الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
القسم الثالث والعشرون الاحتراس وهو أن يكون الكلام محتملا لشيء بعيد ، فيؤتى بما يدفع ذلك الاحتمال كقوله ; تعالى : اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء ( القصص : 32 ) فاحترس سبحانه بقوله : من غير سوء عن إمكان أن يدخل في ذلك البهق والبرص .

وقوله تعالى : أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين ( المائدة : 54 ) فإنه لو اقتصر على وصفهم بالذلة - وهو السهولة - لتوهم أن ذلك لضعفهم ، فلما قيل : أعزة على الكافرين ( المائدة : 54 ) علم أنها منهم تواضع ; ولهذا عدي " الذل " بعلى لتضمنه معنى العطف .

[ ص: 143 ] وكذلك قوله تعالى : محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم ( الفتح : 29 ) .

وقوله تعالى : لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون ( النمل : 18 ) فقوله : وهم لا يشعرون ( النمل : 18 ) احتراس بين أن من عدل سليمان وفضله وفضل جنوده أنهم لا يحطمون نملة فما فوقها إلا بألا يشعروا بها .

وقد قيل : إنما كان تبسم سليمان سرورا بهذه الكلمة منها ، ولذلك أكد التبسم بالضحك ; لأنهم يقولون : تبسم كتبسم الغضبان ; لينبه على أن تبسمه تبسم سرور .

ومثله قوله تعالى : فتصيبكم منهم معرة بغير علم ( الفتح : 25 ) التفات إلى أنهم لا يقصدون ضرر مسلم .

وقوله تعالى : وقيل بعدا للقوم الظالمين ( هود : 44 ) فإنه سبحانه لما أخبر بهلاك من هلك بالطوفان عقبهم بالدعاء عليهم ، ووصفهم بالظلم ; ليعلم أن جميعهم كان مستحقا للعذاب احتراس من ضعف يوهم أن الهلاك بعمومه ربما شمل من لا يستحق العذاب ، فلما دعا على الهالكين ووصفهم بالظلم علم استحقاقهم لما نزل بهم وحل بساحتهم ، مع قوله أولا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون ( هود : 37 ) .

وأعجب احتراس وقع في القرآن قوله تعالى مخاطبا لنبيه عليه السلام : وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر ( القصص : 44 ) الآية .

وقال حكاية عن موسى وناديناه من جانب الطور الأيمن ( مريم : 52 ) فلما نفى سبحانه عن رسوله أن يكون بالمكان الذي قضى لموسى فيه الأمر عرف المكان بالغربي ، ولم يقل في هذا الموضع : الأيمن كما قال : وناديناه من جانب الطور الأيمن أدبا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ينفى عنه كونه بالجانب الأيمن ، أو يسلب عنه لفظا مشتقا من اليمن ، أو مشاركا لمادته ، ولما أخبر عن موسى عليه السلام ذكر الجانب الأيمن تشريفا [ ص: 144 ] لموسى ; فراعى في المقامين حسن الأدب معهما ; تعليما للأمة ، وهو أصل عظيم في الأدب في الخطاب .

وقوله : إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون ( المنافقون : 1 ) فإنه لو اختصر لترك : والله يعلم ; لأن سياق الآية لتكذيبهم في دعاوى الإخلاص في الشهادة ، لكن حسن ذكره رفع توهم أن التكذيب للمشهود به في نفس الأمر .

وقوله حاكيا عن يوسف عليه السلام : وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن ( يوسف : 100 ) ولم يذكر الجب مع أن النعمة فيه أعظم لوجهين : أحدهما : لئلا يستحيي إخوته ، والكريم يغضي ; ولا سيما في وقت الصفاء .

والثاني : لأن السجن كان باختياره ; فكان الخروج منه أعظم ، بخلاف الجب .

وقوله : تكلم الناس في المهد وكهلا ( المائدة : 110 ) ; وإنما ذكر الكهولة مع أنه لا إعجاز فيه ; لأنه كان في العادة أن من يتكلم في المهد أنه لا يعيش ولا يتمادى به العمر ، فجعل الاحتراس بقوله : ( وكهلا ) ( المائدة : 110 ) .

ومنه قوله : فخر عليهم السقف من فوقهم ( النحل : 26 ) والسقف لا يكون إلا من فوق ; لأنه سبحانه رفع الاحتمال الذي يتوهم من أن السقف قد يكون من تحت بالنسبة ; فإن كثيرا من السقوف يكون أرضا لقوم وسقفا لآخرين ، فرفع تعالى هذا الاحتمال بشيئين وهما قوله : ( عليهم ) ولفظة ( خر ) لأنها لا تستعمل إلا فيما هبط أو سقط من العلو إلى سفل .

وقيل : إنما أكد ليعلم أنهم كانوا حالين تحته ، والعرب تقول : خر علينا سقف ، ووقع علينا حائط ، فجاء بقوله : من فوقهم ( النحل : 26 ) ليخرج هذا الشك الذي في كلامهم فقال : من فوقهم ( النحل : 26 ) أي : عليهم وقع ، وكانوا تحته ; فهلكوا وما قتلوا .

[ ص: 145 ] وقوله تعالى : فأتوا حرثكم أنى شئتم ( البقرة : 223 ) ; لأنه لما كان يحتمل معنى " كيف " و " أين " احترس بقوله : ( حرثكم ) ; لأن الحرث لا يكون إلا حيث تنبت البذور وينبت الزرع ، وهو المحل المخصوص .

وقوله : ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون الزخرف : 39 ) ; وذلك لأن الاشتراك في المصيبة يخفف منها ويسلي عنها ، فأعلم سبحانه أنه لا ينفعهم ذلك .

فائدة : عاب قدامة على ذي الرمة قوله :

ألا يا اسلمي يا دار مي على البلى ولا زال منهلا بجرعائك القطر

فإنه لم يحترس ، وهلا قال كما قال طرفة :

فسقى ديارك غير مفسدها     صوب الغمام وديمة تهمي

وأجيب بأنه قدم الدعاء بالسلامة للدار .

وقيل : لم يرد بقوله : " ولا زال منهلا " اتصال الدوام بالسقيا من غير إقلاع ، وإنما ذلك بمثابة من يقول : ما زال فلان يزورني إذا كان متعاهدا له بالزيارة .

التالي السابق


الخدمات العلمية