الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 401 ] فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر وأما بنعمة ربك فحدث .

الفاء الأولى فصيحة .

و ( أما ) تفيد شرطا مقدرا تقديره : مهما يكن من شيء ، فكان مفادها مشعرا بشرط آخر مقدر هو الذي اجتلبت لأجله فاء الفصيحة ، وتقدير نظم الكلام : إذ كنت تعلم ذلك وأقررت به ، فعليك بشكر ربك ، وبين له الشكر بقوله : ( أما اليتيم فلا تقهر ) إلخ .

وقد جعل الشكر هنا مناسبا للنعمة المشكور عليها ، وإنما اعتبر تقدير : إذا أردت الشكر ; لأن شكر النعمة تنساق إليه النفوس بدافع المروءة في عرف الناس ، وصدر الكلام بـ ( أما ) التفصيلية لأنه تفصيل لمجمل الشكر على النعمة .

ولما كانت ( أما ) بمعنى : ومهما يكن شيء ، قرن جوابها بالفاء .

و ( اليتيم ) مفعول لفعل ( فلا تقهر ) . وقدم للاهتمام بشأنه ولهذا القصد لم يؤت به مرفوعا ، وقد حصل مع ذلك الوفاء باستعمال جواب ( أما ) أن يكون مفصولا عن ( أما ) بشيء كراهية موالاة فاء الجواب لحرف الشرط . ويظهر أنهم ما التزموا الفصل بين ( أما ) وجوابها بتقديم شيء من علائق الجواب إلا لإرادة الاهتمام بالمقدم ; لأن موقع ( أما ) لا يخلو عن اهتمام بالكلام اهتماما يرتكز في بعض أجزاء الكلام ، فاجتلاب ( أما ) في الكلام أثر للاهتمام وهو يقتضي أن مثار الاهتمام بعض متعلقات الجملة ، فذلك هو الذي يعتنون بتقديمه ، وكذلك القول في تقديم ( السائل ) وتقديم ( بنعمة ربك ) على فعليهما .

وقد قوبلت النعم الثلاث المتفرع عليها هذا التفصيل بثلاثة أعمال تقابلها .

فيجوز أن يكون هذا التفصيل على طريقة اللف والنشر المرتب ، وذلك ما درج عليه الطيبي ، ويجري على تفسير سفيان بن عيينة ( السائل ) بالسائل عن الدين والهدى ، فقوله : ( فأما اليتيم فلا تقهر ) مقابل لقوله : ( ألم يجدك يتيما فآوى ) لا محالة ، أي : فكما آواك ربك وحفظك من عوارض النقص المعتاد لليتم ، فكن أنت مكرما للأيتام رفيقا بهم ، فجمع ذلك في النهي عن قهره ; لأن أهل الجاهلية [ ص: 402 ] كانوا يقهرون الأيتام ، ولأنه إذا نهى عن قهر اليتيم مع كثرة الأسباب لقهره ; لأن القهر قد يصدر من جراء القلق من مطالب حاجاته ، فإن فلتات اللسان سريعة الحصول كما قال تعالى : ( فلا تقل لهما أف ) وقال : ( وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا ) .

والقهر : الغلبة والإذلال وهو المناسب هنا ، وتكون هذه المعاني بالفعل كالدع والتحقير بالفعل وتكون بالقول ، قال تعالى : ( وقولوا لهم قولا معروفا ) وتكون بالإشارة مثل عبوس الوجه ، فالقهر المنهي عنه هو القهر الذي لا يعامل به غير اليتيم في مثل ذلك ، فأما القهر لأجل الاستصلاح كضرب التأديب فهو من حقوق التربية ، قال تعالى : ( وإن تخالطوهم فإخوانكم ) .

وقوله : ( وأما السائل فلا تنهر ) مقابل قوله : ( ووجدك ضالا فهدى ) ؛ لأن الضلال يستدعي السؤال عن الطريق فالضال معتبر من صنف السائلين ، والسائل عن الطريق قد يتعرض لحماقة المسئول كما قال كعب :


وقال كل خليل كنت آمله : لا ألهينك إني عنك مشغول



فجعل الله الشكر عن هدايته إلى طريق الخير أن يوسع باله للسائلين .

فلا يختص السائل بسائل العطاء بل يشمل كل سائل ، وأعظم تصرفات الرسول - صلى الله عليه وسلم - بإرشاد المسترشدين ، وروي هذا التفسير عن سفيان بن عيينة . روى الترمذي عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن الناس لكم تبع وإن رجالا يأتونكم من أقطار الأرض يتفقهون ، فإذا أتوكم فاستوصوا بهم خيرا " قال هارون العبدي : كنا إذا أتينا أبا سعيد يقول : مرحبا بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم .

والتعريف في ( السائل ) تعريف الجنس فيعم كل سائل ، أي : عما يسأل النبيء - صلى الله عليه وسلم - عن مثله .

ويكون النشر على ترتيب اللف .

فإن فسر ( السائل ) بسائل المعروف كان مقابل قوله : ( ووجدك عائلا فأغنى ) وكان من النشر المشوش ، أي : المخالف لترتيب اللف ، وهو ما درج عليه الكشاف .

[ ص: 403 ] والنهر : الزجر بالقول مثل أن يقول : إليك عني . ويستفاد من النهي عن القهر والنهر النهي عما هو أشد منهما في الأذى كالشتم والضرب والاستيلاء على المال وتركه محتاجا ، وليس من النهر نهي السائل عن مخالفة آداب السؤال في الإسلام .

وقوله : ( وأما بنعمة ربك فحدث ) مقابل قوله : ( ووجدك عائلا فأغنى ) .

فإن الإغناء نعمة ، فأمره الله أن يظهر نعمة الله عليه بالحديث عنها وإعلان شكرها .

وليس المراد بنعمة ربك نعمة خاصة ، وإنما أريد الجنس فيفيد عموما في المقام الخطابي ، أي : حدث ما أنعم الله به عليك من النعم ، فحصل في ذلك الأمر شكر نعمة الإغناء ، وحصل الأمر بشكر جميع النعم لتكون الجملة تذييلا جامعا .

فإن جعل قوله : ( وأما السائل فلا تنهر ) مقابل قوله : ( ووجدك عائلا فأغنى ) على طريقة اللف والنشر المشوش كان قوله : ( وأما بنعمة ربك فحدث ) مقابل قوله : ( ووجدك ضالا فهدى ) على طريقة اللف والنشر المشوش أيضا .

وكان المراد بنعمة ربه نعمة الهداية إلى الدين الحق .

والتحديث : الإخبار ، أي : أخبر بما أنعم الله عليك اعترافا بفضله ، وذلك من الشكر . والقول في تقديم المجرور وهو ( بنعمة ربك ) على متعلقه كالقول في تقديم ( فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر ) .

والخطاب للنبيء - صلى الله عليه وسلم - فمقتضى الأمر في المواضع الثلاثة أن تكون خاصة به ، وأصل الأمر الوجوب ، فيعلم أن النبيء - صلى الله عليه وسلم - واجب عليه ما أمر به ، وأما مخاطبة أمته بذلك فتجري على أصل مساواة الأمة لنبيها فيما فرض عليه ما لم يدل دليل على الخصوصية ، فأما مساواة الأمة له في منع قهر اليتيم ونهر السائل فدلائله كثيرة مع ما يقتضيه أصل المساواة .

وأما مساواة الأمة في الأمر بالتحدث بنعمة الله فإن نعم الله على نبيه - صلى الله عليه وسلم - شتى منها ما لا مطمع لغيره من الأمة فيه ، مثل نعمة الرسالة ونعمة القرآن ونحو ذلك من مقتضيات الاصطفاء الأكبر ، ونعمة الرب في الآية مجملة .

[ ص: 404 ] فنعم الله التي أنعم بها على نبيه - صلى الله عليه وسلم - كثيرة منها ما يجب تحديثه به وهو تبليغه الناس أنه رسول من الله ، وأن الله أوحى إليه ، وذلك داخل في تبليغ الرسالة ، وقد كان يعلم الناس الإسلام فيقول لمن يخاطبه : أن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله .

ومنها تعريفه الناس ما يجب له من البر والطاعة كقوله لمن قال له : اعدل يا رسول الله . فقال : " أيأمنني الله على وحيه ولا تأمنوني ؟ ! " ، ومنه ما يدخل التحديث به في واجب الشكر على النعمة ، فهذا وجوبه على النبيء - صلى الله عليه وسلم - خالص من عروض المعارض ; لأن النبيء معصوم من عروض الرياء ولا يظن الناس به ذلك فوجوبه عليه ثابت .

وأما الأمة فقد يكون التحديث بالنعمة منهم محفوفا برياء أو تفاخر ، وقد ينكسر له خاطر من هو غير واجد مثل النعمة المتحدث بها . وهذا مجال للنظر في المعارضة بين المقتضي والمانع ، وطريقة الجمع بينهما إن أمكن أو الترجيح لأحدهما . وفي تفسير الفخر : سئل أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - عن الصحابة ، فأثنى عليهم فقالوا له : فحدثنا عن نفسك فقال : مهلا فقد نهى الله عن التزكية ، فقيل له : أليس الله تعالى يقول : ( وأما بنعمة ربك فحدث ) فقال : فإني أحدث ، كنت إذا سئلت أعطيت . وإذا سكت ابتديت ، وبين الجوانح علم جم فاسألوني . فمن العلماء من خص النعمة في قوله : ( بنعمة ربك بنعمة القرآن ونعمة النبوءة ، وقاله مجاهد . ومن العلماء من رأى وجوب التحدث بالنعمة . رواه الطبري عن أبي نضرة .

وقال القرطبي : الخطاب للنبيء - صلى الله عليه وسلم - والحكم عام له ولغيره . قال عياض في الشفا : " وهذا خاص له عام لأمته " .

وعن عمرو بن ميمون : إذا لقي الرجل من إخوانه من يثق به يقول له : رزق الله من الصلاة البارحة كذا وكذا ، وعن عبد الله بن غالب : أنه كان إذا [ ص: 405 ] أصبح يقول : لقد رزقني الله البارحة كذا ، قرأت كذا ، صليت كذا ، ذكرت الله كذا ، فقلنا له : يا أبا فراس إن مثلك لا يقول هذا ، قال : يقول الله تعالى : ( وأما بنعمة ربك فحدث ) وتقولون أنتم : لا تحدث بنعمة الله . وذكر ابن العربي عن أيوب قال : دخلت على أبي رجاء العطاردي فقال : لقد رزق الله البارحة : صليت كذا وسبحت كذا ، قال أيوب : فاحتملت ذلك لأبي رجاء . وعن بعض السلف أن التحدث بالنعمة تكون للثقة من الإخوان ممن يثق به ، قال ابن العربي : إن التحدث بالعمل يكون بإخلاص من النية عند أهل الثقة ، فإنه ربما خرج إلى الرياء وإساءة الظن بصاحبه . وذكر الفخر والقرطبي عن الحسن بن علي : إذا أصبت خيرا أو عملت خيرا فحدث به الثقة من إخوانك . قال الفخر : إلا أن هذا إنما يحسن إذا لم يتضمن رياء وظن أن غيره يقتدي به .

التالي السابق


الخدمات العلمية