الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
قال : ( وإذا اختلفا في السلم فقال : الطالب شرطت لي جيدا وقال : المطلوب شرطت لك وسطا أو قال : الطالب أسلمت إليك في حنطة وقال : المطلوب أسلمت إلي في شعير تحالفا وترادا ) وحكم التحالف ثابت بالسنة بخلاف القياس فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إذا اختلف المتبايعان تحالفا وترادا } وفي حديث آخر قال : { إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة بعينها فالقول ما يقوله البائع أو يترادان } وسنقرر هذا في باب التحالف إن شاء الله تعالى فنقول الآن إذا اختلفا [ ص: 155 ] في جنس المعقود عليه فتعلق العقد بالمعقود عليه أكثر من تعلقه بالثمن ثم لو اختلفا في جنس الثمن تحالفا ففي جنس المعقود عليه أولى وكذلك إذا اختلفا في الصفة لأن المسلم فيه دين وإنما يعرف الدين بصفته فالجيد منه غير الوسط ألا ترى أنهما لو أحضرا كانا غيرين والاختلاف في الصفة فيما هو دين يكون اختلافا في المعقود عليه فيجري التحالف بينهما بخلاف ما إذا اختلفا في الصفة في بيع العين فإن العين لا تختلف باختلاف صفته فلا يكون ذلك اختلافا بينهما في المعقود عليه

قال : ( والذي يبدأ به في اليمين المطلوب في قول أبي يوسف الأول ) لأنه بمنزلة البائع وصاحب الشرع عليه الصلاة والسلام قال : فالقول ما يقوله البائع فظاهر هذا يقتضي أن يكتفى بيمينه وقد قام الدليل على أنه لا يكتفى بذلك فيبقى هذا الظاهر معتبرا في البداية بيمينه ولأنه أشبه بالمنكرين فإنه ينكر ما ادعاه الطالب من الجنس والصفة لنفسه واليمين على المنكر ثم رجع وقال : يبدأ بيمين الطالب وهو قول محمد لأن أول التسليمين في عقد السلم على الطالب وهو رأس المال فلذلك أول اليمينين عليه ولأنه بنكوله يثبت ما ادعاه المطلوب منه ويقع الاستغناء عن يمينه وبعض مشايخنا رحمهم الله يقول القاضي يقرع بينهما ويبدأ بيمين من خرجت قرعته نفيا لتهمة الميل عن نفسه وقيل الرأي في ذلك إلى القاضي وقيل ينظر أيهما سبق بالدعوة يبدأ بيمين خصمه وأيهما نكل عن اليمين لزمه دعوى صاحبه لأن نكوله قائم مقام إقراره

وإن قامت لهما جميعا بينة أخذت بينة الطالب لأن في بينته زيادة إثبات ولأنه يقيم البينة على حق نفسه فالمطلوب إنما يقيم البينة على حق الطالب وبينة الإنسان على حق نفسه أولى بالقبول وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وعن محمد إن كان افترقا عن مجلس العقد فكذلك الجواب وإن لم يفترقا عن مجلس العقد يقضي بسلمين عشرة في كر حنطة ببينة رب السلم وعشرة في كر شعير ببينة المسلم إليه ومحمد رحمه الله يقول البينات حجج فمهما أمكن العمل بها لا يجوز إبطال شيء منها وهنا العمل بالبينتين يمكن إذ لا منافاة بين العقدين فيجب العمل بهما كحجج الشرع بخلاف ما بعد الافتراق فإنه ما قبض في المجلس إلا عشرة واحدة فلا يمكن القضاء بالعقدين ; فلهذا رجحنا بينة الطالب وقاس هذا ببيع العين فإنه لوقال : بعت منك هذه الجارية بألف درهم وقال : المشتري بعتني العبد بألف درهم وأقاما جميعا البينة يقضي بالعقد فيهما جميعا بالاتفاق فكذلك في السلم وأبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله يقولان مع اختلافهما اتفقا على أنه لم يكن بينهما إلا عقد واحد فالقضاء بالعقدين قضاء بما لم [ ص: 156 ] يطلبا وليس للقاضي ذلك يقرره أنه لا مقصود للمطلوب في هذه البينة إثباتا لأن حقه في رأس المال وهو سالم له ولا مؤنة عليه في ذمته حنطة كان أو شعيرا فإنما مقصوده نفي بينة الطالب فرجحنا بينة الطالب للإثبات بخلاف بيع العين فالبائع هناك ببينته يثبت إزالة العين عن ملكه ليسقط مؤنته عن نفسه بالتسليم إلى المشتري فكان هو مثبتا كالمشتري فلهذا قضينا بالعقدين ثم نص على الخلاف فيما إذا اختلفا في جنس المسلم فيه ولم يذكر ذلك فيما إذا اختلفا في صفته

ومن أصحابنا رحمهم الله تعالى من قال : هو على الخلاف أيضا ومنهم من فرق لمحمد بينهما فقال : باختلافهما في الصفة لا يتحقق الخلاف في العقد ألا ترى أنه قد يسلم في الجيد ويأخذ مكانه رديئا ويجوز أن يسلم في الرديء فيعطيه مكانه جيدا فعرفنا أن باختلاف الصفة لا يختلف العقد فلا يمكن القضاء هناك بالعقدين بخلاف الجنس فإن بالسلم بالحنطة لا يجوز أخذ الشعير فكان الاختلاف في ذلك اختلافا في العقد وقد أثبت كل واحد منهما ما ادعى من العقد بالبينة فيقضى بالعقدين فإن لم يكن لهما بينة وتحالفا فسخ القاضي العقد بينهما إذا طلب ذلك أحدهما قطعا للمنازعة لما في امتدادها من الفساد ودفع الضرر عن كل واحد منهما بإعادة رأس ماله إليه وقد بينا في باب اللعان أنه يفرق بينهما بعد التلاعن من غير طلبهما لأن حرمة الاجتماع بين المتلاعنين ما داما مصرين حق الشرع فلا يتوقف التفريق على طلبهما أو طلب أحدهما وهنا فسخ العقد حقهما فيتوقف على طلبهما أو طلب أحدهما

التالي السابق


الخدمات العلمية