الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما ذكر سبحانه وتعالى أهل بيعة الرضوان، وأضافهم إلى حضرة الرحمن، تشوف السامع إلى الخبر عمن غاب عن ذلك الجناب، وأبطأ عن حضرة تلك العمرة، فاستؤنف الإخبار عما ينافقون به بقوله تعالى: سيقول أي: بوعد لا خلف فيه، وأكد أمر نفاقهم تنبيها على جلدهم فيه ووقاصهم به ولطف النبي صلى الله عليه وسلم وشدة رحمته [ورفقه] وشفقته فقال: لك أي: لأنهم يعلمون أنك ألطف الخلق عشرة وأعظمهم شفقة على عباد الله، فهم يطمعون في قبولك من فساد عذرهم ما لا يطمعون فيه من غيرك من خلص المؤمنين، وغاب عنهم، لما عندهم من غلظ الأكباد أن الكذب بحضرتك في غاية القباحة؛ لأنك أعظم الخلق وأفطنهم، مع ما يأتيك من الأنباء عن علام الغيوب، وحقر أمرهم بسلب العقل عنهم وجعلهم مفعولين لا فاعلين إشارة إلى أنهم طردوا عن هذا المقام؛ لأنهم أشرار لئام، فقال تعالى: المخلفون أي: الذين - خلفهم الله عنك ولم يرضهم [ ص: 300 ] لصحبتك في هذه العمرة، فجعلهم كالشيء التافه الذي يخلفه الإنسان؛ لأنه لا فائدة فيه فلا يؤبه له ولا يعبأ به، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما أراد الاعتمار ندب أصحابه رضوان الله عليهم أجمعين لذلك، وندب من الأعراب الذين حول المدينة الشريفة من كان قد أقر بالإسلام، فلم يرد الله حضورهم؛ لأن إسلامهم لم يكن خالصا فلو حضروا لفسد بهم الحال، وإن حفظ الله بحوله وقوته من الفساد، أعقب ذلك فسادا آخر وهو أن يقال: إنه لم يكف عنهم الأعداء إلا الكثرة، فتخلفوا لما علم الله في تخلفهم من الحكم.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان قد تخلف بالجسد من خلص الأنصار وغيرهم من كان حاضرا معه صلى الله عليه وسلم بالقلب [أخرجهم بقوله]: من الأعراب أي: أهل البادية كذبا وبهتانا جرأة على الله ورسوله شغلتنا أي: عن إجابتك في هذه العمرة أموالنا وأهلونا أي: لأنا لو تركناها ضاعت؛ لأنه لم يكن لنا من يقوم بها وأنت قد نهيت عن إضاعة المال والتفريط في العيال، ثم سببوا عن هذا القول المراد به السوء قولهم: فاستغفر أي اطلب المغفرة لنا من الله إن كنا أخطأنا أو قصرنا.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان هذا ربما يغتر به من لا خبرة له، رده تعالى بقوله منبها [ ص: 301 ] على أن من صدق مع الله لم يشغله عنه شاغل، ومن شغله عنه شيء كان شؤما عليه: يقولون وعبر بالمضارع إشارة إلى أن هذا ديدن لهم لا ينفكون عنه. ولما صح بعد ذلك إيمان، لم يعبر بالأفواه دأبه، في المنافقين، بل قال: بألسنتهم أي: في الشغل والاستغفار، وأكد ما أفهمه ذكر اللسان من أنه قول ظاهري نفيا للكلام الحقيقي الذي هو النفسي بكل اعتبار بقوله: ما ليس في قلوبهم لأنهم لم يكن لهم شغل ولا كانت لهم نية في سؤال الاستغفار.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان فعلهم هذا من تخلفهم واعتلالهم وسؤالهم الاستغفار ظنا منهم أنهم يدفعون عن أنفسهم بذلك المكروه ويحصلون لها المحبوب وكان كأنه قيل: قد علم كذبهم، فماذا يقال لهم؟ استأنف سبحانه الجواب بقوله: قل أي: لهؤلاء الأغبياء واعظا لهم مسببا عن مخادعتهم لمن لا يخفى عليه خافية إشارة إلى أن العاقل يقبح عليه أن يقدم على ما هو بحيث تخشى عاقبته: فمن يملك لكم أيها المخادعون من الله أي: الملك الذي لا أمر لأحد معه لأنه لا كفوء له شيئا يمنعكم منه إن أراد بكم أي: خاصة ضرا أي: نوعا من أنواع الضرر عظيما أو حقيرا، فأهلك الأموال والأهلين وأنتم محتاطون في حفظهما [ ص: 302 ] فلا ينفعها حضوركم أو أهلككم أنتم أو أراد بكم نفعا بحفظهما به مع غيبتكم فلا يضرها بعدكم عنها، ويحفظكم في أنفسكم، وقد علم من تصنيفه سبحانه حالهم إلى صنفين مع الإبهام أنه يكون لبعضهم الضر لأن منهم من ارتد في زمن الردة، ولبعضهم النفع لأنه ثبت على الإسلام.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان التقدير قطعا: لا أحد يملك منه سبحانه لهم شيئا من ذلك بل هو قادر على كل ما يريد منه، وفعلكم لما عندكم من الجلافة والغباوة والكثافة فعل من يظن أنه لا يقدر عليكم ولا يعلم كثيرا مما تعملون، فيخفى عليه كذبكم، وليس الأمر كما ظننتم؛ فإنه لا يخفى عليه شيء من أعمالكم، بنى عليه ما أرشد إلى تقديره فقال تعالى: بل كان الله أي: المحيط أزلا وأبدا بكل شيء قدرة وعلما بما تعملون أي: الجهلة خبيرا أي: يعلم بواطن أموركم هذه وغيرها كما يعلم ظواهرها.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية