الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

ثم بعث عبد الله بن جحش الأسدي إلى نخلة في رجب ، على رأس سبعة عشر شهرا من الهجرة ، في اثني عشر رجلا من المهاجرين ، كل اثنين يعتقبان على بعير ، فوصلوا إلى بطن نخلة يرصدون عيرا لقريش ، وفي هذه السرية سمى عبد الله بن جحش أمير المؤمنين ( وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب له كتابا ، وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين ، ثم ينظر فيه ، ولما فتح الكتاب وجد فيه " إذا نظرت في كتابي هذا ، فامض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف ، فترصد بها قريشا ، وتعلم لنا من أخبارهم ) . فقال : سمعا وطاعة ، وأخبر أصحابه بذلك ، وبأنه لا يستكرههم ، فمن أحب الشهادة ، فلينهض ، ومن كره الموت ، فليرجع ، وأما أنا فناهض ، فمضوا كلهم ، فلما كان في أثناء الطريق أضل سعد بن أبي وقاص ، وعتبة بن غزوان بعيرا لهما كانا يعتقبانه ، فتخلفا في طلبه ، وبعد عبد الله بن جحش حتى نزل بنخلة ، فمرت به عير لقريش تحمل زبيبا وأدما وتجارة فيها عمرو بن الحضرمي ، وعثمان ونوفل : ابنا عبد الله بن المغيرة ، والحكم بن كيسان مولى بني المغيرة ، فتشاور المسلمون ، وقالوا : نحن في آخر يوم من رجب الشهر الحرام ، فإن قاتلناهم ، انتهكنا الشهر الحرام ، وإن تركناهم الليلة دخلوا الحرم ، ثم أجمعوا على ملاقاتهم ، فرمى أحدهم عمرو بن الحضرمي فقتله ، [ ص: 151 ] وأسروا عثمان والحكم ، وأفلت نوفل ، ثم قدموا بالعير والأسيرين ، وقد عزلوا من ذلك الخمس ، وهو أول خمس كان في الإسلام ، وأول قتيل في الإسلام ، وأول أسيرين في الإسلام ، وأنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم ما فعلوه ، واشتد تعنت قريش وإنكارهم ذلك ، وزعموا أنهم قد وجدوا مقالا ، فقالوا : قد أحل محمد الشهر الحرام ، واشتد على المسلمين ذلك ، حتى أنزل الله تعالى : ( يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ) [ البقرة : 217 ] . يقول سبحانه : هذا الذي أنكرتموه عليهم ، وإن كان كبيرا ، فما ارتكبتموه أنتم من الكفر بالله والصد عن سبيله ، وعن بيته وإخراج المسلمين الذين هم أهله منه ، والشرك الذي أنتم عليه ، والفتنة التي حصلت منكم به أكبر عند الله من قتالهم في الشهر الحرام ، وأكثر السلف فسروا الفتنة هاهنا بالشرك كقوله تعالى : ( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ) [ البقرة : 193 ] . ويدل عليه قوله : ( ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين ) [ الأنعام : 23 ] أي : لم يكن مآل شركهم وعاقبته ، وآخر أمرهم ، إلا أن تبرءوا منه وأنكروه .

وحقيقتها : أنها الشرك الذي يدعو صاحبه إليه ويقاتل عليه ، ويعاقب من لم يفتتن به ، ولهذا يقال لهم وقت عذابهم بالنار وفتنتهم بها : ( ذوقوا فتنتكم ) قال ابن عباس : تكذيبكم .

وحقيقته ذوقوا نهاية فتنتكم ، وغايتها ، ومصير أمرها ، كقوله : ( ذوقوا ما كنتم تكسبون ) [ الزمر : 24 ] ، وكما فتنوا عباده على الشرك ، فتنوا على النار ، وقيل لهم : ذوقوا فتنتكم ، ومنه قوله تعالى : ( إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا ) [ البروج : 10 ] ، فسرت الفتنة هاهنا بتعذيبهم المؤمنين ، وإحراقهم إياهم بالنار ، واللفظ أعم من ذلك ، وحقيقته : [ ص: 152 ] عذبوا المؤمنين ليفتتنوا عن دينهم ، فهذه الفتنة المضافة إلى المشركين .

وأما الفتنة التي يضيفها الله سبحانه إلى نفسه ، أو يضيفها رسوله إليه كقوله : ( وكذلك فتنا بعضهم ببعض ) ، وقول موسى : ( إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء ) [ الأعراف : 155 ] فتلك بمعنى آخر ، وهي بمعنى الامتحان ، والاختبار ، والابتلاء من الله لعباده بالخير والشر ، بالنعم والمصائب ، فهذه لون ، وفتنة المشركين لون ، وفتنة المؤمن في ماله وولده وجاره لون آخر ، والفتنة التي يوقعها بين أهل الإسلام كالفتنة التي أوقعها بين أصحاب علي ومعاوية ، وبين أهل الجمل وصفين ، وبين المسلمين حتى يتقاتلوا ، ويتهاجروا لون آخر ، وهي الفتنة التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم : ( ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم ، والقائم فيها خير من الماشي ، والماشي فيها خير من الساعي ) . وأحاديث الفتنة التي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها باعتزال الطائفتين ، هي هذه الفتنة .

وقد تأتي الفتنة مرادا بها المعصية كقوله تعالى : ( ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ) [ التوبة : 49 ] ، يقوله الجد بن قيس ، لما ندبه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك ، يقول : ائذن لي في القعود ولا تفتني بتعرضي لبنات بني الأصفر ، فإني لا أصبر عنهن ، قال تعالى : ( ألا في الفتنة سقطوا ) [ التوبة : 49 ] أي : وقعوا في فتنة النفاق ، وفروا إليها من فتنة بنات الأصفر .

والمقصود : أن الله سبحانه حكم بين أوليائه وأعدائه بالعدل والإنصاف ، ولم يبرئ أولياءه من ارتكاب الإثم بالقتال في الشهر الحرام ، بل أخبر أنه كبير [ ص: 153 ] وأن ما عليه أعداؤه المشركون أكبر وأعظم من مجرد القتال في الشهر الحرام ، فهم أحق بالذم والعيب والعقوبة ، لا سيما وأولياؤه كانوا متأولين في قتالهم ذلك ، أو مقصرين نوع تقصير يغفره الله لهم في جنب ما فعلوه من التوحيد والطاعات ، والهجرة مع رسوله ، وإيثار ما عند الله ، فهم كما قيل :


وإذا الحبيب أتى بذنب واحد جاءت محاسنه بألف شفيع



فكيف يقاس ببغيض عدو جاء بكل قبيح ، ولم يأت بشفيع واحد من المحاسن .

التالي السابق


الخدمات العلمية