الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            صفحة جزء
            47 - حسن التسليك في حكم التشبيك

            بسم الله الرحمن الرحيم

            الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى : قال البخاري في صحيحه : " باب تشبيك الأصابع في المسجد وغيره " وأورد فيه حديث أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا ، وشبك بين أصابعه " ، وحديث أبي هريرة : " صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي فصلى بنا ركعتين ثم سلم فقام إلى خشبة معروضة في المسجد فاتكأ عليها كأنه غضبان ، ووضع يده اليمنى على اليسرى وشبك بين أصابعه " ، قال الحافظ ابن حجر في شرحه : حديث أبي موسى دال على جواز التشبيك مطلقا ، وحديث أبي هريرة دال على جوازه في المسجد فهو في غيره أجوز .

            ووقع في بعض نسخ البخاري قبل هذين الحديثين حديث آخر نصه : حدثنا حامد بن عمر ثنا بشر ثنا عاصم ، ثنا واقد عن أبيه ، عن ابن عمر قال : شبك النبي صلى الله عليه وسلم أصابعه ، قال الحافظ مغلطاي : هذا الحديث ليس موجودا في أكثر نسخ الصحيح ، وقال الحافظ ابن حجر : هو ثابت في رواية حماد بن شاكر عن البخاري قال ابن بطال : المقصود من هذه الترجمة معارضة ما ورد في النهي عن التشبيك في المسجد ، وقد وردت فيه مراسيل ومسند من طرق غير ثابتة ، وقال ابن المنير : التحقيق أنه ليس بين الأحاديث تعارض إذ المنهي عنه فعله على وجه العبث ، وجمع الإسماعيلي بأن النهي مقيد بما إذا كان في الصلاة أو قاصدا إليها ، إذ منتظر الصلاة في حكم المصلي ، وقيل : إن صورته تشبه صورة [ ص: 13 ] الاختلاف ، فكره ذلك لمن هو في حكم الصلاة ، حتى لا يقع في المنهي عنه ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم للمصلين : " ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم ، وقال الحافظ مغلطاي في شرح البخاري : زعم بعضهم أن هذه الأحاديث التي أوردها البخاري في هذا الباب معارضة لحديث النهي عن التشبيك ، وقال ابن بطال : إن حديث النهي ليس مساويا لهذه الأحاديث في الصحة ، وقال الأكثر : حديث النهي مخصوص بالصلاة وهو قول مالك : روى عنه أنه قال : إنهم لينكرون تشبيك الأصابع في المسجد وما به بأس ، وإنما يكره في الصلاة ، ورخص فيه ابن عمر ، وسالم ابنه ، فكانا يشبكان بين أصابعهما في الصلاة ، ثم قال مغلطاي : والتحقيق أنه ليس بين حديث النهي عن التشبيك وبين تشبيكه صلى الله عليه وسلم بين أصابعه معارضة ; لأن النهي إنما ورد عن فعله في الصلاة أو في المضي إليها ، وفعله صلى الله عليه وسلم للتشبيك ليس في صلاة ولا في المضي إليها ، فلا معارضة إذن وبقي كل حديث على حياله انتهى .

            قلت : ومن الأحاديث في تشبيكه صلى الله عليه وسلم ما أخرجه البخاري ، والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر ، قال : " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بفناء الكعبة محتبيا بيده هكذا - زاد البيهقي - وشبك بين أصابعه " . وأخرج أبو داود عن عبد الله بن عمرو بن العاص : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " كيف بكم وبزمان يغربل الناس فيه غربلة تبقى حثالة من الناس قد مرجت عهودهم وأماناتهم ، واختلفوا فكانوا هكذا وشبك بين أصابعه " .

            وأخرج البزار عن ثوبان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كيف أنتم في قوم مرجت عهودهم وأيمانهم وأماناتهم ، وصاروا هكذا وشبك بين أصابعه " .

            وأخرج الطبراني عن سهل بن سعد الساعدي قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال : " كيف ترون إذا أخرتم في زمان حثالة من الناس قد مرجت عهودهم ونذورهم فاشتبكوا فكانوا هكذا وشبك بين أصابعه ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم قال : تأخذون ما تعرفون وتدعون ما تنكرون ، ويقبل أحدكم على خاصة نفسه ويذر أمر العامة .

            وأخرج الطبراني عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كيف أنت إذا كنت في حثالة من الناس واختلفوا حتى يكونوا هكذا وشبك بين أصابعه ؟ قال : الله ورسوله أعلم قال : خذ ما تعرف ودع ما تنكر " .

            وأخرج الشافعي ، وأحمد ، وأبو داود ، والنسائي بسند صحيح على شرط مسلم ، عن جبير بن مطعم قال : لما كان يوم خيبر وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم ذوي القربى في بني هاشم وبني المطلب ، وترك بني نوفل وبني عبد [ ص: 14 ] شمس فانطلقت أنا وعثمان بن عفان حتى أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا : يا رسول الله هؤلاء بنو هاشم لا ننكر فضلهم للموضع الذي وضعك الله به منهم ، فما بال إخواننا بني المطلب أعطيتهم وتركتنا وقرابتنا واحدة ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أنا وبنو المطلب لا نفترق في جاهلية ولا إسلام ، وإنما نحن وهم شيء واحد وشبك بين أصابعه " .

            وأخرج البيهقي في الزهد عن أبي ذر قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا أبا ذر كيف أنت إذا كنت في حثالة وشبك بين أصابعه ؟ قلت : يا رسول الله ما تأمرني ؟ اصبر ، اصبر ، اصبر خالقوا الناس بأخلاقهم وخالفوهم في أعمالهم " .

            وأخرج الترمذي عن أبي سعيد الخدري ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا دفن العبد الكافر يقول له القبر لا مرحبا ولا أهلا ، ثم يلتئم عليه حتى تلتقي أضلاعه ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصابع يديه فشبكها " . وأخرج مسلم ، وأبو داود عن جابر في حديث الحج قال : قام سراقة بن جعشم فقال : يا رسول الله ألعامنا هذا أم لأبد ؟ فشبك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه في الأخرى ، وقال : " دخلت العمرة في الحج مرتين " .

            وأخرج ابن عساكر عن ابن مسعود ، قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أي المؤمنين أعلم ؟ قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : إذا اختلفوا وشبك بين أصابعه أبصرهم بالحق ، وإن كان في عمله تقصير ، وإن كان يزحف زحفا " .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية