الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
القسم الثاني والعشرون الاعتراض وأسماه قدامة " التفاتا " وهو أن يؤتى في أثناء كلام أو كلامين متصلين معنى ، بشيء يتم الغرض الأصلي بدونه ، ولا يفوت بفواته ، فيكون فاصلا بين الكلام والكلامين ; لنكتة .

وقيل : هو إرادة وصف شيئين : الأول منهما قصدا ، والثاني بطريق الانجرار ، وله تعليق بالأول بضرب من التأكيد .

[ ص: 135 ] وعند النحاة : جملة صغرى تتخلل جملة كبرى على جهة التأكيد .

وقال الشيخ عز الدين في أماليه : " الجملة المعترضة تارة تكون مؤكدة ، وتارة تكون مشددة " ; لأنها إما ألا تدل على معنى زائد على ما دل عليه الكلام بل دلت عليه فقط ; فهي مؤكدة ، وإما أن تدل عليه وعلى معنى زائد ; فهي مشددة " انتهى .

وذكر النحاة مما تتميز به الجملة الاعتراضية عن الحالية كونها طلبية ، كقوله تعالى : ومن يغفر الذنوب إلا الله ( آل عمران : 135 ) فإنه معترض بين فاستغفروا لذنوبهم ( آل عمران : 135 ) وبين : ولم يصروا على ما فعلوا ( آل عمران : 135 ) .

وله أسباب منها تقرير الكلام ، كقولك : فلان أحسن بفلان ونعم ما فعل ، ورأى من الرأي كذا ، وكان صوابا .

ومنه قوله تعالى : تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض ( يوسف : 73 ) لقد علمتم اعتراض ; والمراد تقرير إثبات البراءة من تهمة السرقة .

وقوله : وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم ( محمد : 2 ) ، وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون ( النمل : 34 ) واعترض بقوله : وكذلك يفعلون ( النمل : 34 ) بين كلامها .

وقوله : وأتوا به متشابها ( البقرة : 25 ) .

[ ص: 136 ] ومنها قصد التنزيه ، كقوله تعالى : ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون ( النحل : 57 ) فاعتراض ( سبحانه ) لغرض التنزيه والتعظيم ، وفيه الشناعة على من جعل البنات لله .

ومنها قصد التبرك ، وكقوله تعالى : لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين ( الفتح : 27 ) .

ومنها قصد التأكيد ; كقوله : فلا أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم ( الواقعة : 75 - 76 ) .

وفيها اعتراضان ; فإنه اعترض بقوله : ( وإنه لقسم ) ( الواقعة : 76 ) بين القسم وجوابه ، واعترض بقوله : ( لو تعلمون ) ( الواقعة : 76 ) بين الصفة والموصوف ، والمراد تعظيم شأن ما أقسم به من مواقع النجوم ، وتأكيد إجلاله في النفوس ، لا سيما بقوله : ( لو تعلمون ) ( الواقعة : 76 ) .

وقوله : إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا أولئك لهم جنات عدن ( الكهف : 30 - 31 ) فـ أولئك الخبر ، و إنا لا نضيع اعتراض .

ومنها كون الثاني بيانا للأول ; كقوله تعالى : إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ( البقرة : 222 ) فإنه اعتراض وقع بين قوله : ( فأتوهن ) ( البقرة : 222 ) وبين قوله : نساؤكم حرث لكم ( البقرة : 223 ) وهما متصلان معنى ; لأن الثاني بيان للأول ، كأنه قيل : فأتوهن من حيث يحصل منه الحرث ، وفيه اعتراض بأكثر من جملة .

ومنها تخصيص أحد المذكورين بزيادة التأكيد على أمر علق بهما ، كقوله تعالى : ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك ( لقمان : 14 ) فاعترض بقوله : حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين ( لقمان : 14 ) بين ووصينا وبين الموصى به ، وفائدة ذلك إذكار الولد بما كابدته أمه من المشقة في حمله وفصاله ; فذكر الحمل والفصال يفيد زيادة التوصية بالأم ; لتحملها من المشاق والمتاعب في حمل الولد ما لا يتكلفه الوالد ، ولهذا جاء في الحديث التوصية بالأم ثلاثا وبالأب مرة .

[ ص: 137 ] ومنها زيادة الرد على الخصم ; كقوله تعالى : وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها ( البقرة : 71 ) الآية فقوله : والله مخرج ( البقرة : 72 ) اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه .

وفائدته أن يقرر في أنفس المخاطبين أن تدارؤ بني إسرائيل في قتل تلك الأنفس لم يكن نافعا لهم في إخفائه وكتمانه ; لأن الله تعالى مظهر لذلك ومخرجه ، ولو جاء الكلام خاليا من هذا الاعتراض لكان وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها ( البقرة : 72 ) فقلنا اضربوه ببعضها ( البقرة : 73 ) .

وقوله : وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر ( النحل : 101 ) ، فاعترض بين إذ وجوابها بقوله : والله أعلم بما ينزل ( النحل : 101 ) فكأنه أراد أن يجيبهم عن دعواهم ; فجعل الجواب اعتراضا .

قوله : وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة ( الزمر : 45 ) إلى قوله : بل هي فتنة ولكن أكثرهم لا يعلمون ( الزمر : 49 ) .

وقوله : قل اللهم فاطر السماوات والأرض ( الزمر : 46 ) إلى قوله : وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون ( الزمر : 48 ) اعتراض في أثناء الكلام ، وهو قوله : وإذا ذكر الله وحده اشمأزت ( الزمر : 45 ) الآية وذلك لأن قوله : فإذا مس الإنسان ضر ( الزمر : 49 ) سبب عن قوله : وإذا ذكر الله وحده اشمأزت ( الزمر : 45 ) على معنى أنهم يشمئزون من توحيد الله تعالى ، ويستبشرون بالشرك الذي هو ذكر الآلهة ; فإذا مس أحدهم ضر أو أصابته شدة تناقض في دعواه ; فدعا من اشمأز من ذكره ، وانقبض من توحيده ، ولجأ إليه دون الآلهة ، فهو اعتراض بين السبب والمسبب ، فقيد القول بما فيه من دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - بأمره بذلك ، وبقوله : أنت تحكم بين عبادك ( الزمر : 8 ) ثم عقبه من الوعيد العظيم أشد التأكيد وأعظمه وأبلغه ; ولذلك كان اتصال قوله : وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه ( الزمر : 8 ) للسبب الواقع فيها ، وخلو الأول منه من الأمر اشتراك جملة مع جملة ، ومناسبة أوجبت العطف بالواو الموضوعة لمطلق الجمع ، كقولهم : قام زيد وعمرو .

وتسبيب السبب مع ما في ظاهر الآية من [ ص: 138 ] اشمئزازهم ليس يقتضي التجاءهم إلى الله تعالى ، وإنما يقتضي إعراضهم عنه من جهة أن سياق الآية يقتضي إثبات التناقض ، وذلك أنك تقول : زيد يؤمن بالله تعالى ; فإذا مسه الضر لجأ إليه .

فهذا سبب ظاهر مبني على اطراد الأمر ، وتقول : زيد كافر بالله ; فإذا مسه ضر لجأ إليه .

فتجيء بالفاء هنا كالأول ; لغرض التزام التناقض أو العكس ; حيث أنزل الكافر كفره منزلة الإيمان في فصل سبب الالتجاء ، فأنت تلزمه العكس بأنك إنما تقصد بهذا الكلام الإنكار والتعجب من فعله .

وقوله : وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون ( الزمر : 61 ) بقوله : الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل له مقاليد السماوات والأرض ( الزمر : 62 - 63 ) اعتراض واقع في أثناء كلام متصل ، وهو قوله : وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون ( الزمر : 61 ) والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون ( الزمر : 63 ) وهو على مهيع أسلوب القرآن ; من ذكر الضد عقب الضد كثير كما قيل :

وبضدها تتبين الأشياء

ومنها الإدلاء بالحجة ; كقوله تعالى : وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر ( النحل : 43 - 44 ) فاعترض بقوله : ( فاسألوا ) بين قوله : نوحي إليهم ( النحل : 43 ) وبين قوله : بالبينات والزبر ( النحل : 44 ) .

وبهذه الآية رد ابن مالك على أبي علي الفارسي قوله : " إنه لا يعترض بأكثر من جملة واحدة " .

[ ص: 139 ] ورد بأن جملة الأمر دليل [ على ] للجواب عند الأكثرين ، ونفسه عند آخرين ; فهو مع جملة الشرط كالجملة الواحدة . نعم جوزوا في قوله تعالى : متكئين على فرش بطائنها من إستبرق ( الرحمن : 54 ) أن يكون حالا من قوله : ولمن خاف مقام ربه جنتان ( الرحمن 46 ) فلزم الاعتراض بسبع جمل مستقلات ; إن كان ذواتا أفنان ( الرحمن : 48 ) خبر مبتدأ محذوف ; وإلا فيكون بست جمل .

وقال الزمخشري في قوله تعالى : ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون أفأمن أهل القرى . . . . . ( الأعراف : 96 - 97 ) الآية : " إن في هذه الآية الكريمة سبع جمل معترضة : جملة الشرط ( واتقوا ) و ( فتحنا ) و ( كذبوا ) و ( أخذناهم ) و بما كانوا يكسبون وزعم أن ( أفأمن ) ( الأعراف : 97 ) معطوف على فأخذناهم بغتة ( الأعراف : 95 ) وكذا نقله ابن مالك عن الزمخشري ، وتبعه أبو حيان ، ولم يوجد ذلك في كلام الزمخشري .

قال ابن مالك : ورد عليه من ظن أن الجملة والكلام مترادفان ، قال : وإنما اعترض بأربع جمل ، وزعم أن من عند ( ولو أن ) إلى ( والأرض ) ( الأعراف : 96 ) جملة ; لأن الفائدة إنما تتم بمجموعه .

انتهى .

وفي القولين نظر ; أما على قول ابن مالك فينبغي أن يكون بعدها ثمان جمل : أحدها : وهم لا يشعرون ( الأعراف : 96 ) وأربعة في حيز " لو " وهي : ( آمنوا ) و ( اتقوا ) و ( فتحنا ) ، والمركبة مع أن وصلتها مع " ثبت " مقدرا على الخلاف في أنها فعلية أو اسمية ، والسادسة : ولكن كذبوا ( الأعراف : 96 ) والسابعة : ( فأخذناهم ) والثامنة : بما كانوا يكسبون ( الأعراف : 96 ) .

وأما قول المعترض فلأنه كان من حقه أن يعدها ثلاث جمل : أحدها : وهم لا يشعرون ( الأعراف : 95 ) ; [ ص: 140 ] لأنها حال مرتبطة بعاملها ، وليست مستقلة برأسها ، والثانية : " لو " وما في حيزها ، جملة واحدة فعلية إن قدر : " ولو ثبت أن أهل القرى آمنوا واتقوا " أو اسمية وفعلية إن قدر " إيمانهم " " واتقوا " ثابتان ، والثالثة : ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون ( الأعراف : 96 ) كله جملة .

وينبغي على قواعد البيانيين أن يعدوا الكل جملة واحدة لارتباط بعضها ببعض ، وعلى رأي النحاة ينبغي أن يكون ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا ( الأعراف : 96 ) جملة واحدة ; لأن جملة " واتقوا " معطوفة على خبر " أن " و " لفتحنا " جملة ثانية وما بعدها جملة واحدة ; لارتباط الشرط بالجزاء لفظا ولكن كذبوا ( الأعراف : 96 ) ثانية أو ثالثة ( فأخذناهم ) ثالثة أو رابعة و بما كانوا يكسبون متعلق بـ " أخذناهم " فلا يعد اعتراضا .

وقوله : وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي ( هود : 44 ) فهذه ثلاث جمل معترضة بين وقيل ياأرض ابلعي ماءك ( هود : 44 ) وبين وقيل بعدا ( هود : 44 ) .

وفيه اعتراض في اعتراض ، فإن وقضي الأمر ( هود : 44 ) معترض بين وغيض الماء ( هود : 44 ) وبين ( واستوت ) ( هود : 44 ) .

ولا مانع من وقوع الاعتراض في الاعتراض كقوله : وإنه لقسم لو تعلمون عظيم ( الواقعة : 76 ) .

ومنه قوله تعالى في سورة العنكبوت ذاكرا عن إبراهيم قوله : اعبدوا الله واتقوه ( الآية : 16 ) ثم اعترض تسلية لقلب النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله : وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم وما على الرسول إلا البلاغ المبين ( العنكبوت : 18 ) وذكر آيات ، إلى أن قال : فما كان جواب قومه ( العنكبوت : 24 ) يعني قوم إبراهيم فرجع إلى الأول .

وجعل الزمخشري قوله تعالى : ( فاستفتهم ) ( الصافات : 149 ) وفي آخر الصافات [ ص: 141 ] معطوفا على ( فاستفتهم ) ( الآية : 11 ) في أول السورة ، وقال في قول بعضهم في : نذيرا للبشر ( المدثر : 36 ) إنه حال من فاعل ( قم ) ( المدثر : 2 ) في أول هذه السورة ، هذا من بدع التفاسير ، وهذا الذي ذكره في الصافات منه .

ومن العجب دعوى بعضهم كسر همزة " إن " في قوله تعالى : إن ذلك لحق تخاصم أهل النار ( ص : 64 ) على جواب القسم في قوله تعالى : والقرآن ذي الذكر ( ص : 1 ) حكاه الرماني .

فإن قيل : أين خبر إن في قوله تعالى : إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم ( فصلت : 41 ) الآية ، قيل : الخبر : أولئك ينادون من مكان بعيد ( فصلت : 44 ) .

فوائد قال ابن عمرون : لا يجوز وقوع الاعتراض بين واو العطف وما دخلت عليه ، وقد أجازه قوم في " ثم " ، و " أو " ; فتقول : زيد قائم ثم والله عمرو " .

وقوله تعالى : إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا ( النساء : 135 ) جواب الشرط فقوله : فالله أولى بهما ( النساء : 135 ) اعتراض بين الشرط وجوابه ، مع أن فيه فاء ، والجملة مسندة لـ " يكن " .

قال الطيبي : سئل الزمخشري عن قوله تعالى : فمن شاء ذكره ( المدثر : 55 ) : أهو [ ص: 142 ] اعتراض ؟ قال : لا ; لأن من شرط الاعتراض أن يكون بالواو ونحوها ، وأما بالفاء فلا .

وفهم صاحب " فرائد القلائد " من هذا اشتراط الواو فقال : وقد ذكر الزمخشري إنه كان صديقا نبيا ( مريم : 41 و 56 ) هذه الجملة اعتراض بين البدل وبين المبدل منه ، أعني " إبراهيم " و إذ قال هذا معترض ; لأنه اعتراض بدون الواو بعيد عن الطبع وعن الاستعمال ، وليس كما قال ، فقد يأتي بالواو كما سبق في الأمثلة ، وبدونها كقوله سبحانه ولهم ما يشتهون ( النحل : 57 ) وقد اجتمعا في قوله : فلا أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم إنه لقرآن كريم ( الواقعة : 75 - 76 - 77 ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية