الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      ( السادسة ) قال الشافعي والأصحاب : له أن يستظل سائرا ونازلا للحديث الذي ذكره المصنف ، ولحديث أم الحصين الذي ذكرناه معه . هذا مذهبنا لا خلاف فيه عندنا ، ونقله ابن المنذر عن ربيعة والثوري وابن عيينة قال : وروي ذلك عن عثمان بن عفان وعطاء والأسود بن يزيد ، قال : [ ص: 378 ] وكره ذلك مالك وأحمد . وقال عبد الرحمن بن مهدي : لا أستظل ، قال : وروينا عن ابن عمر قال : أضح لمن أحرمت له " قال ابن المنذر : ولا بأس به عندي لأني لا أعلم خبرا ثابتا يمنع منه ، وما كان للحلال فعله كان للمحرم فعله إلا ما نهي عنه المحرم . قال : كل ما نهي عنه المحرم يستوي فيه الراكب ومن على الأرض كالطيب واللباس السابقين في حديث ضرب القبة بنمرة ، وحديث أم الحصين . هذا كلام ابن المنذر ، ونقل أصحابنا عن مالك وأحمد أنهما قالا : يجوز الاستظلال للنازل ، ولا يجوز للسائر ، فإن استظل لزمه الفدية وعن أحمد رواية أنه لا فدية .

                                      قال العبدري ووافقنا أنه لو كان زمن استظلاله يسيرا فلا فدية ، وكذا لو استظل بيده ونحوها ، دليلنا الحديثان السابقان ، ( وأما ) ما رواه البيهقي وغيره بالإسناد الصحيح عن نافع قال : " أبصر ابن عمر رجلا على بعيره وهو محرم قد استظل بينه وبين الشمس فقال له : أضح لمن أحرمت له " فمحمول على الاستحباب ، ( وقوله ) أضح أي ابرز إلى الشمس ( وأما ) حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " { ما من محرم يضحى للشمس حتى تغرب إلا غربت بذنوبه ، حتى يعود كما ولدته أمه } " فرواه البيهقي وقال : هو إسناد ضعيف ولو صح لم يكن فيه دليل للمنع من الاستظلال ، ولا كراهة فيه ، ولا فيه فرق بين سائر ونازل . قال أبو علي البندنيجي وغيره من أصحابنا : الاستظلال وإن كان جائزا فالبروز للشمس أفضل منه للرجل ، ما لم يخف ضررا ، والستر للمرأة أفضل .

                                      التالي السابق


                                      ( السابعة ) قال المصنف والأصحاب : يكره للمحرم لبس الثياب المصبغة كراهة تنزيه . فإن لبسها فلا فدية سواء في هذا المصبوغ بالنيل والمغرة وغيرهما مما ليس بطيب .



                                      ( الثامنة ) يكره للمحرم أن يستصحب معه بازيا أو كلبا معلما أو غيرهما من جوارح السباع والطير لما ذكره المصنف ، وهذا متفق عليه [ ص: 379 ] نص عليه الشافعي وتابعه الأصحاب ، وسبقت المسألة بفروعها في فصل الصيد .



                                      ( التاسعة ) قال المصنف والأصحاب : ينبغي أن ينزه إحرامه من الشتم والكلام القبيح والخصومة والمراء والجدال ، ومخاطبة النساء بما يتعلق بالجماع والقبلة ونحوها من أنواع الاستمتاع ، وكذا ذكره بحضرة المرأة . ويستحب أن يكون كلامه وكلام الحلال بذكر الله - تعالى - ، وما في معناه من الكلام المندوب ، كتعليم وتعلم وغير ذلك ، لحديثي [ أبي شريح الخزاعي ] وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت } " ولا بأس عليهما بالكلام المباح من شعر وغيره لحديث أبي بن كعب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إن من الشعر لحكمة } " رواه البخاري ، وعن هشام بن عروة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " { الشعر كلام حسنه كحسن الكلام ، وقبيحه كقبيحه } " رواه الشافعي والبيهقي هكذا مرسلا عن عروة وروى البيهقي " أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه غنى وهو محرم " والله أعلم .



                                      ( العاشرة ) قال أصحابنا لا بأس بنظر المحرم في المرآة ولا كراهة في ذلك سواء كان رجلا أو امرأة هذا هو الصحيح المشهور في المذهب وبه قطع القاضي أبو الطيب والماوردي وآخرون ، وقال أبو علي البندنيجي في كتابه الجامع : لا بأس بنظر المحرم والمحرمة إلى وجهه في المرآة قال : وقال الشافعي في سنن حرملة : يكره لهما ذلك هذا كلام البندنيجي . وقال صاحب العدة : قال الشافعي في الأم لا بأس به ، وقال في سنن حرملة : يكره ذلك لأنه زينة .

                                      وقال صاحب البيان قال : صاحب المعتمد لا يكره [ ص: 380 ] قال : ونقل صاحب الفروع عن الشافعي أنه نص في الإملاء أنه يكره فحصل للشافعي في المسألة قولان : ( الأصح ) لا يكره ، وبه قطع الأكثرون ، ونقل ابن المنذر عدم الكراهة عن ابن عباس وأبي هريرة وطاوس والشافعي وأحمد وإسحاق . قال : وبه أقول ، وكره ذلك عطاء الخراساني ، وقال مالك . لا يفعل ذلك إلا عن ضرورة . قال : وعن عطاء في المسألة قولان : ( أحدهما ) يكره ( والثاني ) لا بأس به واحتج البيهقي بحديث نافع " أن ابن عمر نظر في المرآة " رواه الشافعي والبيهقي بإسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم ، وعن ابن عباس أنه كره أن ينظر المحرم في المرآة إلا من وجع ، قال البيهقي : وعطاء الخراساني ضعيف لقوله والرواية الأولى أصح .

                                      ( الحادية عشر ) أشار المصنف في كلامه في هذا الفصل وغيره إلى أنه يستحب كون الحاج أشعث ، وكذا صرح به الأصحاب . ودليله قوله تعالى - : { ثم ليقضوا تفثهم } وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إن الله - تعالى - يباهي بأهل عرفات أهل السماء فيقول لهم : انظروا إلى عبادي جاءوني شعثا غبرا } " رواه البيهقي بإسناد صحيح .



                                      ( فرع ) قال الشافعي في هذا الباب من المختصر : المرأة كالرجل في ذلك إلا ما أمرت به من الستر ، فأستر لها أن تخفض صوتها بالتلبية ، ولها [ ص: 381 ] أن تلبس القميص والقباء ، إلى آخر كلامه ، وشرح الأصحاب هذا الكلام فأحسنهم شرحا صاحب الحاوي قال : ( أما ) أركان الحج والعمرة فلا يختلف الرجل والمرأة في شيء منها ، وإنما يختلفان في هيئات الإحرام ، فهي تخالفه في خمسة أشياء : ( أحدها ) أنها مأمورة بلبس المخيط كالقميص والقباء والسراويل والخفين ، وما هو أستر لها ، لأن عليها ستر جميع بدنها غير وجهها وكفيها ، والرجل منهي عن المخيط وتلزمه به الفدية ، ( الثاني ) أنها مأمورة بخفض صوتها بالتلبية ، والرجل مأمور برفعه ; لأن صوتها يفتن : ( الثالث ) أن إحرامها في وجهها فلا تغطيه ، فإن سترته لزمها الفدية ، وللرجل ستره ولا فدية عليه ، ( الرابع ) ليس للرجل لبس القفازين بلا خلاف وفي المرأة قولان مشهوران ، ( الخامس ) يستحب لها أن تختضب لإحرامها بحناء ، والرجل منهي عن ذلك .

                                      ( قلت ) وتخالفه في شيء سادس من هيئات الإحرام ، وهو أن كراهة الاحتكال في حقها أشد من الرجل ، وقد سبق بيانه قريبا ، وفي سابع وهو أنه يستحب لها مس وجهها عند إرادة الإحرام بشيء من الحناء لتستتر بشرته عن الأعين ، وقد سبق بيان هذا واضحا في أوائل هذا الباب قال الأصحاب : وفي أشياء من هيئات الطواف : ( أحدها والثاني ) الرمل والاضطباع يشرعان للرجل دونها ، قال الماوردي : هي منهية عنهما ، بل تمشي على هينتها ، وتستر جميع بدنها غير الوجه والكفين ، ( الثالث ) يستحب لها أن تطوف ليلا لأنه أستر لها ، والرجل يطوف ليلا ونهارا ، قال الماوردي وغيره : ويستحب لها أن لا تدنو من الكعبة في الطواف إن كان هناك رجال وإنما تطوف في حاشية الناس ، والرجل بخلافها ، قال السرخسي وهكذا يستحب لها في الطريق أن لا تخالط الناس وتسير على [ ص: 382 ] حاشيتهم تحرزا عنهم .

                                      قال أصحابنا : وتخالفه في أشياء من هيئات السعي : ( أحدها ) أنها تمشي جميع المسافة بين الصفا والمروة ، لا تسعى في شيء منها بخلاف الرجل ، ( والثاني ) ذكره الماوردي أنها تمنع من السعي راكبة ، والرجل لا يمنع منه ، ( والثالث ) ذكره الماوردي أيضا أنها تمتنع من صعود الصفا والمروة والرجل يؤمر به . قال الماوردي : وتخالفه في ثلاثة أشياء من هيئات الوقوف بعرفات : ( أحدها ) يستحب لها أن تقف نازلة لا راكبة ، لأنه أصون لها وأستر ، والرجل يستحب أن يكون راكبا على الأصح ، ( والثاني ) يستحب لها أن تكون جالسة والرجل قائما ، ( والثالث ) أنه يستحب لها أن تكون في حاشية الموقف وأطراف عرفات ، والرجل يستحب كونه عند الصخرات السود بوسط عرفات .

                                      قال الماوردي : وتخالفه في ثلاثة أشياء من هيئات باقي المناسك : ( أحدها ) يستحب للرجل رفع يده في رمي الجمار ، ولا يستحب للمرأة ، ( والثاني ) يستحب له أن يذبح نسكه ، ولا يستحب ذلك للمرأة ، ( والثالث ) الحلق في حق الرجل أفضل من التقصير ، وتقصيرها هي أفضل من حلقها ، بل حلقها مكروه ، قال : وما سوى المذكور فالمرأة والرجل فيه سواء والله أعلم




                                      الخدمات العلمية