الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 76 ] باب في ذكر حقيقة الإيمان

قال الله تعالى : فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما تقدم تفسير هذه الآية في النصيب الأول من هذا الكتاب .

والمراد بها في هذا الموضع : أن الإيمان عبارة عن تحكيم رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل أمر يشجر بين الأمة ، ويختلف فيه الناس ، مع عدم حرج النفس وضيق الصدر ، وتسليمه بصميم القلب ، وذلك عبارة عن اتباع السنة ، وتقديمها على تحكيم كل إنسان ، كائنا من كان ، وأن في خلاف هذا الشأن نفي الإيمان .

فمن حكم غيره ، وقلد سواه ، فقد خرج عن دائرة الإيمان ، وفي هذا الوعيد الشديد ما تقشعر له الجلود ، وترجف له الأفئدة - كما سبق الإشارة إليه في موضعه ، فراجعه .

وقال تعالى : إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم [الأنفال : 2]; أي فزعت ، وخضعت ، وخافت ، ورقت; استعظاما له ، وهيبة من جلاله .

والمراد : أن حصول الخوف من الله ، والفزع منه عند ذكره ، هو شأن المؤمنين الكاملي الإيمان ، المخلصين له الدين .

فالحصر باعتبار كمال الإيمان ، لا باعتبار أصله .

والظاهر : أن مقصود الآية : هو إثبات هذه المزية لمن كمل إيمانه من غير تقييد بحال دون حال ، ولا بوقت دون وقت ، ولا بواقعة دون واقعة .

[ ص: 77 ] وعن أم الدرداء ، قالت : إنما الوجل في القلب كاحتراق السفعة ، يا شهر بن حوشب ! أما تجد قشعريرة؟ قال : بلى . قالت : فادع عندها; فإن الدعاء يستجاب عند ذلك . ونحوه عن عائشة .

قال السدي : هو الرجل يريد أن يظلم أو يهم بمعصية ، فيقال له : اتق الله : فيجل قلبه .

وعن ثابت البناني ، قال فلان : إني لأعلم متى يستجاب لي؟ قالوا : ومن أين لك هذا؟ قال : إذا اقشعر جلدي ، ووجل قلبي ، وفاضت عيناي ، فذلك حين يستجاب لي ، إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله ; أي : تصديقا ، قاله ابن عباس ، وعن الربيع بن أنس ، قال : خشية .

والمراد بزيادته : انشراح الصدر ، وطمأنينة القلب ، والفلاح الخاطر عند تلاوة الآيات .

وقيل : زيادة العمل; لأن الإيمان شيء واحد لا يزيد ولا ينقص .

وفيه نظر; لأن الآيات المتكاثرة ، والأحاديث المتواترة ، ترده وتدفعه ، والآية الشريفة صريحة في زيادة الإيمان .

وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - يرفعه : «الإيمان بضع وسبعون شعبة ، أعلاها : شهادة ألا إله إلا الله ، وأدناها : إماطة الأذى عن الطريق ، والحياء شعبة من الإيمان» أخرجه الشيخان .

وفي هذا أعظم دليل على أن الإيمان فيه أعلى وأدنى ، وإذا كان كذلك ، كان قابلا للزيادة والنقصان ، وليس بعد بيان الله وبيان رسوله بيان .

قال الواحدي : عن عامة أهل العلم : أن من كانت الدلائل عنده أكثر وأقوى ، كان إيمانه أزيد .

قال الكرخي : إن نفس التصديق يقبل القوة ، وهي التي عبر عنها بالزيادة; [ ص: 78 ] للفرق المميز بين يقين الأنبياء وأرباب المكاشفات ، ويقين آحاد الأمة .

ويؤيد ذلك قول علي - عليه السلام - : لو كشف الغطاء ، [ما] ازددت يقينا .

وكذا من قام عليه دليل واحد ، ومن قامت عليه أدلة كثيرة; لأن تظاهر الأدلة أقوى للمدلول عليه ، وأثبت لقدمه ، وعليه يحمل ما نقل عن الشافعي من أنه يقبل الزيادة والنقص . انتهى .

وأرجع علي القاري الحنفي هذا الاختلاف إلى النزاع اللفظي ، وقرر الزيادة والنقصان .

وهذا هو الذي عليه جمهور الأعيان من أهل العلم .

وبهذا تحصل أن إيمان المحدثين ، ومتبعي الكتاب والسنة أزيد وأقوى من إيمان المقلدين الفرعيين; لزيادة العلم بالأدلة عندهم ، وفقد الأدلة عن هؤلاء . فإيمان القسم الأول إيمان تحقيق ، وإيمان القسم الآخر إيمان تقليد .

التالي السابق


الخدمات العلمية