الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( ويحرم عليه الصيد المأكول من الوحش والطير فلا يجوز له أخذه لقوله تعالى : { حرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما } فإن أخذه لم يملكه بالأخذ ; لأن ما منع من أخذه لحق الغير لم يملكه بالأخذ من غير إذنه كما لو غصب مال غيره فإن كان الصيد لآدمي وجب رده إلى مالكه وإن كان من المباح وجب إرساله في موضع يمتنع على من يأخذه ; لأن ما حرم أخذه لحق الغير إذا أخذه وجب رده إلى مالكه كالمغصوب وإن هلك عنده وجب عليه الجزاء ; لأنه مال حرام أخذه لحق الغير فضمنه بالبدل كمال الآدمي فإن خلص صيدا من فم سبع فداواه فمات في يده لم يضمنه ; لأنه قصد الصلاح .

                                      قال الشافعي - رحمه الله - ولو قيل : يضمن لأن تلفه في يده كان محتملا ويحرم عليه قتله فإن قتله عمدا وجب عليه الجزاء - لقوله تعالى : { لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم } وإن قتله خطأ وجب عليه الجزاء ; لأن ما ضمن عمده بالمال ضمن خطؤه كمال الآدمي ولأنه كفارة تجب بالقتل فاستوى فيه الخطأ والعمد ككفارة القتل وإن كان الصيد مملوكا لآدمي وجب عليه الجزاء والقيمة وقال المزني : لا يجب الجزاء في صيد المملوك ; لأنه يؤدي إلى إيجاب بدلين عن متلف واحد والدليل على أنه يجب أنه كفارة تجب بالقتل فوجبت بقتل المملوك ككفارة القتل ويحرم عليه جرحه ; لأن ما منع من إتلافه لحق الغير منع من إتلاف أجزائه كالآدمي فإن أتلف جزءا منه ضمنه بالجزاء ; لأن ما ضمن جميعه بالبدل ضمنت أجزاؤه كالآدمي ويحرم عليه تنفير الصيد { لقوله صلى الله عليه وسلم في مكة : لا ينفر صيدها } وإذا حرم ذلك في صيد الحرم وجب أن يحرم في الإحرام فإن نفره فوقع في بئر فهلك أو نهشته حية أو أكله سبع وجب عليه الضمان لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه دخل دار الندوة فعلق رداءه فوقع عليه طائر فخاف أن ينجسه [ ص: 308 ] فطيره فنهشته حية فقال : طير طردته حتى نهشته الحية فسأل من كان معه أن يحكموا عليه بشاة " ولأنه هلك بسبب من جهته فأشبه إذا حفر له بئرا أو نصب أحبولة فهلك بها ويحرم عليه أن يعين على قتله بدلالة أو إعارة آلة ; لأن ما حرم قتله حرمت الإعانة على قتله كالآدمي وإن أعان على قتله بدلالة أو إعانة آلة فقتل لم يجب عليه الجزاء ; لأن ما لا يلزمه حفظه لا يضمنه بالدلالة على إتلافه كمال الغير ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) أما قوله صلى الله عليه وسلم { في مكة ولا ينفر صيدها } فرواه البخاري ومسلم من رواية ابن عباس ( وأما ) الأثر المذكور عن عمر رضي الله عنه فرواه الشافعي والبيهقي وفي إسناده رجل مستور والرجلان اللذان حكما على عمر هما عثمان ونافع بن عبد الحارث الصحابي قوله : ما منع من أخذه لحق الغير لم يملكه بالأخذ من غير إذنه قال القلعي : قوله : لحق الغير احتراز ممن رأى صيدا في لجة البحر أو في مهلكة أخرى بحيث يغلب على ظنه أنه لو كان عالج أخذه لهلك دونه فإنه ممنوع من أخذه فلو خاطر بنفسه وأخذه ملكه قال : ومع هذا فهذه العلة منتقضة بمن سبق إلى معدن ظاهر أو إلى شيء من المباحات فإنه أحق به فلا يجوز لغيره مزاحمته فيه قبل قضاء وطره فإن زاحمه فيه غيره وأخذه ملكه بالأخذ مع كونه ممنوعا من أخذه لحق الغير .

                                      ( قوله ) : لأن ما حرم أخذه لحق الغير إذا أخذه وجب رده كالمغصوب قال القلعي : قوله : لحق الغير يحترز ممن غصب خمرا من مسلم على قصد شربها فإنه يجب عليه أخذها لحق الله - تعالى - لا لحق الآدمي ثم لا يجب ردها على المغصوب منه بل تجب إراقتها قوله : لأنه مال حرام أخذه لحق الغير فضمنه بالبدل كمال الآدمي احتراز ممن خاطر بنفسه في أخذ صيد من مهلكة يغلب على ظنه الهلاك إذا عالج أخذه بأن كان في مسبعة أو لجة ونحو ذلك فإنه يحرم أخذه لحق نفسه لا لحق غيره فإذا أخذه ملكه [ ص: 309 ] ولا يضمنه ومع هذا فهذه العلة منتقضة بالحربي إذا أتلف مال مسلم وبالعبد إذا أخذ مال سيده فأتلفه فإنه ما حرم أخذه لحق الغير ولا يضمنه بالبدل فكان ينبغي أن يقول : والأخذ من أهل الضمان في حقه ليحترز من الحربي والعبد كما قال المصنف مثل هذا في أول باب الغصب .

                                      قوله : ( لأن ما ضمن عمده بالمال ضمن خطؤه ) احترز بالمال من ضمان القصاص ومع هذا فهذه العلة منتقضة بمن قتل من تترس به المشركون من النساء والصبيان فإنه يضمنه بالكفارة إن قتله عمدا ولا يضمن إن قتله خطأ .

                                      ( قوله ) : لأنه كفارة تجب بالقتل فاستوى فيه الخطأ والعمد احترز بقوله : بالقتل من الطيب واللباس فإن الكفارة تجب في العمد ومع هذا فهو منتقض بمن تترس به المشركون كما ذكرناه في الاحتراز الذي قبله قوله : لأن ما ضمن جميعه بالبدل ضمنت أجزاؤه احترز بالبدل عن الكفارة فإنها تجب بقتل النفس دون قطع الطرف ومع هذا فهو منتقض بالعارية فإنه يضمن جميعها بالبدل ولا يضمن أجزاءها الناقصة بالاستعمال فكان ينبغي أن يقول : وما ضمن جميعه بالبدل ولم يؤذن في إتلاف أجزائه ضمنت أجزاؤه قوله : وإذا حرم ذلك في صيد الحرم وجب أن يحرم في الإحرام يعني لاشتراكهما في تحريم الاصطياد والإحرام أولى ; لأن حرمته آكد ولهذا يحرم فيه الطيب واللباس والنكاح وغيرها بخلاف الحرم قوله : دخل دار الندوة هي - بفتح النون وإسكان الدال المهملة وفتح الواو - وهي دار معروفة بمكة كانت منزل قصي بن كلاب جد جد أبي رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب ثم صارت قريش تجتمع فيها للمشاورة ونحوها إذا عرض لهم أمر مهم قال الأزرقي في تاريخ مكة : سميت بذلك لاجتماع الندي فيها يتشاورون ويبرمون أمرهم والندي [ ص: 310 ] بفتح النون وكسر الدال وتشديد الياء - الجماعة ينتدون - أي يتحدثون - قال الأزرقي والحازمي وغيرهما : وقد صارت دار الندوة في المسجد الحرام وهي في جانبه الشمال قال الماوردي في الأحكام السلطانية : أول دار بنيت بمكة دار الندوة والله أعلم .

                                      قوله : نصب أحبولة هي - بضم الهمزة والباء - وهي المصيدة - بكسر الميم - والمشهور في اللغة فيها حبالة بكسر الحاء وقوله : بدلالة هي - بكسر الدال وفتحها - ويقال : دلولة - بضمها - ثلاث لغات سبق بيانهن قوله : لأن ما لا يلزمه حفظه لا يضمنه بالدلالة على إتلافه احتراز من الوديعة عنده فإنه لو دل عليها ضمنها والله أعلم . أما الأحكام فأجمعت الأمة على تحريم الصيد في الإحرام وإن اختلفوا في فروع منه ودلائله نص الكتاب والسنة وإجماع الأمة قال أصحابنا : يحرم عليه كل صيد بري مأكول أو في أصله مأكول وحشيا كان أو في أصله وحشي هذا ضابطه فأما ما ليس بصيد كالبقر والغنم والإبل والخيل وغيرها من الحيوان الإنسي فليس بحرام بالإجماع ; لأنه ليس بصيد وإنما حرم الشرع الصيد قال القاضي أبو الطيب والأصحاب : قال الشافعي يحرم على المحرم الدجاجة الحبشية ; لأنها وحشية تمتنع بالطيران وإن كانت ربما ألفت البيوت قال القاضي : وهي شبيهة بالدجاج قال : وتسمى بالعراق سندية فإن أتلفها لزمه الجزاء والله أعلم .

                                      ( وأما ) ما ليس بمأكول ولا هو متولد من مأكول وغير مأكول فليس بحرام بلا خلاف عندنا وقد ذكره المصنف في الفصل الذي بعد هذا وهناك نوضحه بدلائله وفروعه إن شاء الله - تعالى - .

                                      ( أما ) صيد البحر فحلال للحلال والمحرم بالنص والإجماع قال الله - تعالى - : { أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما } قال أصحابنا : والمراد بصيد البحر الذي هو حلال للمحرم ما لا يعيش إلا في [ ص: 311 ] البحر سواء الصغير والكبير ( أما ) ما يعيش في البر والبحر فحرام كالبري تغليبا لجهة التحريم كما قلنا في المتولد من مأكول وغيره ( وأما ) الطيور المائية التي تغوص في الماء وتخرج منه فبرية محرمة على المحرم .

                                      ( وأما ) الجراد فبري على المشهور وفيه قول واه سنوضحه حيث ذكره المصنف إن شاء الله - تعالى - أنه بحري غير مضمون .

                                      قال الماوردي وغيره : قال الشافعي : كل ما كان أكثر عيشه في الماء فكان في بحر أو نهر أو بئر أو واد أو ماء مستنقع أو غيره فسواء وهو مباح صيده للمحرم في الحل والحرم قال : فأما طائره فإنما يأوي إلى أرض فهو صيد بر حرام على المحرم هذا نصه وتابعوه عليه .

                                      ( وأما ) المتولد من مأكول وغير مأكول أو من وحشي وإنسي كمتولد بين ظبي وشاة أو بين يعفور ودجاجة فيحرمان على المحرم ويجب فيهما الجزاء كما سنوضحه إن شاء الله - تعالى - بعدها حيث ذكره المصنف في الفصل الآتي ( وأما ) الصيد المحرم الذي سبق ضبطه فيحرم جميع أنواعه صغيره وكبيره وحشه وطيره وسواء المستأنس منه وغيره والمملوك وغيره وقال المزني لا جزاء في المملوك وذكر المصنف الدليل قال الشافعي والأصحاب : يضمن المحرم الصيد المملوك بالجزاء والقيمة فيجب الجزاء لله - تعالى - يصرف إلى مساكين الحرم والقيمة لمالكه قال أصحابنا : فإن أتلفه بغير ذبح فعليه للآدمي كمال القيمة وعليه لله - تعالى - الجزاء وإن ذبحه .

                                      ( فإن قلنا ) : ذبيحة المحرم ميتة لا تحل لأحد فعليه أيضا القيمة بكمالها ( وإن قلنا ) : تحل ذبيحته لزمه مع الجزاء لمالكه ما بين قيمته مذبوحا وحيا إذا رده إليه مذبوحا وإذا أتلفه أو ذبحه وقلنا : هو ميتة فجلده لمالكه لا للمحرم صرح به الماوردي وغيره قال أصحابنا : ولو توحش حيوان إنسي كشاة وبعير ودجاجة ونحوها لم يحرم ولا جزاء فيه بلا خلاف ; لأنه ليس بصيد .

                                      [ ص: 312 ] قال أصحابنا : ويحرم قتل الصيد وأخذه وجرحه وإتلاف شيء من أجزائه وتنفيره والتسبب في ذلك كله أو في شيء منه فإن أخذه لم يملكه لما ذكره المصنف فإن كان مملوكا لآدمي لزمه رده إلى صاحبه وإن كان مباحا وجب إرساله في موضع يمتنع على من يقصده فإن أتلفه أو تلف عنده ضمنه بالجزاء وإن كان مملوكا لآدمي ضمنه بالجزاء أو القيمة كما سبق ودليل هذا كله في الكتاب ولو خلص المحرم صيدا من فم سبع أو هرة أو نحوهما وأخذه ليداويه ثم يرسله أو رآه مجروحا فأخذه ليداويه ثم يرسله فمات في يده ففي ضمانه القولان اللذان ذكرهما المصنف وهما مشهوران واتفقوا على أن الأصح أنه لا يضمن ; لأنه قصد الصلاح وذكر الشيخ أبو محمد الجويني في كتاب السلسلة في المسألة طريقين :

                                      ( أحدهما ) على القولين ( والثاني ) لا يضمن قولا واحدا قال أبو محمد : وفرع أصحابنا على هذا أنه لو انتزع إنسان العين المغصوبة من غاصبها ليردها إلى مالكها فتلفت في يده بلا تفريط هل يضمن فيه الطريقان كالصيد ؟

                                      ( فرع ) لو حصل تلف الصيد بسبب شيء في يد المحرم بأن كان راكب دابة أو سائقها أو قائدها فتلف صيد بعضها أو رفسها أو بالت في الطريق فزلق به صيد فهلك به ضمنه ; لأنها منسوبة إليه فضمن ما أتلفته أو تلف بسببها كما لو أتلف آدميا ومالا ( أما ) إذا انفلتت دابة المحرم فأتلفت صيدا فلا شيء عليه نص الشافعي - رحمه الله - على هذا الفرع كله واتفق الأصحاب عليه قال الدارمي : ولو كان مع الدابة ثلاثة سائق وقائد وراكب فأتلفت صيدا فوجهان : ( أحدهما ) يجب الجزاء على الثلاثة ( والثاني ) على الراكب وحده



                                      ( فرع ) قال أصحابنا : جهات ضمان الصيد في حق المحرم ثلاث المباشرة واليد والتسبب ( فأما ) المباشرة فمعروفة ( وأما ) اليد فيحرم على المحرم وضع يده على الصيد ولا يملكه بذلك ويضمنه إن تلف وقد [ ص: 313 ] سبق هذا قريبا واضحا ومن هذا ما إذا حصل التلف بسبب دابة في يده كما سبق بيانه قريبا وأما - إذا سبقت اليد على الإحرام أو كانت يدا قهرية كالإرث أو يد معاقدة كشراء أو وصية أو هبة ونحوها فقد ذكره المصنف بعد هذا وسنوضحه قريبا إن شاء الله - تعالى -



                                      ( وأما ) التسبب ففيه مسائل : ( إحداها ) لو نصب الحلال شبكة أو فخا أو حبالة ونحو ذلك في الحرم أو نصبها المحرم حيث كان فتعقل بها صيد وهلك لزمه ضمانه سواء نصبها في ملكه أو موات أو غيرهما ( فأما ) إذا نصبها وهو حلال ثم أحرم فوقع بها صيد فلا يضمنه بلا خلاف نص عليه وصرح به القفال والبندنيجي والأصحاب



                                      ( الثانية ) قال الشافعي والأصحاب : يكره للمحرم استصحاب البازي وكل صائد من كلب وغيره فإن حله فأرسله على صيد فلم يقتله ولم يؤذه فلا جزاء عليه لكن يأثم كما لو رماه بسهم فأخطأه فإنه يأثم بالرمي لقصده الحرام ولا ضمان لعدم الإتلاف ولو انفلت بنفسه فقتله فلا ضمان نص عليه الشافعي في المناسك الكبير واتفق الأصحاب عليه سواء فيه الكلب والبازي وغيرهما قال الماوردي : وسواء فرط في حفظه أم لا ; لأن للكلب اختيارا ( وأما ) إذا أرسل الكلب على الصيد أو حل رباطه وهناك صيد ولم يرسله فأتلفه ضمنه ; لأنه متسبب ولو كان هناك صيد وانحل رباط الكلب لتقصير المحرم فالمذهب أنه يضمنه وفيه خلاف ضعيف حكاه الرافعي فلو لم يكن هناك صيد فأرسل الكلب أو حل رباطه فظهر صيد ضمنه أيضا على الأصح ; لأنه منسوب إليه قالالماوردي : ( فإن قيل ) : قلتم هنا : إنه لو أرسل الكلب على الصيد ضمنه ولو أرسله على آدمي فقتله لا ضمان فالفرق أن الكلب معلم للاصطياد فإذا صاد بإرساله كان كصيده بنفسه فضمنه وليس هو [ ص: 314 ] معلما قتل الآدمي فإذا أغراه على آدمي فقتله لم يكن القتل منسوبا إلى المغري بل إلى اختيار الكلب فلم يضمنه قال : ومثاله في الصيد أن يرسل كلبا غير معلم على صيد فيقتله فلا ضمان ; لأن غير المعلم لا ينسب فعله إلى المرسل بل إلى اختياره ولهذا لا يؤكل ما اصطاده بعد الإرسال كما لا يؤكل ما صاده المسترسل بنفسه هذا كلام الماوردي وهذا الذي قاله في غير المعلم فيه نظر وينبغي أن يضمن بإرساله ; لأنه سبب والله أعلم .



                                      ( الثالثة ) إذا نفر المحرم صيدا فعثر وهلك بالعثار أو أخذه في مغارة سبع أو انصدم بشجرة أو جبل أو غير ذلك لزمه الضمان سواء قصد تنفيره أم لا قال أصحابنا : ولا يزال المنفر في عهدة ضمان التنقير حتى يعود الطير إلى عادته في السكون فإن عاد ثم هلك بعد ذلك فلا ضمان بلا خلاف ولو هلك في حال هربه ونفاره قبل سكونه بآفة سماوية فوجهان حكاهما إمام الحرمين وآخرون قالوا : أصحهما لا ضمان ; لأنه لم يتلف في يده ولا بسببه والثاني يضمنه لاستدامة أثر النفار



                                      ( الرابعة ) لو صاح المحرم على صيد فمات بسبب صياحه أو صاح حلال على صيد في الحرم فمات به : ( فوجهان ) حكاهما البغوي ( أحدهما ) يضمنه كما لو صاح على صبي فمات تجب ديته ( والثاني ) لا يضمنه ; لأن الغالب أن الصيد لا يموت بالصياح فهو كما لو صاح على بالغ عاقل متيقظ فمات لا ضمان ولم يرجح واحدا من الوجهين والظاهر الضمان ; لأنه بسببه



                                      ( الخامسة ) إذا حفر المحرم بئرا في محل عدوان أو حفرها حلال في الحرم في محل عدوان فهلك فيها صيد لزمهما الضمان بلا خلاف فإن حفرها في ملكه أو موات فأربعة أوجه : ( أصحهما ) يضمن في الحرم دون الإحرام ( والثاني ) يضمن ( والثالث ) لا يضمن فيهما ( والرابع ) إن حفرها [ ص: 315 ] للصيد ضمن وإلا فلا وجزم الماوردي بأنه إن قصد الاصطياد لا يضمن وإلا فوجهان



                                      ( السادسة ) اتفق أصحابنا أنه لو رمى صيدا فنفذ فيه السهم وأصاب صيدا آخر فقتلهما لزمه جزاؤهما ; لأن أحدهما عمد والآخر خطأ أو بسببه وكل ذلك مضمن وقد نص الشافعي على هذا واتفقوا على أنه لو أصاب صيدا فوقع الصيد على صيد آخر أو على فراخه وبيضه ضمن ذلك كله ; لأنه بسببه



                                      ( السابعة ) لو رمى حلال إلى صيد ثم أحرم ثم أصابه ففي وجوب ضمانه وجهان حكاهما المتولي والروياني وغيرهما ( الأصح ) يضمن ورجح أبو علي البندنيجي عدم الضمان وصحح القاضي حسين في تعليقه والرافعي الضمان قال المتولي : هما كالوجهين فيمن رمى إلى حربي أو مرتد فأسلم ثم أصابه فقتله قال : لكن الأصح هناك لا ضمان ; لأن الرمي إلى الحربي يحتاج إليه للقتال فلو أوجبنا الضمان لامتنع من رميه خوفا من إسلامه ( وأما ) المحرم فيمكنه تأخير الإحرام إلى ما بعد الإصابة ولو رمى سهما إلى صيد وقد بقي عليه من أسباب التحلل الحلق فقصر شعره بعد الرمي ثم أصابه السهم بعد فراغ التقصير - وهو حلال - فوجهان حكاهما المتولي والروياني وآخرون : ( أحدهما ) لا ضمان ; لأن الإصابة في حال لا يضمن فيها فأشبه من رمى إلى مسلم فارتد أو ذمي فنقض العهد ثم أصابه لا ضمان ( والثاني ) يجب لأن الرمي جناية وجدت في الإحرام ويخالف المرتد والذمي فإنهما مقصران بما أحدثا من إهدارهما



                                      ( الثامنة ) إذا دل الحلال محرما على صيد فقتله وجب الجزاء على المحرم ولا ضمان على الحلال سواء كان الصيد في يده أم لا لكنه [ ص: 316 ] يأثم ولو دل المحرم حلالا على صيد فقتله فإن كان الصيد في يد المحرم لزمه الجزاء ; لأنه ترك حفظه وهو واجب عليه فصار كالمودع إذا دل السارق على الوديعة فإنه يضمنها وإن لم يكن في يده فلا جزاء على واحد منهما لكن يأثم المحرم بدلالته وإنما لم يضمن لما ذكره المصنف وهو أنه لم يلتزم حفظه ولو دل المحرم محرما فقتله أو دل الحلال حلالا أو محرما على صيد في الحرم فقتله فلا جزاء على الدال ويجب على القاتل ولو أعان المحرم حلالا أو محرما في قتل صيد بإعارة آلته أو أمره بإتلافه أو نحو ذلك فأتلفه فلا ضمان على المعين لما ذكرناه لكن يأثم سواء كان في الحل أو الحرم .



                                      ( فرع ) قال الشافعي والأصحاب : العامد والمخطئ وهو الناسي والجاهل في ضمان الصيد سواء فيضمنه كل واحد منهم بالجزاء ولكن يأثم العامد دون الناسي والجاهل هذا هو المذهب وبه تظاهرت نصوص الشافعي وطرق الأصحاب وقيل : في وجوب الجزاء على الناسي قولان حكاه المصنف بعد هذا الفصل وحكاه الأصحاب وسنوضحه في موضعه إن شاء الله - تعالى - ولو أحرم به ثم جن أو أغمي عليه فقتل صيدا ففي وجوب الجزاء قولان نص عليهما : ( أقيسهما ) الوجوب ; لأنه من باب الغرامات والمجنون كغيره في ذلك ( والأصح ) أنه لا يجب ; لأن المنع من الصيد تعبد يتعلق بالمكلفين وقد ذكر المصنف المسألة بعد هذا الفصل بقليل ولو أكره المحرم على قتل صيد أو أكره حلال على قتل صيد في الحرم فوجهان حكاهما البغوي وغيره : ( أحدهما ) يجب الجزاء على الآمر ( والثاني ) يجب على المأمور ثم يرجع إلى الآمر كما لو حلق الحلال شعر المحرم مكرها وهذا الثاني أصح وقال الدارمي : هو كما لو أكره على قتل آدمي




                                      الخدمات العلمية