الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                                      فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية

                                                                                                                                                                                                                                      الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين وما تسألهم عليه من أجر إن هو إلا ذكر للعالمين وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله أو تأتيهم الساعة بغتة وهم لا يشعرون قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين .

                                                                                                                                                                                                                                      الخطاب بقوله : ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو مبتدأ ، خبره من أنباء الغيب ، و نوحيه إليك خبر ثان .

                                                                                                                                                                                                                                      قال [ ص: 716 ] الزجاج : ويجوز أن يكون ذلك بمعنى الذي و نوحيه إليك خبره : أي الذي من أنباء الغيب نوحيه إليك .

                                                                                                                                                                                                                                      والمعنى : الإخبار من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم بأن هذا الذي قصه عليه من أمر يوسف وإخوته من الأخبار التي كانت غائبة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فأوحاه الله إليه وأعلمه به ولم يكن عنده قبل الوحي شيء من ذلك ، وفيه تعريض بكفار قريش ، لأنهم كانوا مكذبين له صلى الله عليه وآله وسلم بما جاء به جحودا وعنادا وحسدا مع كونهم يعلمون حقيقة الحال وما كنت لديهم أي لدى إخوة يوسف إذ أجمعوا أمرهم إجماع الأمر : العزم عليه ، أي : وما كنت لدى إخوة يوسف إذ عزموا جميعا على إلقائه في الجب وهم في تلك الحالة يمكرون به ، أي : بيوسف في هذا الفعل الذي فعلوه به ويبغونه الغوائل - وقيل : الضمير ليعقوب ، أي : يمكرون بيعقوب حين جاءوا بقميص يوسف ملطخا بالدم وقالوا أكله الذئب .

                                                                                                                                                                                                                                      وإذا لم يكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لديهم عند أن فعلوا ذلك ، انتفى علمه بذلك مشاهدة ، ولم يكن بين قوم لهم علم بأحوال الأمم السالفة ولا خالطهم ولا خالطوه ، فانتفى علمه بذلك بطريق الرواية عن الغير ، فلم يبق لعلمه بذلك طريق إلا مجرد الوحي من الله سبحانه ، فهذا يستلزم الإيمان بما جاء به ، فلما لم يؤمن بذلك من عاصره من الكفار .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الله سبحانه ذاكرا لهذا وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين أي : وما أكثر الناس المعاصرين لك يا محمد ، أو ما أكثر الناس على العموم ولو حرصت على هدايتهم وبالغت في ذلك بمؤمنين بالله لتصميمهم على الكفر الذي هو دين آبائهم ، يقال حرص يحرص ، مثل ضرب يضرب ، وفي لغة ضعيفة حرص يحرص ، مثل حمد يحمد ، والحرص طلب الشيء باجتهاد .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الزجاج ومعناه وما أكثر الناس بمؤمنين ولو حرصت على أن تهديهم ، لأنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء .

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن الأنباري : إن قريشا واليهود سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن قصة يوسف وإخوته فشرحهما شرحا شافيا ، وهو يؤمل أن يكون ذلك سببا لإسلامهم ، فخالفوا ظنه ، وحزن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لذلك فعزاه الله بقوله : وما أكثر الناس الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      وما تسألهم عليه من أجر أي على القرآن وما تتلوه عليهم منه ، أو على الإيمان وحرصك على وقوعه منهم أو على ما تحدثهم به من هذا الحديث من أجر من مال يعطونك إياه ويجعلونه لك كما يفعله أحبارهم إن هو أي القرآن أو الحديث الذي حدثتهم به إلا ذكر للعالمين أي ما هو إلا ذكر للعالمين كافة لا يختص بهم وحدهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وكأين من آية في السماوات والأرض قال الخليل وسيبويه : والأكثرون أن " كأين " أصلها ( أي ) دخل عليها كاف التشبيه ، لكنه انمحى عن الحرفين المعنى الإفرادي ، وصار المجموع كاسم واحد بمعنى " كم " الخبرية ، والأكثر إدخال " من " في مميزه ، وهو تمييز عن الكاف لا عن " أي " كما في : مثلك رجلا .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد مر الكلام على هذا مستوفى في آل عمران .

                                                                                                                                                                                                                                      والمعنى : كم من آية تدلهم على توحيد الله كائنة في السماوات من كونها منصوبة بغير عمد ، مزينة بالكواكب النيرة السيارة والثوابت ، وفي الأرض من جبالها وقفارها وبحارها ونباتها وحيواناتها تدلهم على توحيد الله سبحانه ، وأنه الخالق لذلك ، الرزاق له المحيي والمميت ، ولكن أكثر الناس يمرون على هذه الآيات غير متأملين لها ، ولا مفكرين فيها ، ولا ملتفتين إلى ما تدل عليه من وجود خالقها ، وأنه المتفرد بالألوهية مع كونهم مشاهدين لها يمرون عليها وهم عنها معرضون وإن نظروا إليها بأعيانهم فقد أعرضوا عما هو الثمرة للنظر بالحدقة ، وهي التفكر والاعتبار والاستدلال .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ عكرمة وعمرو بن فايد برفع الأرض على أنه مبتدأ ، وخبره " يمرون عليها " ، وقرأ السدي بنصب الأرض بتقدير فعل .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ ابن مسعود : يمشون عليها .

                                                                                                                                                                                                                                      وما يؤمن أكثرهم بالله أي وما يصدق ويقر أكثر الناس بالله من كونه الخالق الرزاق المحيي المميت إلا وهم مشركون بالله ، يعبدون معه غيره كما كانت تفعله الجاهلية ، فإنهم مقرون بالله سبحانه وبأنه الخالق لهم ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله [ الزخرف : 87 ] ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله [ لقمان : 25 ] ، لكنهم كانوا يثبتون له شركاء فيعبدونهم ليقربونهم إلى الله ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله [ الزمر : 3 ] ومثل هؤلاء الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله المعتقدون في الأموات بأنهم يقدرون على ما لا يقدر عليه إلا الله سبحانه كما يفعله كثير من عباد القبور ، ولا ينافي هذا ما قيل من أن الآية نزلت في قوم مخصوصين ، فالاعتبار بما يدل عليه اللفظ لا بما يفيده السبب من الاختصاص ممن كان سببا لنزول الحكم .

                                                                                                                                                                                                                                      أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله الاستفهام للإنكار ، والغاشية ما يغشاهم ويغمرهم من العذاب كقوله تعالى : يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم [ العنكبوت : 55 ] ، وقيل : هي الساعة ، وقيل : الصواعق والقوارع ، ولا مانع من الحمل على العموم أو تأتيهم الساعة بغتة أي فجأة ، وانتصاب " بغتة " على الحال .

                                                                                                                                                                                                                                      قال المبرد : جاء عن العرب حال بعد نكرة ، وهو قولهم : وقع أمر بغتة ، يقال بغتهم الأمر بغتا وبغتة : إذا فاجأهم وهم لا يشعرون بإتيانه ، ويجوز انتصاب " بغتة " على أنها صفة مصدر محذوف .

                                                                                                                                                                                                                                      قل هذه سبيلي أي قل يا محمد للمشركين هذه الدعوة التي أدعو إليها والطريقة التي أنا عليها سبيلي ، أي : طريقي وسنتي ، فاسم الإشارة مبتدأ وخبره سبيلي ، وفسر ذلك بقوله : أدعو إلى الله على بصيرة أي على حجة واضحة ، والبصيرة المعرفة التي يتميز بها الحق من الباطل ، والجملة في محل نصب على الحالأنا ومن اتبعني أي ويدعو إليها من اتبعني واهتدى بهديي .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الفراء : والمعنى ومن اتبعني يدعو إلى الله كما أدعو .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي هذا دليل على أن كل متبع لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حق عليه أن يقتدي به في الدعاء إلى الله ، أي : إلى الإيمان به وتوحيده والعمل بما شرعه لعباده [ ص: 717 ] وسبحان الله وما أنا من المشركين أي وقل يا محمد لهم سبحان الله وما أنا من المشركين بالله الذين يتخذون من دونه أندادا .

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن الأنباري : ويجوز أن يتم الكلام عند قوله : أدعو إلى الله ثم ابتدأ ، فقال على بصيرة أنا ومن اتبعني .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون قال : هم بنو يعقوب إذ يمكرون بيوسف .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن قتادة في الآية يقول : وما كنت لديهم وهم يلقونه في غيابة الجب وهم يمكرون بيوسف .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك وكأين من آية قال : كم من آية في السماء يعني شمسها وقمرها ونجومها وسحابها ، وفي الأرض ما فيها من الخلق والأنهار والجبال والمدائن والقصور .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون قال : سلهم من خلقهم ومن خلق السماوات والأرض فسيقولون الله ، فذلك إيمانهم وهم يعبدون غيره .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن عطاء في قوله : وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون قال : كانوا يعلمون أن الله ربهم وهو خالقهم وهو رازقهم ، وكانوا مع ذلك يشركون .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن الضحاك في الآية قال : كانوا يشركون به في تلبيتهم يقولون : لبيك ، اللهم لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أبو الشيخ عن الحسن في الآية قال : ذلك المنافق يعمل بالرياء وهو مشرك بعمله .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : غاشية من عذاب الله قال : وقيعة تغشاهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : هذه سبيلي قل هذه دعوتي .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أبو الشيخ عنه قل هذه سبيلي قال : صلاتي .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن زيد في الآية قال : أمري ومشيئتي ومنهاجي ، وأخرجا عن قتادة في قوله : على بصيرة أي على هدى أنا ومن اتبعني .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية