الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ثم إنهم لصالوا الجحيم ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون

جملة إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون وما عطف عليها ابتدائية وقد اشتملت الجملة ومعطوفاها على أنواع ثلاثة من الويل وهي الإهانة ، والعذاب ، والتقريع مع التأييس من الخلاص من العذاب .

فأما الإهانة فحجبهم عن ربهم ، والحجب هو الستر ، ويستعمل في المنع من [ ص: 201 ] الحضور لدى الملك ولدى سيد القوم قال الشاعر الذي لم يسم وهو من شواهد الكشاف :

إذا اعتروا باب ذي عبية رجـبـوا والناس من بين مرجوب ومحجوب

وكلا المعنيين مراد هنا ; لأن المكذبين بيوم الدين لا يرون الله يوم القيامة حين يراه أهل الإيمان .

ويوضح هذا المعنى قوله في حكاية أحوال الأبرار على الأرائك ينظرون وكذلك أيضا لا يدخلون حضرة القدس قال تعالى : إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء ، وليكون الكلام مفيدا للمعنيين قيل عن ربهم يومئذ لمحجوبون دون أن يقال : عن رؤية ربهم ، أو عن وجه ربهم كما قال في آية آل عمران ولا ينظر إليهم يوم القيامة .

وأما العذاب فهو ما في قوله : ثم إنهم لصالو الجحيم .

وقد عطفت جملته بحرف ثم الدالة في عطفها الجمل على التراخي الرتبي وهو ارتقاء في الوعيد ; لأنه وعيد بأنهم من أهل النار وذلك أشد من خزي الإهانة .

وصالوا جمع صال وهو الذي مسه حر النار ، وتقدم في آخر سورة الانفطار .

والمعنى : أنهم سيصلون عذاب الجحيم .

وأما التقريع مع التأييس من التخفيف فهو مضمون جملة ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون فعطف الجملة بحرف ثم اقتضى تراخي مضمون الجملة على مضمون التي قبلها ، أي : بعد درجته في الغرض المسوق له الكلام .

واقتضى اسم الإشارة أنهم صاروا إلى العذاب ، والإخبار عن العذاب بأنه الذي كانوا به يكذبون يفيد أنه العذاب الذي تكرر وعيدهم به وهم يكذبونه ، وذلك هو الخلود وهو درجة أشد في الوعيد ، وبذلك كان مضمون الجملة المعطوفة هي عليها .

أو يكون قوله : ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون إشارة إلى جواب مالك [ ص: 202 ] خازن جهنم المذكور في قوله تعالى : ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون فطوي سؤالهم واقتصر على جواب مالك خازن جهنم اعتمادا على قرينة عطف جملة هذا المقال بـ ( ثم ) الدالة على التراخي .

وبني فعل يقال للمجهول لعدم تعلق الغرض بمعرفة القائل والمقصد هو القول .

وتقديم به على تكذبون للاهتمام بمعاد الضمير مع الرعاية على الفاصلة والباء لتعدية فعل تكذبون إلى تفرقة بين تعديته إلى الشخص الكاذب فيعدى بنفسه وبين تعديته إلى الخبر المكذب فيعدى بالباء ، ولعل أصلها باء السببية والمفعول محذوف ، أي : كذب بسببه من أخبره به ، ولذلك قدره بعض المفسرين : هذا الذي كنتم به تكذبون رسل الله في الدنيا .

التالي السابق


الخدمات العلمية