الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ليس لك من الأمر شيء أخرج غير واحد أن رباعية رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم السفلى اليمنى أصيبت يوم أحد أصابها عتبة بن أبي وقاص وشجه في وجهه ، فكان سالم مولى أبي حذيفة أو علي كرم الله تعالى وجهه يغسل الدم ، والنبي صلى الله تعالى عليه وسلم يقول كيف يفلح قوم صنعوا هذا بنبيهم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أحمد والبخاري والترمذي والنسائي وغيرهم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يوم أحد : اللهم العن أبا سفيان ، اللهم العن الحارث بن هشام ، اللهم العن سهيل بن عمرو ، اللهم العن صفوان بن أمية ، فنزلت هذه الآية : ليس لك من الأمر شيء إلخ فتيب عليهم كلهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وعن الجبائي أنه صلى الله تعالى عليه وسلم استأذن يوم أحد أن يدعو على الكفار لما آذوه حتى إنه صلى الله عليه وآله وسلم صلى الظهر ذلك اليوم قاعدا من الجراح وصلى المسلمون وراءه قعودا ، فلم يؤذن له ونزلت هذه الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال محمد بن إسحاق والشعبي لما رأى صلى الله تعالى عليه وسلم والمسلمون ما فعل الكفار بأصحابه وبعمه حمزة من جدع الأنوف والآذان وقطع المذاكير قالوا : لئن أدالنا الله تعالى منهم لنفعلن بهم مثل ما فعلوا بنا ولنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب قط ، فنزلت .

                                                                                                                                                                                                                                      وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه : أراد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن يدعو على المنهزمين عنه من أصحابه يوم أحد فنهاه الله تعالى عن ذلك وتاب عليهم ونزلت هذه الآية . [ ص: 50 ] وهذه الروايات كلها متضافرة على أن الآية نزلت في أحد ، والمعول عليه منها أنها بسبب المشركين .

                                                                                                                                                                                                                                      وعن مقاتل : أنها نزلت في أهل بئر معونة ، وذلك أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أرسل أربعين ، وقيل : سبعين رجلا من قراء أصحابه ، وأمر عليهم المنذر بن عمرو إلى بئر معونة على رأس أربعة أشهر من أحد ليعلموا الناس القرآن والعلم ، فاستصرخ عليهم عدو الله عامر بن الطفيل قبائل من سليم من عصية ورعل وذكوان فأحاطوا بهم في رحالهم فقاتلوا حتى قتلوا من عند آخرهم إلا كعب بن زيد أخا بني النجار فإنهم تركوه وبه رمق ، فلما علم بذلك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وجد وجدا شديدا وقنت عليهم شهرا يلعنهم فنزلت هذه الآية فترك ذلك ، والمعنى ليس لك من أمر هؤلاء شيء وإن قل .

                                                                                                                                                                                                                                      أو يتوب عليهم أو يعذبهم عطف إما على الأمر أو على شيء بإضمار أن أي ليس لك من أمرهم شيء أو من التوبة عليهم أو من تعذيبهم شيء ، أو ليس لك من أمرهم شيء أو التوبة عليهم أو تعذيبهم ، وفرقوا بين الوجهين بأنه على الأول سلب ما يتبع التوبة والتعذيب منه صلى الله تعالى عليه وسلم بالكلية من القبول والرد والخلاص من العذاب والمنع من النجاة .

                                                                                                                                                                                                                                      وعلى الثاني سلب نفس التوبة والتعذيب منه عليه الصلاة والسلام يعني لا يقدر أن يجبرهم على التوبة ولا يمنعهم عنها ولا يقدر أن يعذبهم ولا أن يعفو عنهم ، فإن الأمور كلها بيد الله تعالى ، وعلى التقديرين هو من عطف الخاص على العام كما قال العلامة الثاني ، لكن في مجيء مثل هذا العطف بكلمة ( أو ) نظر ، وتعقبه بعضهم بأن هذا إذا كان الأمر بمعنى الشأن ، ولك أن تجعله بمعنى التكليف والإيجاب أي ليس ما تأمرهم به من عندك وليس الأمر بيدك ولا التوبة ولا التعذيب ، فليس هناك عطف الخاص على العام ، وفيه أن الحمل على التكليف تكلف ، والحمل على الشأن أرفع شأنا .

                                                                                                                                                                                                                                      ونقل عن الفراء وابن الأنباري أن ( أو ) بمعنى إلا أن ، والمعنى ليس لك من أمرهم شيء إلا أن يتوب الله تعالى عليهم بالإسلام فتفرح ، أو يعذبهم فتشتفي بهم ، وأيا ما كان فالجملة كلام مستأنف سيق لبيان بعض الأمور المتعلقة بغزوة أحد أو ما يشبهها إثر بيان ما يتعلق بغزوة بدر لما بينهما من التناسب من حيث أن كلا منهما مبني على اختصاص الأمر كله بالله تعالى ، ومبني على سلبه عمن سواه ، وقيل : إن كل ما في هذه الآيات في غزوة أحد على ما أشرنا إليه ، وقيل : إن قوله تعالى : أو يتوب إلخ عطف على ينقلبوا أي يكون ثمرة خزيهم انقلابهم خائبين أو التوب عليهم أو تعذيبهم أو عطف على ( يكبتهم ) و ليس لك من الأمر شيء اعتراض وسط بين المعطوف عليه المتعلق بالعاجل والمعطوف المتعلق لتحقيق أن لا تأثير للمنصور إثر بيان أن لا تأثير للناصرين ، وتخصيص النفي برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على طريق تلوين الخطاب للدلالة على الانتفاء من غيره من باب أولى ، وإنما خص الاعتراض بموقعه لأن ما قبله من القطع والكبت من مظان أن يكون فيه لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ولسائر مباشري القتال مدخل في الجملة ، والمعنى إن مالك أمرهم على الإطلاق وهو الله تعالى نصركم عليهم ليهلكهم أو يكبتهم أو يتوب عليهم إن أسلموا أو يعذبهم إن أصروا ، وليس لك من أمرهم شيء إن أنت إلا عبد مأمور بإنذارهم وجهادهم .

                                                                                                                                                                                                                                      والمراد بتعذيبهم التعذيب الشديد الأخروي المخصوص بأشد الكفرة كفرا ، وإلا فمطلق التعذيب الأخروي متحقق في الفريقين الأولين ، وحمله على التعذيب الدنيوي بالأسر واستيلاء المؤمنين عليهم خلاف المتبادر من التعذيب عند الإطلاق ، وكذا لا يلائم ظاهر قوله سبحانه : فإنهم ظالمون فإنه في مقام التعليل لهذا التعذيب . [ ص: 51 ] وأكثر ما يعلل به التعذيب الأخروي ، نعم حمله على التعذيب الدنيوي أوفق بالمعنى الذي ذكره الفراء وابن الأنباري ؛ لأن التشفي في الغالب إنما يكون في الدنيا ، ونظم التوبة والتعذيب الأخروي في سلك العلة الغائية للنصر المترتبة عليه في الوجود من حيث إن قبول توبتهم فرع تحققها الناشئ من علمهم بحقية الإسلام بسبب غلبة أهله المترتبة على النصر الذي هو من الآيات الغر المحجلة ، وأن تعذيبهم المذكور شيء مسبب على إصرارهم على الكفر بعد تبين الحق على الوجه المذكور كما ينبئ عن ذلك قوله تعالى : ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة وإن فسر بالأسر مثلا كان أمر التسبب مكشوفا لا مرية فيه ، واستشكلت هذه الآية بناء على أنها تدل على ما في بعض الروايات على أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان فعل فعلا ومنع منه ، بأنه إن كان ذلك الفعل من الله تعالى فكيف منعه منه ، وإن لم يكن فهو قادح بالعصمة ومناف لقوله تعالى : وما ينطق عن الهوى وأجيب بأن ما وقع كان من باب خلاف الأولى نظرا إلى منصبه صلى الله عليه وآله وسلم ، والنهي المفهوم من الكلام من باب الإرشاد إلى اختيار الأفضل ، ولا يعد ذلك من الهوى في شيء ، بناء على القول بأنه يصح للنبي أن يجتهد ويعمل بما أدى إليه اجتهاده المأذون به .

                                                                                                                                                                                                                                      وجوز أن يكون ذلك الفعل نفسه عن وحي وإذن من الله تعالى له صلى الله تعالى عليه وسلم به ، وأن النهي عن ذلك كان نسخا لذلك الإذن ، وأيا ما كان لا ينافي العصمة الثابتة للأنبياء عليهم الصلاة والسلام فافهم .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية