الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما ( 25 ) )

يقول - تعالى ذكره - : هؤلاء المشركون من قريش هم الذين جحدوا توحيد الله ، وصدوكم أيها المؤمنون بالله عن دخول المسجد الحرام ، وصدوا الهدي ، معكوفا : يقول : محبوسا عن أن يبلغ محله . فموضع " أن" نصب لتعلقه إن شئت بمعكوف ، وإن شئت بصدوا . وكان بعض نحويي البصرة يقول في ذلك : وصدوا الهدي معكوفا كراهية أن يبلغ محله .

وعنى بقوله - تعالى ذكره - : ( أن يبلغ محله ) أن يبلغ محل نحره ، وذلك دخول الحرم ، والموضع الذي إذا صار إليه حل نحره ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ساق معه حين خرج إلى مكة في سفرته تلك سبعين بدنة .

حدثنا ابن حميد قال : ثنا سلمة قال : ثني محمد بن إسحاق ، عن محمد بن مسلم الزهري ، عن عروة بن الزبير ، عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم أنهما حدثاه ، قالا خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية [ ص: 240 ] يريد زيارة البيت ، لا يريد قتالا وساق الهدي معه سبعين بدنة وكان الناس سبعمائة رجل ، فكانت كل بدنة عن عشرة .

وبنحو الذي قلنا في معنى قوله ( هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله ) قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله ( هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا ) : أي محبوسا ( أن يبلغ محله ) وأقبل نبي الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه معتمرين في ذي القعدة ، ومعهم الهدي ، حتى إذا كانوا بالحديبية ، صدهم المشركون ، فصالحهم نبي الله - صلى الله عليه وسلم - على أن يرجع من عامه ذلك ، ثم يرجع من العام المقبل ، فيكون بمكة ثلاث ليال ، ولا يدخلها إلا بسلاح الراكب ، ولا يخرج بأحد من أهلها ، فنحروا الهدي ، وحلقوا ، وقصروا ، حتى إذا كان من العام المقبل ، أقبل نبي الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه حتى دخلوا مكة معتمرين في ذي القعدة ، فأقام بها ثلاث ليال ، وكان المشركون قد فجروا عليه حين ردوه ، فأقصه الله منهم فأدخله مكة في ذلك الشهر الذي كانوا ردوه فيه ، فأنزل الله ( الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص ) .

حدثني محمد بن عمارة الأسدي وأحمد بن منصور الرمادي ، واللفظ لابن عمارة قالا : حدثنا عبيد الله بن موسى قال : أخبرنا موسى بن عبيدة ، عن إياس بن سلمة بن الأكوع ، عن أبيه ، قال : بعثت قريش سهيل بن عمرو ، وحويطب بن عبد العزى ، وحفص بن فلان إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليصالحوه فلما رآهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيهم سهيل بن عمرو قال : قد سهل الله لكم من أمركم ، القوم ماتون إليكم بأرحامهم وسائلوكم الصلح ، فابعثوا الهدي ، وأظهروا التلبية ، لعل ذلك يلين قلوبهم ، فلبوا من نواحي العسكر حتى ارتجت أصواتهم بالتلبية ، فجاءوا فسألوه الصلح; قال : فبينما الناس قد توادعوا [ ص: 241 ] وفي المسلمين ناس من المشركين ، قال : فقيل به أبو سفيان ; قال : وإذا الوادي يسيل بالرجال; قال : قال إياس قال سلمة : فجئت بستة من المشركين متسلحين أسوقهم ، لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا ، فأتيت بهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يسلب ولم يقتل وعفا; قال : فشددنا على من في أيدي المشركين منا ، فما تركنا في أيديهم منا رجلا إلا استنقذناه; قال : وغلبنا على من في أيدينا منهم; ثم إن قريشا بعثوا سهيل بن عمرو ، وحويطبا ، فولوا صلحهم ، وبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - عليا في صلحه; فكتب علي بينهم : بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما صالح عليه محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قريشا ، صالحهم على أنه لا إهلال ولا امتلال ، وعلى أنه من قدم مكة من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - حاجا أو معتمرا ، أو يبتغي من فضل الله ، فهو آمن على دمه وماله; ومن قدم المدينة من قريش مجتازا إلى مصر أو إلى الشام يبتغي من فضل الله ، فهو آمن على دمه وماله; وعلى أنه من جاء محمدا - صلى الله عليه وسلم - من قريش فهو إليهم رد ، ومن جاءهم من أصحاب محمد فهو لهم . فاشتد ذلك على المسلمين ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من جاءهم منا فأبعده الله ، ومن جاءنا منهم فرددناه إليهم فعلم الله الإسلام من نفسه ، جعل له مخرجا . فصالحوه على أنه يعتمر في عام قابل في هذا الشهر ، لا يدخل علينا بخيل ولا سلاح ، إلا ما يحمل المسافر في قرابه ، يثوي فينا ثلاث ليال ، وعلى أن هذا الهدي حيثما حبسناه محله لا يقدمه علينا . فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : نحن نسوقه وأنتم تردون وجوهه ، فسار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع الهدي وسار الناس" .

حدثني محمد بن عمارة قال : ثنا عبيد الله بن موسى قال : أخبرنا موسى قال : أخبرني أبو مرة مولى أم هانئ ، عن ابن عمر قال : " كان الهدي دون الجبال التي تطلع على وادي الثنية عرض له المشركون ، فردوا وجوهه; قال : فنحر النبي - صلى الله عليه وسلم - الهدي حين حبسوه ، وهي الحديبية ، وحلق ، وتأسى به أناس حين رأوه حلق ، وتربص آخرون ، فقالوا : لعلنا نطوف [ ص: 242 ] بالبيت ، فقال رسول الله : رحم الله المحلقين ، قيل : والمقصرين ، قال : رحم الله المحلقين ، قيل : والمقصرين ، قال : والمقصرين " .

حدثنا ابن حميد قال : ثنا الحكم بن بشير قال : ثنا عمر بن ذر الهمداني ، عن مجاهد " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتمر ثلاث عمر ، كلها في ذي القعدة ، يرجع في كلها إلى المدينة ، منها العمرة التي صد فيها الهدي ، فنحره في محله ، عند الشجرة ، وشارطوه أن يأتي في العام المقبل معتمرا ، فيدخل مكة ، فيطوف بالبيت ثلاثة أيام ، ثم يخرج ، ولا يحبسون عنه أحدا قدم معه ، ولا يخرج من مكة بأحد كان فيها قبل قدومه من المسلمين; فلما كان من العام المقبل دخل مكة ، فأقام بها ثلاثا يطوف بالبيت ; فلما كان اليوم الثالث قريبا من الظهر ، أرسلوا إليه : إن قومك قد آذاهم مقامك ، فنودي في الناس : لا تغرب الشمس وفيها أحد من المسلمين قدم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " .

حدثنا ابن عبد الأعلى قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الزهري ، عن عروة بن الزبير ، عن المسور بن مخرمة قال : خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - زمن الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه ، حتى إذا كانوا بذي الحليفة قلد الهدي وأشعره ، وأحرم بالعمرة ، وبعث بين يديه عينا له من خزاعة يخبره عن قريش ، وسار النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا كان بغدير الأشطاط قريبا من قعيقعان ، أتاه عينه الخزاعي ، فقال . إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي قد جمعوا لك الأحابيش ، وجمعوا لك جموعا ، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أشيروا علي ، أترون أن نميل على ذراري هؤلاء الذين أعانوهم فنصيبهم ، فإن قعدوا قعدوا موتورين محزونين وإن لحوا تكن عنقا قطعها الله ؟ أم ترون أنا نؤم البيت ، فمن صدنا عنه قاتلناه ؟ " فقام أبو بكر رضي الله عنه فقال : يا رسول الله : إنا لم نأت [ ص: 243 ] لقتال أحد ، ولكن من حال بيننا وبين البيت قاتلناه ; فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : فروحوا إذا; وكان أبو هريرة يقول : ما رأيت أحدا قط كان أكثر مشاورة لأصحابه من النبي - صلى الله عليه وسلم - فراحوا حتى إذا كانوا ببعض الطريق ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : إن خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة ، فخذوا ذات اليمين ، فوالله ما شعر بهم خالد حتى إذا هو بقترة الجيش ، فانطلق يركض نذيرا لقريش ، وسار النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها ، بركت به راحلته; فقال الناس : حل حل ، فقال : ما حل ؟ فقالوا : خلأت القصواء ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ما خلأت وما ذاك لها بخلق ، ولكنها حبسها حابس الفيل ، ثم قال : والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون بها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها ، ثم زجرت فوثبت فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء ، إنما يتبرضه الناس تبرضا ، فلم يلبث الناس أن نزحوه ، فشكي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العطش ، فنزع سهما من كنانته ، ثم أمرهم أن يجعلوه فيه ، فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه ، فبينما هم كذلك جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من خزاعة ، وكانوا عيبة نصح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أهل تهامة ، فقال : إني تركت كعب بن لؤي ، وعامر بن لؤي ، قد نزلوا أعداد مياه الحديبية معهم العوذ المطافيل ، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إنا لم نأت لقتال أحد ، ولكنا جئنا معتمرين ، وإن قريشا قد نهكتهم الحرب ، وأضرت بهم ، فإن شاءوا ماددناهم مدة ، ويخلوا بيني وبين الناس ، فإن أظهر فإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا ، وإلا فقد جموا ، وإن هم أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي ، أو لينفذن الله أمره فقال [ ص: 244 ] بديل : سنبلغهم ما تقول ، فانطلق حتى أتى قريشا ، فقال : إنا جئناكم من عند هذا الرجل ، وسمعناه يقول قولا فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا; قال سفهاؤهم : لا حاجة لنا في أن تحدثنا عنه بشيء ، وقال ذوو الرأي منهم : هات ما سمعته; يقول : قال سمعته يقول كذا وكذا ، فحدثهم بما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فقام عروة بن مسعود الثقفي ، فقال : أي قوم ، ألستم بالولد ؟ قالوا : بلى; قال : أولست بالوالد ؟ قالوا : بلى ، قال : فهل أنتم تتهموني ؟ قالوا : لا ، قال : ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ ، فلما بلحوا علي جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني ؟ قالوا : بلى; قال : فإن هذا الرجل قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها ، ودعوني آته; فقالوا : ائته ، فأتاه ، فجعل يكلم النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوا من مقالته لبديل ; فقال عروة عند ذلك : أي محمد ، أرأيت إن استأصلت قومك ، فهل سمعت بأحد من العرب اجتاح أصله قبلك ؟ وإن تكن الأخرى فوالله إني لأرى وجوها وأوباشا من الناس خليقا أن يفروا ويدعوك ، فقال أبو بكر : امصص بظر اللات ، واللات : طاغية ثقيف الذي كانوا يعبدون ، أنحن نفر وندعه ؟ فقال : من هذا ؟ فقالوا : أبو بكر ، فقال : أما والذي نفسي بيده لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك ; وجعل يكلم النبي - صلى الله عليه وسلم - فكلما كلمه أخذ بلحيته ، والمغيرة بن شعبة قائم على رأس النبي ومعه السيف ، وعليه المغفر; فكلما أهوى عروة إلى لحية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضرب يده بنصل السيف ، وقال : أخر يدك عن لحيته ، فرفع رأسه فقال : من هذا ؟ قالوا : المغيرة بن شعبة قال : أي غدر أولست أسعى في غدرتك . وكان المغيرة بن شعبة صحب قوما في الجاهلية ، فقتلهم وأخذ أموالهم ، ثم جاء فأسلم ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : أما الإسلام فقد قبلناه ، وأما المال فإنه مال غدر لا حاجة لنا فيه . وإن عروة جعل يرمق أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بعينه ، فوالله إن تنخم النبي - صلى الله عليه وسلم - نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم ، فدلك بها وجهه وجلده ، وإذا أمرهم [ ص: 245 ] ابتدروا أمره ، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه ، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده ، وما يحدون النظر إليه تعظيما له ، فرجع عروة إلى أصحابه ، فقال أي قوم ، والله لقد وفدت على الملوك ، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي ، والله ما رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا ; والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده ، وإذا أمرهم ابتدروا أمره ، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه ، وإذا تكلموا عنده خفوا أصواتهم ، وما يحدون النظر إليه تعظيما له ، وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها .

فقال رجل من كنانة : دعوني آته ، فقالوا : ائته; فلما أشرف على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " هذا فلان ، وهو من قوم يعظمون البدن ، فابعثوها له ، فبعثت له ، واستقبله قوم يلبون; فلما رأى ذلك قال : سبحان الله ، ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت ، فقام رجل منهم يقال له مكرز بن حفص ، فقال : دعوني آته ، فقالوا ائته ، فلما أشرف على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : هذا مكرز بن حفص ، وهو رجل فاجر; فجاء فجعل يكلم النبي - صلى الله عليه وسلم - فبينما هو يكلمه ، إذ جاء سهيل بن عمرو قال أيوب قال عكرمة : إنه لما جاء سهيل قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : قد سهل لكم من أمركم . قال الزهري . فجاء سهيل بن عمرو ، فقال : هات نكتب بيننا وبينك كتابا; فدعا الكاتب فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : اكتب : بسم الله الرحمن الرحيم ، فقال : ما الرحمن ؟ فوالله ما أدري ما هو ، ولكن اكتب : باسمك اللهم كما كنت تكتب ، فقال المسلمون : والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : اكتب : باسمك اللهم ثم قال : اكتب : هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله ، فقال سهيل : والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ، ولا قاتلناك ، ولكن اكتب : محمد بن عبد الله ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : والله إني لرسول الله وإن [ ص: 246 ] كذبتموني ، ولكن اكتب محمد بن عبد الله ; قال الزهري : وذلك لقوله : والله لا يسألوني خطة يعظمون بها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها; فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : على أن تخلوا بيننا وبين البيت ، فنطوف به; قال سهيل : والله لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة ، ولكن لك من العام المقبل ، فكتب فقال سهيل ، وعلى أنه لا يأتيك منا رجل إن كان على دينك إلا رددته إلينا ، فقال المسلمون : سبحان الله ، وكيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلما ؟ فبينما هم كذلك ، إذا جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده ، قد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين ، فقال سهيل : هذا يا محمد أول من أقاضيك عليه أن ترده إلينا ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : فأجره لي ، فقال : ما أنا بمجيره لك ، قال : بلى فافعل ، قال : ما أنا بفاعل; قال صاحبه مكرز وسهيل إلى جنبه : قد أجرناه لك; فقال أبو جندل أي معاشر المسلمين ، أأرد إلى المشركين وقد جئت مسلما ؟ ألا ترون ما قد لقيت ؟ كان قد عذب عذابا شديدا في الله
.

قال عمر بن الخطاب : والله ما شككت منذ أسلمت إلا يومئذ ، فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت : ألسنا على الحق وعدونا على الباطل ؟ قال : بلى ، قلت : فلم نعطي الدنية في ديننا إذا ؟ قال : إني رسول الله ، ولست أعصيه وهو ناصري ، قلت : ألست تحدثنا أنا سنأتي البيت ، فنطوف به ؟ قال : بلى ، قال : فأخبرتك أنك تأتيه العام ؟ قلت : لا ، قال : فإنك آتيه ومتطوف به; قال : ثم أتيت أبا بكر ، فقلت : أليس هذا نبي الله حقا ؟ قال : بلى ، قلت : ألسنا على الحق وعدونا على الباطل ؟ قال : بلى ، قلت : فلم نعطي الدنية في ديننا إذا ؟ قال أيها الرجل إنه رسول الله ، وليس يعصي ربه ، فاستمسك بغرزه حتى تموت ، فوالله إنه لعلى الحق; قلت : أوليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به ؟ قال : بلى ، أفأخبرك أنك تأتيه العام ؟ قال : لا ، قال : فإنك آتيه ومتطوف به . قال الزهري : قال عمر : فعملت لذلك أعمالا فلما فرغ من قصته ، [ ص: 247 ] قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه : قوموا فانحروا ثم احلقوا ، قال : فوالله ما قام منا رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات ; فلما لم يقم منهم أحد ، قام فدخل على أم سلمة ، فذكر لها ما لقي من الناس ، فقالت أم سلمة : يا رسول الله أتحب ذلك ؟ اخرج ، ثم لا تكلم أحدا منهم كلمة حتى تنحر بدنك ، وتدعو حالقك فيحلقك ، فقام فخرج فلم يكلم أحدا منهم كلمة ، حتى نحر بدنه ، ودعا حالقه فحلقه; فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا ، وجعل بعضهم يحلق بعضا ، حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما; ثم جاءه نسوة مؤمنات ، فأنزل الله - عز وجل - عليه ( يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات ) حتى بلغ ( بعصم الكوافر ) قال : فطلق عمر يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك; قال : فنهاهم أن يردوهن ، وأمرهم أن يردوا الصداق حينئذ; قال رجل للزهري : أمن أجل الفروج ؟ قال : نعم ، فتزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان ، والأخرى صفوان بن أمية ، ثم رجع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة ، فجاءه أبو بصير ، رجل من قريش ، وهو مسلم ، فأرسل في طلبه رجلان ، فقالا : العهد الذي جعلت لنا ، فدفعه إلى الرجلين ، فخرجا به ، حتى إذا بلغا ذا الحليفة ، فنزلوا يأكلون من تمر لهم ، فقال أبو بصير لأحد الرجلين : والله إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيدا ، فاستله الآخر فقال : والله إنه لجيد ، لقد جربت به وجربت; فقال أبو بصير : أرني أنظر إليه فأمكنه منه ، فضربه به حتى برد وفر الآخر حتى أتى المدينة ، فدخل المسجد يعدو ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : رأى هذا ذعرا ، فقال : والله قتل صاحبي ، وإني والله لمقتول ، فجاء أبو بصير فقال : قد والله أوفى الله ذمتك ورددتني إليهم ، ثم أغاثني الله منهم ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ويل أمه مسعر حرب لو كان له أحد; فلما سمع عرف أنه سيرده إليهم; قال : فخرج حتى أتى سيف البحر ، وتفلت أبو جندل بن سهيل بن عمرو ، فلحق بأبي بصير ، فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير ، حتى اجتمعت منهم عصابة ، فوالله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشأم إلا اعترضوا لهم فقتلوهم ، وأخذوا [ ص: 248 ] أموالهم ، فأرسلت قريش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يناشدونه الله والرحم لما أرسل إليهم ، فمن أتاه فهو آمن فأنزل الله ( وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ) حتى بلغ ( حمية الجاهلية ) وكانت حميتهم أنهم لم يقروا أنه نبي ، ولم يقروا ببسم الله الرحمن الرحيم ، وحالوا بينهم وبين البيت" .


حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : ثنا يحيى بن سعيد قال : ثنا عبد الله بن المبارك قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن عروة ، عن المسور بن مخرمة ، ومروان بن الحكم قالا خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زمن الحديبية في بضع عشرة مائة ، ثم ذكر نحوه ، إلا أنه قال في حديثه ، قال الزهري ، فحدثني القاسم بن محمد ، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت : ألست برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال : بلى ، قال أيضا : وخرج أبو بصير والذين أسلموا من الذين رد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى لحقوا بالساحل على طريق عير قريش ، فقتلوا من فيها من الكفار وتغنموها; فلما رأى ذلك كفار قريش ، ركب نفر منهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا له : إنها لا تغني مدتك شيئا ، ونحن نقتل وتنهب أموالنا ، وإنا نسألك أن تدخل هؤلاء في الذين أسلموا منا في صلحك وتمنعهم ، وتحجز عنا قتالهم ، ففعل ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله : ( وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ) ، ثم ساق الحديث إلى آخره" ، نحو حديث ابن عبد الأعلى .

حدثنا ابن حميد قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري ، عن عروة بن الزبير ، عن المسور بن مخرمة ، ومروان بن الحكم أنهما حدثاه ، قالا " خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية ، يريد زيارة البيت ، لا يريد قتالا وساق معه هديه سبعين بدنة ، حتى إذا كان بعسفان لقيه بشر بن سفيان الكعبي ، فقال له : يا رسول الله هذه قريش قد سمعت بمسيرك ، فخرجوا معهم العوذ المطافيل قد لبسوا جلود النمور ، [ ص: 249 ] ونزلوا بذي طوى يعاهدون الله ، لا تدخلها عليهم أبدا ، وهذا خالد بن الوليد في خيلهم ، قد قدموها إلى كراع الغميم ; قال : فقال - صلى الله عليه وسلم - : يا ويح قريش لقد أهلكتهم الحرب ، ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر العرب فإن هم أصابوني كان ذلك الذي أرادوا ، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام داخرين " ثم ذكر نحو حديث معمر بزيادات فيه كثيرة ، على حديث معمر تركت ذكرها .

حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله ( والهدي معكوفا أن يبلغ محله ) قال : كان الهدي بذي طوى ، والحديبية خارجة من الحرم ، نزلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين غورت قريش عليه الماء .

وقوله ( ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ) يقول - تعالى ذكره - : ولولا رجال من أهل الإيمان ونساء منهم أيها المؤمنون بالله أن تطئوهم بخيلكم ورجلكم لم تعلموهم بمكة ، وقد حبسهم المشركون بها عنكم ، فلا يستطيعون من أجل ذلك الخروج إليكم فتقتلوهم .

كما حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله ( ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات ) . . . حتى بلغ ( بغير علم ) هذا حين رد محمد وأصحابه أن يدخلوا مكة ، فكان بها رجال مؤمنون ونساء مؤمنات ، فكره الله أن يؤذوا أو يوطئوا بغير علم ، فتصيبكم منهم معرة بغير علم .

واختلف أهل التأويل في المعرة التي عناها الله في هذا الموضع ، فقال بعضهم : عني بها الإثم .

ذكر من قال ذلك :

حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله ( ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ) [ ص: 250 ] قال : إثم بغير علم .

وقال آخرون : عني بها غرم الدية .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ( فتصيبكم منهم معرة بغير علم ) فتخرجوا ديته ، فأما إثم فلم يحسبه عليهم . والمعرة : هي المفعلة من العر ، وهو الجرب وإنما المعنى : فتصيبكم من قبلهم معرة تعرون بها ، يلزمكم من أجلها كفارة قتل الخطأ ، وذلك عتق رقبة مؤمنة ، من أطاق ذلك ، ومن لم يطق فصيام شهرين .

وإنما اخترت هذا القول دون القول الذي قاله ابن إسحاق ؛ لأن الله إنما أوجب على قاتل المؤمن في دار الحرب إذا لم يكن هاجر منها ، ولم يكن قاتله علم إيمانه الكفارة دون الدية ، فقال ( فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة ) لم يوجب على قاتله خطأ ديته ، فلذلك قلنا : عنى بالمعرة في هذا الموضع الكفارة ، و ( أن ) من قوله ( أن تطئوهم ) في موضع رفع ردا على الرجال ؛ لأن معنى الكلام : ولولا أن تطئوا رجالا مؤمنين ونساء مؤمنات لم تعلموهم ، فتصيبكم منهم معرة بغير علم لأذن الله لكم أيها المؤمنون في دخول مكة ، ولكنه حال بينكم وبين ذلك ( ليدخل الله في رحمته من يشاء ) يقول : ليدخل الله في الإسلام من أهل مكة من يشاء قبل أن تدخلوها ، وحذف جواب لولا استغناء بدلالة الكلام عليه .

وقوله ( لو تزيلوا ) يقول : لو تميز الذين في مشركي مكة من الرجال المؤمنين والنساء المؤمنات الذين لم تعلموهم منهم ، ففارقوهم وخرجوا من بين أظهرهم ( لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما ) يقول : لقتلنا من بقي فيها بالسيف ، أو لأهلكناهم ببعض ما يؤلمهم من عذابنا العاجل .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . [ ص: 251 ]

ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله ( لو تزيلوا ) . . . الآية ، إن الله يدفع بالمؤمنين عن الكفار .

حدثت عن الحسين قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد قال : سمع الضحاك يقول في قوله ( لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم ) يعني أهل مكة كان فيهم مؤمنون مستضعفون : يقول الله لولا أولئك المستضعفون لو قد تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما .

حدثنا يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله ( لو تزيلوا ) لو تفرقوا ، فتفرق المؤمن من الكافر ، لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما .

التالي السابق


الخدمات العلمية