الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      محمد رسول الله أي هو أو ذلك الرسول المرسل بالهدى ودين الحق محمد على أن الاسم الشريف خبر مبتدأ محذوف و ( رسول الله ) عطف بيان أو نعت أو بدل، والجملة استئناف مبين لقوله تعالى: هو الذي أرسل رسوله وهذا هو الوجه الأرجح الأنسب بالمساق كما في الكشف ويؤيده نظرا إلى بعض ما يأتي من الأوجه إن شاء الله تعالى قراءة ابن عامر في رواية ( رسول ) بالنصب على المدح، وقوله تعالى: والذين معه مبتدأ خبره قوله سبحانه: أشداء على الكفار رحماء بينهم وقال أبو حيان : الظاهر أن محمد رسول الله مبتدأ وخبر والجملة عليه مبينة للمشهود به، أما على كونه الرسالة فظاهر، وأما على كونه محقق الوعد فقيل: لأن كينونة ما وعده لازمة لكونه عليه الصلاة والسلام رسول الله إذ هو لا يوعد إلا بما هو محقق ولا يخبر إلا عن كل صدق.

                                                                                                                                                                                                                                      وجوز كون ( محمد ) مبتدأ ورسول تابعا له ( والذين معه ) عطفا عليه والخبر عنه وعنهم قوله تعالى: أشداء إلخ.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ الحسن ( أشداء) (رحماء) بنصبهما فقيل على المدح وقيل على الحال، والعامل فيهما العامل في ( معه ) فيكون الخبر على هذا الوجه جملة تراهم الآتي وكذا خبر ( الذين ) على الوجه الأول، والمراد بالذين معه عند ابن عباس من شهد الحديبية، وقال الجمهور: جميع أصحابه صلى الله تعالى عليه وسلم ورضي الله تعالى عنهم، و أشداء جمع شديد و رحماء جمع رحيم، والمعنى أن فيهم غلظة وشدة على أعداء الدين ورحمة ورقة على إخوانهم المؤمنين، وفي وصفهم بالرحمة بعد وصفهم بالشدة تكميل واحتراس فإنه لو اكتفى بالوصف الأول لربما توهم أن مفهوم القيد غير معتبر فيتوهم الفظاظة والغلظة مطلقا فدفع بإرداف الوصف الثاني، ومآل ذلك أنهم مع كونهم أشداء على الأعداء رحماء على الإخوان، ونحوه قوله تعالى: أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين وعلى هذا قوله:


                                                                                                                                                                                                                                      حليم إذا ما الحلم زين أهله على أنه عند العدو مهيب



                                                                                                                                                                                                                                      وقد بلغ كما روي عن الحسن من تشددهم على الكفار أنهم كانوا يتحرزون من ثيابهم أن تلزق بثيابهم ومن أبدانهم أن تمس أبدانهم وبلغ من ترحمهم فيما بينهم أنه كان لا يرى مؤمن مؤمنا إلا صافحه وعانقه. والمصافحة لم يختلف فيها الفقهاء.

                                                                                                                                                                                                                                      أخرج أبو داود عن البراء قال (قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إذا التقى المسلمان [ ص: 124 ] فتصافحا وحمدا الله واستغفراه غفر لهما)

                                                                                                                                                                                                                                      وفي رواية الترمذي (ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يتفرقا).


                                                                                                                                                                                                                                      وفي الأذكار النووية أنها مستحبة عند كل لقاء وأما ما اعتاده الناس بعد صلاتي الصبح والعصر فلا أصل له ولكن لا بأس به، فإن أصل المصافحة سنة وكونهم محافظين عليها في بعض الأحوال ومفرطين في كثير منها لا يخرج ذلك البعض عن كونه من المصافحة التي ورد الشرع بأصلها، وجعل ذلك العز بن عبد السلام في قواعده من البدع المباحة، وأطال الشيخ إبراهيم الكوراني قدس سره الكلام في ذلك، وأما المعانقة فقال الزمخشري : كرهها أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه وكذلك التقبيل قال: لا أحب أن يقبل الرجل من الرجل وجهه ولا يده ولا شيئا من جسده، ورخص أبو يوسف عليه الرحمة المعانقة ويؤيد ما روي عن الإمام ما أخرجه الترمذي عن أنس قال: (سمعت رجلا يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم:

                                                                                                                                                                                                                                      يا رسول الله الرجل منا يلقى أخاه أينحني له؟ قال: لا قال: أفيلتزمه ويقبله؟ قال: لا قال: أيأخذ بيده ويصافحه؟ قال: نعم).


                                                                                                                                                                                                                                      وفي الأذكار التقبيل وكذا المعانقة لا بأس به عند القدوم من سفر ونحوه، ومكروه كراهة تنزيه في غيره، وللأمرد الحسن حرام بكل حال.

                                                                                                                                                                                                                                      أخرج الترمذي وحسنه عن عائشة قالت: قدم زيد بن خالد بن حارثة المدينة ورسول الله في بيتي فقرع الباب فقام إليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يجر ثوبه فاعتنقه وقبله، وزاد رزين في حديث أنس السابق بعد قوله: ويقبله قال: (لا إلا أن يأتي من سفره).

                                                                                                                                                                                                                                      وروى أبو داود سئل أبو ذر هل كان صلى الله عليه وسلم يصافحكم إذا لقيتموه؟ قال: ما لقيته قط إلا صافحني وبعث إلي ذات يوم ولم أكن في أهلي فجئت فأخبرت أنه صلى الله عليه وسلم أرسل إلي فأتيته وهو على سريره فالتزمني فكانت أجود أجود.

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا يؤيد الإطلاق المحكي عن أبي يوسف وينبغي التأسي بهم رضي الله تعالى عنهم في التشدد على أعداء الدين والرحمة على المؤمنين.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أخرج ابن أبي شيبة وأبو داود عن عبد الله بن عمر مرفوعا (من لم يرحم صغيرنا ويعرف حق كبيرنا فليس منا) وأخرجاهما وأحمد وابن حبان والترمذي وحسنه عن أبي هريرة قال: (سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: لا تنزع الرحمة إلا من شقي).

                                                                                                                                                                                                                                      ولا بأس بالبر والإحسان على عدو الدين إذا تضمن مصلحة شرعية كما أفاد ذلك ابن حجر في فتاويه الحديثية فليراجع. وقرأ يحيى بن يعمر (أشدا) بالقصر وهي قراءة شاذة لأن قصر الممدود في الشعر نحو قوله:

                                                                                                                                                                                                                                      لا بد من صنعا وإن طال السفر وقوله تعالى: تراهم ركعا سجدا خبر آخر- للذين- أو استئناف ويجوز فيه غير ذلك على ما لا يخفى، والرؤية بصرية، والخطاب لكل من تتأتى منه، و ( ركعا سجدا ) حال من المفعول، والمراد تراهم مصلين، والتعبير بالركوع والسجود عن الصلاة مجاز مرسل، والتعبير بالمضارع للاستمرار وهو استمرار عرفي، ومن هنا قال في البحر: هذا دليل على كثرة الصلاة منهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا أي ثوابا ورضا، والجملة إما خبر آخر أو حال من مفعول تراهم أو من المستتر في ركعا سجدا أو استئناف مبني على سؤال نشأ من بيان مواظبتهم على الركوع والسجود كأنه قيل: ماذا يريدون بذلك؟ فقيل: يبتغون فضلا إلخ.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ عمرو بن عبيد (ورضوانا) بضم الراء سيماهم أي علامتهم وقرئ (سيمياؤهم) بزيادة ياء بعد الميم والمد وهي لغة فصيحة كثيرة في الشعر قال الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      غلام رماه الله بالحسن يافعا     له سيمياء لا تشق على البصر



                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 125 ] وجاء سيماء بالمد واشتقاقها من السومة بالضم العلامة تجعل على الشاة والياء مبدلة من الواو، وهي مبتدأ خبره قوله تعالى: في وجوههم أي في جباههم أو هي على ظاهرها، وقوله سبحانه: من أثر السجود حال من المستكن في الجار والمجرور الواقع خبرا لسيماهم أو بيان لها أي سيماهم التي هي أثر السجود، ووجه إضافة الأثر إلى السجود أنه حادث من التأثير الذي يؤثره السجود، وشاع تفسير ذلك بما يحدث في جبهة السجاد مما يشبه أثر الكي وثفنة البعير وكان كل من العليين علي بن الحسين زين العابدين وعلي بن عبد الله بن عباس أبي الأملاك رضي الله تعالى عنهما يقال له ذو الثفنات لأن كثرة سجودهما أحدث في مواقعه منهما أشباه ثفنات البعير وهي ما يقع على الأرض من أعضائه إذا غلظ، وما روي من قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: (لا تعلبوا صوركم).

                                                                                                                                                                                                                                      أي لا تسموها من العلب بفتح العين المهملة وسكون اللام الأثر، وقول ابن عمر وقد رأى رجلا بأنفه أثر السجود: إن صورة وجهك أنفك فلا تعلب وجهك ولا تشن صورتك فذلك إنما هو إذا اعتمد بجبهته وأنفه على الأرض لتحدث تلك السمة وذاك محض رياء ونفاق يستعاذ بالله تعالى منه، والكلام فيما حدث في وجه السجاد الذي لا يسجد إلا خالصا لوجه الله عز وجل، وأنكر بعضهم كون المراد بالسيما ذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      أخرج الطبراني والبيهقي في سننه عن حميد بن عبد الرحمن قال: كنت عند السائب بن يزيد إذ جاء رجل وفي وجهه أثر السجود فقال: لقد أفسد هذا وجهه أما والله ما هي السيما التي سمى الله تعالى ولقد صليت على وجهي منذ ثمانين سنة ما أثر السجود بين عيني ، وربما يحمل على أنه استشعر من الرجل تعمدا لذلك فنفى أن يكون ما حصل به هو السيما التي سمى الله تعالى، ونظيره ما حكي عن بعض المتقدمين قال: كنا نصلي فلا يرى بين أعيننا شيء ونرى أحدنا الآن يصلي فترى بين عينيه ركبة البعير فما ندري أثقلت الأرؤس أم خشنت الأرض. وأخرج ابن جرير وجماعة عن سعيد بن جبير أنه قال: هذه السيما ندى الطهور وتراب الأرض، وروي نحوه عن سعيد بن المسيب وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد أنه قال: ليس له أثر في الوجه ولكنه الخشوع، وفي رواية هي الخشوع والتواضع، وقال منصور : سألت مجاهدا أهذه السيما هي الأثر يكون بين عيني الرجل قال: لا وقد يكون مثل ركبة البعير وهو أقسى قلبا من الحجارة، وقيل: هي صفرة الوجه من سهر الليل، وروي ذلك عن عكرمة والضحاك ، وروى السلمي عن عبد العزيز المكي ليس ذاك هو النحول والصفرة ولكنه نور يظهر على وجوه العابدين يبدو من باطنهم على ظاهرهم يتبين ذلك للمؤمنين ولو كان في زنجي أو حبشي، وقال عطاء والربيع بن أنس : هو حسن يعتري وجوه المصلين، وأخرج ابن المنذر وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال: السمت الحسن، وعن بعضهم ترى على وجوههم هيبة لقرب عهدهم بمناجاة سيدهم، والذاهبون إلى هذه الأقوال قائلون: إن المراد علامتهم في وجوههم وهم في الدنيا، وقال غير واحد: هذه السيما في الآخرة، أخرج البخاري في تاريخه. وابن نصر عن ابن عباس أنه قال في الآية: بياض يغشى وجوههم يوم القيامة. وأخرج ابن نصر وعبد بن حميد وابن جرير عن الحسن مثله، وأخرجوا عن عطية العوفي قال: موضع السجود أشد وجوههم بياضا.

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج الطبراني في الأوسط والصغير وابن مردويه بسند حسن عن أبي بن كعب قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: سيماهم في وجوههم من أثر السجود النور يوم القيامة النور يوم القيامة.

                                                                                                                                                                                                                                      ولا يبعد أن يكون النور علامة في وجوههم في الدنيا والآخرة [ ص: 126 ] لكنه لما كان في الآخرة أظهر وأتم خصه النبي صلى الله عليه وسلم بالذكر، وإذا صح الحديث فهو مذهبي. وقرأ ابن هرمز (إثر) بكسر الهمزة وسكون الثاء وهو لغة في أثر. وقرأ قتادة من (آثار) بالجمع ( ذلك ) إشارة إلى ما ذكر من نعوتهم الجليلة وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه للإيذان بعلو شأنه وبعد منزلته في الفضل، وقيل: البعد باعتبار المبتدأ أعني أشداء ولو قيل هذا لتوهم أن المشار إليه هو النعت الأخير. أعني سيماهم في وجوههم من أثر السجود . وهو مبتدأ خبره قوله تعالى: ( مثلهم ) أي وصفهم العجيب الشأن الجاري في الغرابة مجرى الأمثال، وقوله سبحانه وتعالى: ( في التوراة ) حال من ( مثلهم ) والعامل معنى الإشارة وقوله تعالى: ومثلهم في الإنجيل عطف على ( مثلهم ) الأول كأنه قيل: ذلك مثلهم في التوراة والإنجيل، وتكرير ( مثلهم ) لتأكيد غرابته وزيادة تقريرها، وقرئ (الأنجيل) بفتح الهمزة، وقوله عز وجل: كزرع أخرج شطأه إلخ تمثيل مستأنف أي هم أو مثلهم كزرع إلخ فالوقف على ( الإنجيل ) وهذا مروي عن مجاهد ، وقيل: ( مثلهم ) الثاني مبتدأ وقوله تعالى: كزرع إلخ خبره فالوقف على ( التوراة ) وهذا مروي عن الضحاك وأبي حاتم وقتادة ، وجوز أن يكون ذلك إشارة مبهمة أوضحت بقوله تعالى: كزرع إلخ كقوله تعالى: وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين فعلى الأول والثالث مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل شيء واحد إلا أنه على الأول أشداء على الكفار رحماء بينهم إلخ، وعلى الثالث كزرع أخرج شطأه إلخ وعلى الثاني مثلهم في التوراة شيء وهو أشداء إلخ ومثلهم في الإنجيل شيء آخر وهو كزرع إلخ.

                                                                                                                                                                                                                                      واعترض الوجه الثالث بأن الأصل في الإشارة أن تكون لمتقدم وإنما يشار إلى المتأخر إذا كان نعتا لاسم الإشارة نحو ذلك الكتاب ، وفيه أن الحصر ممنوع، والشطء فروخ الزرع كما قال غير واحد وهو ما خرج منه وتفرع في شاطئيه أي في جانبيه، وجمعه كما قال الراغب أشطاء، وقال قطرب: شوك السنبل يخرج من الحبة عشر سنبلات وتسع وثمان، وقال الكسائي والأخفش : طرفه، وأنشدوا:


                                                                                                                                                                                                                                      اخرج الشطء على وجه الثرى     ومن الأشجار أفنان الثمر

                                                                                                                                                                                                                                      وزعم أبو الفتح أن الشطء لا يكون إلا في البر والشعير، وقال صاحب اللوامح: شطأ الزرع وأشطأ إذا أخرج فراخه وهو في الحنطة والشعير وغيرهما، وفي البحر أشطأ الزرع أفرخ والشجرة أخرجت غصونها.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي القاموس الشطء فراخ النخل والزرع أو ورقه جمعه شطوء، وشطأ كمنع شطأ وشطوا أخرجها، ومن الشجر ما خرج حول أصله وجمعه أشطاء، وأشطأ أخرجها اهـ، وفيه ما يرد به على أبي الفتح مع زيادة لا تخفى فائدتها فلا تغفل.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ ابن كثير وابن ذكوان (شطأه) بفتح الطاء وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة وعيسى الكوفي كذلك وبالمد. وقرأ زيد بن علي كذلك أيضا وبألف بدل الهمزة فاحتمل أن يكون مقصورا وأن يكون أصله الهمز فنقل الحركة وأبدل الهمزة ألفا كما قالوا في المرأة والكمأة المراة والكماة، وهو تخفيف مقيس عند الكوفيين وعند البصريين شاذ لا يقاس عليه، وقرأ أبو جعفر (شطه) بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على الطاء، ورويت عن شيبة ونافع والجحدري، وعن الجحدري أيضا (شطوه) بإسكان الطاء وواو بعدها، قال أبو الفتح: هي لغة أو بدل من الهمزة فآزره أي أعانه وقواه قاله الحسن وغيره، قال الراغب: وأصله من شد الإزار [ ص: 127 ] يقال: أزرته أي شددت إزاره ويقال: آزرت البناء وأزرته قويت أسافله، وتأزر النبات طال وقوي.

                                                                                                                                                                                                                                      وذكر غير واحد أنه إما من المؤازرة بمعنى المعاونة أو من الإيزار وهي الإعانة. وفي البحر (آزر) أفعل كما حكي عن الأخفش ، وقول مجاهد وغيره فاعل خطأ لأنه لم يسمع في مضارعه إلا يؤزر على وزن يكرم دون يوازر.

                                                                                                                                                                                                                                      وتعقب بأن هذه الشهادة نفي غير مسموعة على أنه يجوز أن يكون ورد من بابين واستغنى بأحدهما عن الآخر ومثله كثير، مع أن السرقسطي نقله عن المازني لكنه قال: يقال آزر الشيء غيره أي ساواه وحاذاه، وأنشد لامرئ القيس:


                                                                                                                                                                                                                                      بمحنية قد آزر الضال نبتها     بجر جيوش غانمين وخيب



                                                                                                                                                                                                                                      وجعل ما في الآية من ذلك، وهو مروي أيضا عن السدي قال: آزره صار مثل الأصل في الطول، والجمهور على ما نقل أولا، والضمير المرفوع في (آزره للشطء والمنصوب للزرع أي فقوى ذلك الشطء الزرع، والظاهر أن الإسناد في ( أخرج ) و (آزر) مجازي وكون ذلك من الإسناد إلى الموجب، وهو حقيقة على ما ذهب إليه السالكوتي في حواشيه على المطول حيث قال في قولهم: سرتني رؤيتك. هذا القول مجاز إذا أريد منه حصول السرور عند الرؤية أما إذا أريد منه أن الرؤية موجبة للسرور فهو حقيقة لا يخفى حاله. وقرأ ابن ذكوان (فآزره) ثلاثيا. وقرئ (( فأزره)) بشد الزاي أي فشد أزره وقواه فاستغلظ فصار من الدقة إلى الغلظ وهو من باب استنوق الجمل، ويحتمل أن يراد المبالغة في الغلظ كما في استعصم ونحوه، وأوثر الأول لأن المساق ينبئ عن التدرج فاستوى على سوقه فاستقام على قصبه وأصوله جمع ساق نحو لابة ولوب وقارة وقور. وقرأ ابن كثير (سوقه) بإبدال الواو المضموم ما قبلها همزة، قيل: وهي لغة ضعيفة، ومن ذلك قوله:

                                                                                                                                                                                                                                      أحب المؤقدين إلي موسى يعجب الزراع بقوته وكثافته وغلظه وحسن منظره، والجملة في موضع الحال أي معجبا لهم، وخصهم تعالى بالذكر لأنه إذا أعجب الزراع وهم يعرفون عيوب الزرع فهو أحرى أن يعجب غيرهم، وهنا تم المثل وهو مثل ضربه الله تعالى للصحابة رضي الله تعالى عنهم قلوا في بدء الإسلام ثم كثروا واستحكموا فترقى أمرهم يوما فيوما بحيث أعجب الناس، وهذا ما اختاره بعضهم وقد أخرجه ابن جرير وابن المنذر عن الضحاك ، وابن جرير وعبد بن حميد عن قتادة ، وذكرا عنه أنه قال أيضا: مكتوب في الإنجيل سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع يخرج منهم قوم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. وفي الكشاف هو مثل ضربه الله تعالى لبدء ملة الإسلام وترقيه في الزيادة إلى أن قوي واستحكم لأن النبي صلى الله عليه وسلم قام وحده ثم قواه الله تعالى بمن معه كما يقوي الطاقة الأولى ما يحتف بها مما يتولد منها، وظاهره أن الزرع هو النبي صلى الله عليه وسلم والشطء أصحابه رضي الله تعالى عنهم فيكون مثلا له عليه الصلاة والسلام وأصحابه لا لأصحابه فقط كما في الأول ولكل وجهة، وروي الثاني عن الواقدي ، وفي خبر أخرجه ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس ما يقتضيه.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى: ليغيظ بهم الكفار علة لما يعرب عنه الكلام من إيجاده تعالى لهم على الوجه الذي تضمنه التمثيل، وظاهر كلام بعضهم أنه علة للتمثيل وليس بذاك، وقيل: علة لما بعده من قوله تعالى: وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما فإن الكفار إذا سمعوا بما أعد الله تعالى للمؤمنين في الآخرة مع ما لهم في الدنيا من العزة غاظهم ذلك، وهو مع توقف تماميته بحسب الظاهر [ ص: 128 ] على كون الكفار مستيقنين بالآخرة ومتحققين كون الوعد منه عز وجل بعيد، وضمير ( منهم ) لمن عاد عليه الضمائر السابقة، و (من) للبيان مثلها في قوله تعالى: فاجتنبوا الرجس من الأوثان وليس مجيئها كذلك مخصوصا بما إذا كانت داخلة على ظاهر كما توهم صاحب التحفة الاثني عشرية في الكلام على قوله تعالى: وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض فقال: حمل (من) للبيان إذا كان داخلا على الضمير مخالف لاستعمال العرب، وأنكر ذلك عليه صاحب الترجمة لكن قال: لو ادعى هذا الخلاف في ضميري الخطاب والتكلم لم يبعد.

                                                                                                                                                                                                                                      ومن مجيئها للبيان داخلة على ضمير الغائب قوله تعالى: لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عند القائلين بأن ضمير تزيلوا للمؤمنين لا للتبعيض كما يقوله الشيعة الزاعمون ارتداد أكثر الصحابة رضي الله تعالى عنهم من أهل بيعة الرضوان وغيرهم، فإن مدحهم السابق بما يدل على الاستمرار كقوله تعالى: تراهم ركعا سجدا ووصفهم بما يدل على الدوام والثبات كقوله سبحانه: والذين معه أشداء على الكفار يأبى التبعيض والارتداد الذين زعموه عند من له أدنى إنصاف وشمة من دين، ويزيد زعمهم هذا سقوطا عن درجة الاعتبار أن مدحهم ذاك قد كتبه الله تعالى في التوراة قبل أن يخلق السماوات والأرض، ولا يكاد عاقل يقبل أنه تعالى أطلق المدح وكتبه لأناس لم يثبت على تلك الصفة إلا قليل منهم، وإذا قلنا: إن هؤلاء الممدوحين هم أهل بيعة الرضوان الذين بايعوه عليه الصلاة والسلام في الحديبية كما يشعر به ( والذين معه ) لا سيما على القول بأن السورة بتمامها نزلت عند منصرفه عليه الصلاة والسلام من الحديبية قبل أن يتفرقوا عنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان سقوط ذلك الزعم أبين وأبين لأن الارتداد الذي يزعمونه كان لترك مبايعة علي كرم الله تعالى وجهه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع العلم بالنص على خلافته بزعمهم ومبايعة أبي بكر رضي الله تعالى عنه، وكيف يكون ذاك ارتدادا والله عز وجل حين رضي عنهم على أنهم يفعلونه، والقول بأنه سبحانه إنما رضي عن مبايعتهم أو عنهم من حيث المبايعة ولم يرض سبحانه عنهم مطلقا لأجلها خلاف ظاهر الآية، والظاهر ما نفي، ولا يعكر عليه صدور بعض المعاصي من بعضهم بعد وإنما يعكر صدور ما لا يجامع الرضا أصلا كالارتداد والعياذ بالله تعالى، وبالجملة جعل (من) للتبعيض ليتم للشيعة ما زعموه مما يأباه الكتاب والسنة وكلام العترة. وفي التحفة الاثني عشرية من ذلك ما تنشرح له الصدور وتزداد به قلوب المؤمنين نورا على نور، ويا سبحان الله أين جعل (من) للتبعيض من دعوى الارتداد، ولكن من يضلل الله فما له من هاد، وتأخير ( منهم ) هنا عن ( عملوا الصالحات ) وتقديم ( منكم ) عليه في آية النور التي ذكرناها آنفا لأن عمل الصالحات لا ينفك عنهم، وذلك ثمت لبيان الخلفاء، والعمل الصالح ليس موقوفا عليه لاستمرار صحة خلافتهم حتى لا ينعزلوا بالفسق، وقال ابن جرير : ( منهم ) يعني من الشطء الذي أخرجه الزرع وهم الداخلون في الإسلام إلى يوم القيامة فأعاد الضمير على معنى الشطء وكذلك فعل البغوي ولا يخفى بعده.

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا وفي المواهب أن الإمام مالكا قد استنبط من هذه الآية تكفير الروافض الذين يبغضون الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فإنهم يغيظونهم ومن غاظه الصحابة فهو كافر، ووافقه كثير من العلماء انتهى. وفي البحر ذكر عند مالك رجل ينتقص الصحابة فقرأ مالك هذه الآية فقال: من أصبح من الناس في قلبه غيظ من أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقد أصابته هذه الآية، ويعلم تكفير الرافضة بخصوصهم، وفي كلام عائشة [ ص: 129 ] رضي الله تعالى عنها ما يشير إليه أيضا، فقد أخرج الحاكم وصححه عنها في قوله تعالى: ليغيظ بهم الكفار قالت: أصحاب محمد صلى الله تعالى عليه وسلم أمروا بالاستغفار لهم فسبوهم، وعن بعض السلف جعل جمل الآية كل جملة مشيرة إلى معين من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فعن عكرمة أنه قال: أخرج شطأه بأبي بكر فآزره بعمر فاستغلظ بعثمان فاستوى على سوقه بعلي رضي الله تعالى عنهم أجمعين.

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن مردويه والقاضي أحمد بن محمد الزهري في فضائل الخلفاء الأربعة. والشيرازي في الألقاب عن ابن عباس محمد رسول الله والذين معه أبو بكر أشداء على الكفار عمر رحماء بينهم عثمان تراهم ركعا سجدا علي كرم الله تعالى وجهه يبتغون فضلا من الله ورضوانا طلحة والزبير سيماهم في وجوههم من أثر السجود عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وأبو عبيدة بن الجراح ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره بأبي بكر فاستغلظ بعمر فاستوى على سوقه بعثمان يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار بعلي كرم الله تعالى وجهه وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات جميع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن مردويه والخطيب وابن عساكر عنه رضي الله تعالى عنه أيضا في قوله تعالى: كزرع قال: أصل الزرع عبد المطلب أخرج شطأه محمد صلى الله تعالى عليه وسلم فآزره بأبي بكر فاستغلظ بعمر فاستوى على سوقه بعثمان ليغيظ بهم الكفار بعلي رضي الله تعالى عنه، وكل هذه الأخبار لم تصح فيما أرى ولا ينبغي تخريج ما في الآية عليها، وأعتقد أن لكل من الخلفاء رضي الله تعالى عنهم الحظ الأوفى مما تضمنته، ومتى أريد بالزرع النبي عليه الصلاة والسلام كان حظ علي كرم الله تعالى وجهه من "شطأه" أوفى من حظ سائر الخلفاء رضي الله تعالى عنه، ولعل مؤازرته ومعاونته البدنية بقتل كثير من الكفرة أعدائه عليه الصلاة والسلام أكثر من مؤازرة غيره من الخلفاء أيضا، ومع هذا لا ينخدش ما ذهب إليه محققو أهل السنة والجماعة في مسألة التفضيل كما لا يخفى على النبيه النبيل، فتأمل والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية