الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 129 ] فلينظر الإنسان إلى طعامه إنا صببنا الماء صبا ثم شققنا الأرض شقا فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا وفاكهة وأبا متاعا لكم ولأنعامكم

إما مفرع على قوله : لما يقض ما أمره فيكون مما أمره الله به من النظر ، وإما على قوله : ( ما أكفره ) فيكون هذا النظر مما يبطل ويزيل شدة كفر الإنسان . والفاء مع كونها للتفريع تفيد معنى الفصيحة ؛ إذ التقدير : إن أراد أن يقضي ما أمره فلينظر إلى طعامه ، أو إن أراد نقض كفره فلينظر إلى طعامه . وهذا نظير الفاء في قوله تعالى : إن كل نفس لما عليها حافظ فلينظر الإنسان مم خلق أي إن أراد الإنسان الخلاص من تبعات ما يكتبه عليه الحافظ فلينظر مم خلق ليهتدي بالنظر فيؤمن فينجو .

وهذا استدلال آخر على تقريب كيفية البعث انتقل إليه في معرض الإرشاد إلى تدارك الإنسان ما أهمله وكان الانتقال من الاستدلال بما في خلق الإنسان من بديع الصنع من دلائل قائمة بنفسه في آية من أي شيء خلقه إلى الاستدلال بأحوال موجودة في بعض الكائنات شديدة الملازمة لحياة الإنسان ترسيخا للاستدلال ، وتفننا فيه ، وتعريضا بالمنة على الإنسان في هذه الدلائل ، ومن نعمة النبات الذي به بقاء حياة الإنسان وحياة ما ينفعه من الأنعام .

وتعدية فعل النظر هنا بحرف ( إلى ) تدل على أنه من نظر العين إشارة إلى أن العبرة تحصل بمجرد النظر في أطواره . والمقصود التدبر فيما يشاهده الإنسان من أحوال طعامه بالاستدلال بها على إيجاد الموجودات من الأرض . وجعل المنظور إليه ذات الطعام مع أن المراد النظر إلى أسباب تكونه وأحوال تطوره إلى حالة انتفاع الإنسان به وانتفاع أنعام الناس به .

وذلك من أسلوب إناطة الأحكام بأسماء الذوات ، والمراد أحوالها مثل قوله تعالى : حرمت عليكم الميتة أي : أكلها ، فأمر الله الإنسان بالتفكير في أطوار تكون الحبوب والثمار التي بها طعامه ، وقد وصف له تطور ذلك ليتأمل ما أودع إليه في [ ص: 130 ] ذلك من بديع التكوين سواء رأى ذلك ببصره أم لم يره ، ولا يخلو أحد عن علم إجمالي بذلك ، فيزيده هذا الوصف علما تفصيليا ، وفي جميع تلك الأطوار تمثيل لإحياء الأجساد المستقرة في الأرض ، فقد يكون هذا التمثيل في مجرد الهيئة الحاصلة بإحياء الأجساد ، وقد يكون تمثيلا في جميع تلك الأطوار بأن تخرج الأجساد من الأرض كخروج النبات بأن يكون بذرها في الأرض ويرسل الله لها قوى لا نعلمها تشابه قوة الماء الذي به تحيا بذور النبات ، قال تعالى : والله أنبتكم من الأرض نباتا ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا .

وفي تفسير ابن كثير عند قوله تعالى : وإذا النفوس زوجت عن ابن حاتم بسنده إلى ابن عباس يسيل واد من أصل العرش فيما بين الصيحتين فينبت منه كل خلق بلي إنسان أو دابة ولو مر عليهم مار قد عرفهم قبل ذلك لعرفهم قد نبتوا على وجه الأرض ، ثم ترسل الأرواح فتزوج الأجساد اهـ . وأمور الآخرة لا تتصورها الأفهام بالكنه ، وإنما يجزم العقل بأنها من الممكنات وهي مطيعة لتعلق القدرة التنجيزي .

والإنسان المذكور هنا هو الإنسان المذكور في قوله : قتل الإنسان ما أكفره ، وإنما جيء باسمه الظاهر دون الضمير كما في قوله : من أي شيء خلقه ; لأن ذلك قريب من معاده وما هنا ابتداء كلام فعبر فيه بالاسم الظاهر للإيضاح .

وأدمج في ذلك منة عليه بالإمداد بالغذاء الذي به إخلاف ما يضمحل من قوته بسبب جهود العقل والتفكير الطبيعية التي لا يشعر بحصولها في داخل المزاج ، وبسبب كد الأعمال البدنية والإفرازات ، وتلك أسباب لتبخر القوى البدنية فيحتاج المزاج إلى تعويضها وإخلافها وذلك بالطعام والشراب .

وإنما تعلق النظر بالطعام مع أن الاستدلال هو بأحوال تكوين الطعام ، إجراء للكلام على الإيجاز ويبينه ما في الجمل بعده من قوله : أنا صببنا الماء صبا إلى آخرها .

فالتقدير : فلينظر الإنسان إلى خلق طعامه وتهيئة الماء لإنمائه وشق الأرض وإنباته وإلى انتفاعه به وانتفاع مواشيه في بقاء حياتهم .

[ ص: 131 ] وقرأ الجمهور ( إنا صببنا ) بكسر همزة ( أنا ) على أن الجملة بيان لجملة فلينظر الإنسان إلى طعامه لتفصيل ما أجمل هنالك على وجه الإيجاز . وقرأه عاصم ، وحمزة ، والكسائي ، وخلف ، ورويس عن يعقوب بفتح الهمزة على أنه اسم بدل اشتمال من ( طعامه ) أو البدل الذي يسميه بعض النحويين بدل مفصل من مجمل .

والصب : إلقاء صبرة متجمعة من أجزاء مائعة ، أو كالمائعة في الدقة في وعاء غير الذي كانت فيه ، يقال : صب الماء في الجرة ، وصب القمح في الهري ، وصب الدراهم في الكيس . وأصله : صب الماء ، مثل نزول المطر وإفراغ الدلو .

والشق : الإبعاد بين ما كان متصلا ، والمراد هنا شق سطح الأرض بخرق الماء فيه أو بآلة كالمحراث والمسحاة ، أو بقوة حر الشمس في زمن الصيف لتتهيأ لقبول الأمطار في فصل الخريف والشتاء .

وإسناد الصب والشق والإنبات إلى ضمير الجلالة ; لأن الله مقدر نظام الأسباب المؤثرة في ذلك ومحكم نواميسها وملهم الناس استعمالها .

فالإسناد مجاز عقلي في الأفعال الثلاثة . وقد شاع في ( صببنا ) و ( أنبتنا ) حتى ساوى الحقيقة العقلية .

وانتصب ( صبا ) و ( شقا ) على المفعول المطلق ل ( صببنا ) و ( شققنا ) مؤكدا لعامله ليتأتى تنوينه لما في التنكير من الدلالة على التعظيم وتعظيم كل شيء بما يناسبه وهو تعظيم تعجيب .

والفاء في قوله : ( فأنبتنا ) للتفريع والتعقيب وهو في كل شيء بحسبه .

والحب أريد منه المقتات منه للإنسان ، وقد تقدم في قوله تعالى : كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في سورة البقرة .

والعنب : ثمر الكرم ، ويتخذ منه الخمر والخل ، ويؤكل رطبا ، ويتخذ منه الزبيب .

والقضب : الفصفصة الرطبة ، سميت قضبا لأنها تعلف للدواب رطبة فتقضب ، [ ص: 132 ] أي : تقطع مرة بعد أخرى ولا تزال تخلف ما دام الماء ينزل عليها ، وتسمى القت .

والزيتون : الثمر الذي يعصر منه الزيت المعروف .

والنخل : الشجر الذي ثمرته التمر وأطواره .

والحدائق : جمع حديقة وهي الجنة من نخل وكرم وشجر وفواكه ، وعطفها على النخل من عطف الأعم على الأخص ، ولأن في ذكر الحدائق إدماجا للامتنان بها ، لأنها مواضع تنزههم واخترافهم .

وإنما ذكر النخل دون ثمرته ، وهو التمر ، خلافا لما قرن به من الثمار والفواكه والكلأ ; لأن منافع شجر النخيل كثيرة لا تقتصر على ثمره ، فهم يقتاتون ثمرته من تمر ورطب وبسر ، ويأكلون جماره ، ويشربون ماء عود النخلة إذا شق عنه ، ويتخذون من نوى التمر علفا لإبلهم ، وكل ذلك من الطعام ، فضلا عن اتخاذهم البيوت والأواني من خشبه ، والحصر من سعفه ، والحبال من ليفه ، فذكر اسم الشجرة الجامعة لهذه المنافع أجمع في الاستدلال بمختلف الأحوال وإدماج الامتنان بوفرة النعم ، وقد تقدم قريبا في سورة النبأ .

والغلب : جمع غلباء ، وهي مؤنث الأغلب ، وهو غليظ الرقبة ، يقال غلب كفرح ، يوصف به الإنسان والبعير ، وهو هنا مستعار لغلظ أصول الشجر ، فوصف الحدائق به إما على تشبيه الحديقة في تكاثف أوراق شجرها والتفافها بشخص غليظ الأوداج والأعصاب فتكون استعارة ، وإما على تقدير محذوف ، أي : غلب شجرها ، فيكون نعتا سببيا وتكون الاستعارة في تشبيه كل شجرة بامرأة غليظة الرقبة ، وذلك من محاسن الحدائق لأنها تكون قد استكملت قوة الأشجار كما في قوله : وجنات ألفافا .

وخصت الحدائق بالذكر لأنها مواضع التنزه والاختراف ، ولأنها تجمع أصنافا من الأشجار .

والفاكهة : الثمار التي تؤكل للتفكه لا للاقتيات ، مثل الرطب ، والعنب الرطب ، والرمان ، واللوز .

[ ص: 133 ] والأب - بفتح الهمزة وتشديد الباء - : الكلأ الذي ترعاه الأنعام ، روي أن أبا بكر الصديق سئل عن الأب : ما هو ؟ فقال : ( أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله ما لا علم لي به . وروي أن عمر بن الخطاب قرأ يوما على المنبر ( فأنبتنا فيها حبا ) إلى ( وأبا ) فقال : كل هذا قد عرفناه فما الأب ؟ ثم رفع عصا كانت في يده وقال : هذا لعمر الله هو التكلف ، فما عليك يا ابن أم عمر أن لا تدري ما الأب ، ابتغوا ما بين لكم من هذا الكتاب فاعملوا به ، وما لم تعرفوه فكلوه إلى ربه ، وفي صحيح البخاري عن عمر بعض هذا مختصرا .

والذي يظهر لي في انتفاء علم الصديق ، والفاروق بمدلول الأب وهما من خلص العرب لأحد سببين : إما لأن هذا اللفظ كان قد تنوسي من استعمالهم فأحياه القرآن لرعاية الفاصلة ، فإن الكلمة قد تشتهر في بعض القبائل أو في بعض الأزمان وتنسى في بعضها ، مثل اسم السكين عند الأوس والخزرج ، فقد قال أنس بن مالك : ما كنا نقول إلا المدية حتى سمعت قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكر أن سليمان - عليه السلام - قال : " ائتوني بالسكين أقسم الطفل بينهما نصفين " .

وإما لأن كلمة الأب تطلق على أشياء كثيرة منها النبت الذي ترعاه الأنعام ، ومنها التبن ، ومنها يابس الفاكهة ، فكان إمساك أبي بكر ، وعمر عن بيان معناه لعدم الجزم بما أراد الله منه على التعيين ، وهل الأب مما يرجع إلى قوله : ( متاعا لكم ) أو إلى قوله : ( ولأنعامكم ) في جمع ما قسم قبله .

وذكر في الكشاف وجها آخر خاصا بكلام عمر فقال : إن القوم كانت أكبر همتهم عاكفة على العمل ، وكان التشاغل بشيء من العلم لا يعمل به تكلفا عندهم ، فأراد عمر أن الآية مسوقة في الامتنان على الإنسان . وقد علم من فحوى الآية أن الأب بعض ما أنبته الله للإنسان متاعا له ولأنعامه فعليك بما هو أهم من النهوض بالشكر لله على ما تبين لك مما عدد من نعمه ولا تتشاغل عنه بطلب الأب ومعرفة النبات الخاص الذي هو اسم له واكتف بالمعرفة الجملية إلى أن يتبين لك في غير هذا الوقت ، ثم وصى الناس بأن يجروا على هذا [ ص: 134 ] السنن فيما أشبه ذلك من مشكلات القرآن اهـ . ولم يأت كلام الكشاف بأزيد من تقرير الإشكال .

وقوله : ( متاعا لكم ) حال من المذكورات يعود إلى جميعها على قاعدة ورود الحال بعد مفردات متعاطفة ، وهذا نوع من التنازع .

وقوله : ( ولأنعامكم ) عطف قوله : ( لكم ) .

والمتاع : ما ينتفع به زمنا ثم ينقطع ، وفيه لف ونشر مشوش ، والسامع يرجع كل شيء من المذكورات إلى ما يصلح له لظهوره . وهذه الحال واقعة موقع الإدماج ، أدمجت الموعظة والمنة في خلال الاستدلال .

التالي السابق


الخدمات العلمية