الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الفصل الثالث

في الصداق

والنظر في الصداق في ستة مواضع :

الأول : في حكمه وأركانه .

الموضع الثاني : في تقرر جميعه للزوجة .

الموضع الثالث : في تشطيره .

الموضع الرابع : في التفويض وحكمه .

الموضع الخامس : الأصدقة الفاسدة وحكمها .

الموضع السادس : في اختلاف الزوجين في الصداق .

الموضع الأول

[ في حكمه وأركانه ]

وهذا فيه أربع مسائل :

الأولى : في حكمه .

الثانية : في قدره .

[ ص: 407 ] الثالثة : في جنسه ووصفه .

الرابعة : في تأجيله .

[ المسألة الأولى ]

[ في حكمه ]

- أما حكمه : فإنهم اتفقوا على أنه شرط من شروط الصحة ، وأنه لا يجوز التواطؤ على تركه لقوله تعالى : ( وآتوا النساء صدقاتهن نحلة ) وقوله تعالى : ( فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن ) .

[ المسألة الثانية ]

[ في قدره ]

وأما قدره : فإنهم اتفقوا على أنه ليس لأكثره حد . واختلفوا في أقله ، فقال الشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور وفقهاء المدينة من التابعين : ليس لأقله حد ، وكل ما جاز أن يكون ثمنا وقيمة لشيء جاز أن يكون صداقا ، وبه قال ابن وهب من أصحاب مالك . وقال طائفة بوجوب تحديد أقله ، وهؤلاء اختلفوا ، فالمشهور في ذلك مذهبان : أحدهما : مذهب مالك وأصحابه ، والثاني : مذهب أبي حنيفة وأصحابه :

فأما مالك ، فقال : أقله ربع دينار من الذهب أو ثلاثة دراهم كيلا من فضة ، أو ما ساوى الدراهم الثلاثة ( أعني : دراهم الكيل فقط في المشهور ) ، وقيل : أو ما يساوي أحدهما .

وقال أبو حنيفة : عشرة دراهم أقله ، وقيل : خمسة دراهم ، وقيل : أربعون درهما .

وسبب اختلافهم في التقدير سببان :

أحدهما : تردده بين أن يكون عوضا من الأعواض يعتبر فيه التراضي بالقليل كان أو بالكثير ، كالحال في البيوعات ; وبين أن يكون عبادة فيكون مؤقتا ، وذلك أنه من جهة أنه يملك به على المرأة منافعها على الدوام يشبه العوض ، ومن جهة أنه لا يجوز التراضي على إسقاطه يشبه العبادة .

والسبب الثاني : معارضة هذا القياس فالمقتضي التحديد لمفهوم الأثر الذي لا يقتضي التحديد .

أما القياس الذي يقتضي التحديد : فهو كما قلنا إنه عبادة والعبادات مؤقتة .

وأما الأثر الذي يقتضي مفهومه عدم التحديد : فحديث سهل بن سعد الساعدي المتفق على صحته ، وفيه : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءته امرأة ، فقالت : يا رسول الله إني قد وهبت نفسي لك ، فقامت قياما طويلا ، فقام رجل فقال : يا رسول الله زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل معك من شيء تصدقها إياه ؟ فقال : ما عندي إلا إزاري ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أعطيتها إياه جلست لا إزار لك ، فالتمس شيئا ، فقال : لا أجد شيئا ، فقال عليه الصلاة والسلام : التمس ولو خاتما من حديد ، فالتمس فلم يجد شيئا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل معك شيء من القرآن ؟ قال : نعم ، سورة كذا ، وسورة كذا - لسور سماها - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قد أنكحتكها بما معك من القرآن " . قالوا : فقوله عليه الصلاة والسلام : " التمس ولو خاتما من حديد " دليل على أنه لا قدر لأقله لأنه لو كان له قدر لبينه ، إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة ، وهذا الاستدلال بين كما ترى مع أن القياس الذي اعتمده القائلون بالتحديد ليس [ ص: 408 ] تسلم مقدماته ، وذلك أنه انبنى على مقدمتين :

إحداهما : أن الصداق عبادة ، والثانية : أن العبادة مؤقتة . وفي كليهما نزاع للخصم ، وذلك أنه قد يلفى في الشرع من العبادات ما ليست مؤقتة ، بل الواجب فيها هو أقل ما ينطلق عليه الاسم . وأيضا فإنه ليس فيه شبه العبادات خالصا ، وإنما صار المرجحون لهذا القياس على مفهوم الأثر ، لاحتمال أن يكون ذلك الأثر خاصا بذاك الرجل ، لقوله فيه : " قد أنكحتكها بما معك من القرآن " وهذا خلاف للأصول ، وإن كان قد جاء في بعض رواياته أنه قال : " قم فعلمها " لما ذكر أنه معه من القرآن ، فقام فعلمها ، فجاء نكاحا بإجارة ، لكن لما التمسوا أصلا يقيسون عليه قدر الصداق لم يجدوا شيئا أقرب شبها به من نصاب القطع على بعد ما بينهما .

وذلك أن القياس الذي استعملوه في ذلك هو أنهم قالوا : عضو مستباح بمال ، فوجب أن يكون مقدرا ، أصله القطع ، وضعف هذا القياس هو من قبل الاستباحة فيهما هي مقولة باشتراك الاسم ، وذلك أن القطع غير الوطء ، وأيضا فإن القطع استباحة على جهة العقوبة والأذى ونقص خلقة ، وهذا استباحة على جهة اللذة والمودة ، ومن شأنه قياس الشبه على ضعفه أن يكون الذي به تشابه الفرع والأصل شيئا واحدا لا باللفظ بل بالمعنى ، وأن يكون الحكم إنما وجد للأصل من جهة الشبه ، وهذا كله معدوم في هذا القياس ، ومع هذا فإنه من الشبه الذي لم ينبه عليه اللفظ ، وهذا النوع من القياس مردود عند المحققين ، لكن لم يستعملوا هذا القياس في إثبات التحديد المقابل لمفهوم الحديث ، إذ هو في غاية الضعف ، وإنما استعملوه في تعيين قدر التحديد .

وأما القياس الذي استعملوه في معارضة مفهوم الحديث فهو أقوى من هذا ، ويشهد لعدم التحديد ما خرجه الترمذي : " أن امرأة تزوجت على نعلين ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : أرضيت من نفسك ومالك بنعلين ؟ فقالت : نعم ، فجوز نكاحها " وقال : هو حديث حسن صحيح .

ولما اتفق القائلون بالتحديد على قياسه على نصاب السرقة اختلفوا في ذلك بحسب اختلافهم في نصاب السرقة ، فقال مالك : هو ربع دينار أو ثلاثة دراهم ، لأنه النصاب في السرقة عنده . وقال أبو حنيفة : هو عشرة دراهم ، لأنه النصاب في السرقة عنده . وقال ابن شبرمة : هو خمسة دراهم ، لأنه النصاب عنده أيضا في السرقة .

وقد احتجت الحنفية لكون الصداق محددا بهذا القدر بحديث يروونه عن جابر عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال : " لا مهر بأقل من عشرة دراهم " . ولو كان هذا ثابتا لكان رافعا لموضع الخلاف ، لأنه كان يجب لموضع هذا الحديث أن يحمل حديث سهل بن سعد على الخصوص ، لكن حديث جابر هذا ضعيف عند أهل الحديث ، فإنه يرويه - قالوا - مبشر بن عبيد ، عن الحجاج بن أرطأة عن عطاء عن جابر ، ومبشر والحجاج ضعيفان ، وعطاء أيضا لم يلق جابرا ، ولذلك لا يمكن أن يقال : إن هذا الحديث معارض لحديث سهل بن سعد .

التالي السابق


الخدمات العلمية