعصية أيضا; يعني : في المضاعفة; لأن إساءة الأدب في مقام القرب أشنع وأقبح منها في غيره .

ولهذا كره - رضي الله عنه - إقامة مكة ، صونا لحرمتها وتعظيمها ، وتوطن بالطائف .

لكن الأرجح أن المضاعفة خاصة بالطاعات ، وأن السيئات لا تضاعف فيه; لسبق الرحمة على الغضب ، ولغير ذلك من الدالة على ذلك . فالأول أولى .

«ومبتغ الإسلام سنة الجاهلية» ; أي : شعارها; كالنوحة ، وضرب الوجه ، وخرق الجيب على الميت ، والطيرة ونحوها ، من كل ما يصدق عليه أنه من سنن الجاهلية . كائنا ما كان ، أو ثبت في الشرع كونه منها ، ويدخل فيه كل بدعة ومحدثة ، ليس عليه أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ، فإنها سنة الجاهلية في الإسلام المخالف لها .

«ومطلب دم امرئ مسلم بغير حق ليهرق دمه» ; لأن إهراق الدم مطلقا مذموم وممنوع .

وإذا كان بقصد مجرد الإثخان ، فهو أشد ذما ، وأقبح كراهة ، كأن المقصود منه نفس المعصية وذاتها .

قال بعض العلماء : فإذا كان هذا حال طالب المعصية ، وهو لم يفعل ، فكيف بمن أتى بها وفعلها؟ «رواه البخاري» .

استدل بهذا الحديث على أن ابتغاء البدع في الإسلام موجب لبغض الله تعالى لمبتغيه .

والبدعة : هي ما كان من سنة الجاهلية ، وكان خلاف السنة المطهرة . [ ص: 27 ]

وعن ابن مسعود - رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما من نبي بعثه الله في أمته قبلي» وفي رواية : «في أمة» - بالتنوين - «إلا كان له من أمته حواريون» .

الحواري في اللغة : المحب ، والمخلص ، والناصر ، والمعين المبرأ من الكذب ، والخلاف ، والنفاق .

مشتق من الحور ، وهو البياض الخالص . وبهذا المعنى قيل لأصحاب عيسى بن مريم - عليهما السلام - ومخلصيه : الحواريين .

وقيل : هم الأصل في تسمية الأنصار والمخلصين بذلك ، وكانوا قصارين . و «القصار» يقال له : حواري; لأنه يبيض الثياب . وقيل : لأنهم صفوا أنفسهم من دنس الجهل والمعصية بالعلم والطاعة .

«ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف» جمع «خلف» - بسكون اللام - ، وجمع «خلف» - بفتحها - : أخلاف .

والخلف في الأصل : من جاء بعد أحد ، وجلس مجلسه ، والغالب في الاستعمال إطلاق الخلف» - بسكون اللام - في الشر والفساد ، و- بفتحها - في الخير والصلاح ، كما يقال : فلان خلف صدق لأبيه ، وفلان خلف سوء له .

والمعنى : أن لكل نبي أصحابا مخلصين ، أنصارا محبين ، ثم يأتي من بعدهم من صفتهم كما قال : «يقولون ما لا يفعلون» ; أي : فعلهم خلاف قولهم ، وهذا نوع من النفاق ، «ويفعلون ما لا يؤمرون» ، وهذا نوع من الفسق .

قال بعض العلماء : هؤلاء هم علماء السوء وأمراؤه - أعاذنا الله من ذلك . انتهى .

ومن كان هذا وصفه ، فهو خلف سوء لسلف صالح .

«فمن جاهدهم بيده ، فهو مؤمن» ، والجهاد باليد : هو تغيير المنكر ، وكسر [ ص: 28 ] المظالم ، وهضم الفساد الواقع من البدع والمحدثات .

«ومن جاهدهم بلسانه» ; أي : يمنعهم ، ويسبهم ، ويقبحهم ، وينصحهم بفمه ، فله نصيب من الإيمان كامل ، «فهو مؤمن» .

«ومن جاهدهم بقلبه ، فهو مؤمن» ; أي : ينكره بجنانه ، ويحزن ، ويتألم ، ويتغير فؤاده بمشاهدته ، فله أيضا نصيب من الإيمان ، وإن كان نازلا بالنسبة إلى الثاني والأول .

ولهذا قيل : إن الأول فعل الولاة والأمراء ، والرؤساء والملوك والسلاطين .

والثاني : صنيع العلماء والعرفاء والصلحاء والشيوخ وأحبار الإسلام ورهبانه ، الرادين على أهل البدع بتأليف الكتب ، وتقرير الأدلة في الصحف .

والثالث : عمل ضعفاء المسلمين ، الذين لا يقدرون على شيء من اليد واللسان .

فهذه ثلاث درجات للإيمان ، قوة ، وضعفا ، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل .

وفي حديث آخر : «وذلك أضعف الإيمان» رواه مسلم .

وفي هذا النفي من الوعيد ما تقشعر له القلوب ، وترجف له الأفئدة .

التالي السابق


الخدمات العلمية