الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      هذا ( ومن باب الإشارة ) ليسوا سواء من حيث الاستعداد وظهور الحق فيهم من أهل الكتاب الذين ظهرت فيهم نقوش الكتاب الآلهي الأزلي أمة قائمة بالله تعالى له يتلون آيات الله أي يظهرون للمستعدين ما فاض عليهم من الأسرار آناء الليل أوقات ليل الجهالة وظلمة الحيرة وهم يسجدون أي يخضعون لله تعالى ، ولا يحدث فيهم الأنانية أنهم عالمون وأن من سواهم جاهلون يؤمنون بالله واليوم الآخر [ ص: 53 ] أي بالمبدأ والمعاد ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر حسبما اقتضاه الشرع ، ولكون ما تقدم نظرا للخصوص ؛ لأن إيداع الأسرار عند الأحرار ، وهذا بالنظر إلى العموم لأن الشريعة أوسع دائرة من الحقيقة قدم وأخر ويسارعون في الخيرات من تكميل أنفسهم وغيرهم وأولئك من الصالحين القائمين بحقوق الحق والخلق وما يفعلوا من خير يقربكم إلى الله تعالى فلن يكفروه فقد جاء : " من تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا ، ومن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا ، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة " والله عليم بالمتقين أي الذين اتقوا ما يحجبهم عنه فيتجلى لهم بقدر زوال الحجاب .

                                                                                                                                                                                                                                      إن الذين كفروا واحتجبوا عن الحق برؤية الأغيار وأشركوا بالله تعالى ما لا وجود له في عير ولا نفير لن تغني لن تدفع عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله أي عذابه شيئا من الدفع ؛ لأنها من جملة أصنامهم التي عبدوها وأولئك أصحاب النار وهي الحجاب والبعد عن الحضرة هم فيها خالدون لاقتضاء صفة الجلال مع استعدادهم ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا الفانية الدنية ولذاتها السريعة الزوال طلبا للشهوات ومحمدة الناس لا يطلبون به وجه الله تعالى كمثل ريح فيها صر أي برد شديد أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم بالشرك والكفر فأهلكته عقوبة لهم من الله تعالى لظلمهم وما ظلمهم الله بإهلاك حرثهم ولكن أنفسهم يظلمون لسوء استعدادهم الغير المقبول .

                                                                                                                                                                                                                                      يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة أي خاصة تطلعونه على أسراركم من دونكم كالمنكرين المحجوبين إذ المحبة الحقيقية لا تكون إلا بين الموحدين لكونها ظل الوحدة ، ولا تكون بين المحجوبين لكونهم في عالم التضاد والظلمة ، ولا يتأتى الصفاء والوفاق الذي هو ثمرة المحبة في ذلك العالم ، فلذا ترى محبة غير أهل الله تعالى تدور على الأغراض ، ومن هنا تتغير لأن اللذات النفسانية لا تدوم ، فإذا كان هذا حال المحجوبين بعضهم مع بعض فكيف تتحقق المحبة بينهم وبين من يخالفهم في الأصل والوصف ، وأنى يتجانس النور والظلمة ، وكيف يتوافق مشرق ومغرب ؟ !


                                                                                                                                                                                                                                      أيها المنكح الثريا سهيلا عمرك الله كيف يلتقيان

                                                                                                                                                                                                                                          هي شامية إذا ما استقلت
                                                                                                                                                                                                                                      وسهيل إذا استقل يماني



                                                                                                                                                                                                                                      ففي الحقيقة بينهما عداوة حقيقة وبعد كلي إلى حيث لا تتراءى ناراهما ، وآثار ذلك ظاهرة كما بين الله تعالى بقوله سبحانه : قد بدت البغضاء من أفواههم لامتناع إخفاء الوصف الذاتي وما تخفي صدورهم أكبر لأنه المنشأ لذلك فهو نار وذاك شرار وهو جبل والظاهر غبار قد بينا لكم الآيات وهي العلامات الدالة على المحبة والعداوة وأسبابهما إن كنتم تعقلون وتفهمون من فحوى الكلام .

                                                                                                                                                                                                                                      ها أنتم أولاء تحبونهم بمقتضى ما عندكم من التوحيد لأن الموحد يحب الناس كلهم بالحق للحق ، ويرى الكل مظهرا لحبيبه جل شأنه ، فيرحم الجميع ، ويعلم أن البعض منهم قد اشتغل بباطل نظرا إلى بعض الحيثيات وابتلي بالقدر ، وهذا لا ينافي ما قدمنا آنفا عند التأمل ولا يحبونكم بمقتضى الحجاب والظلمة التي ضربت عليهم وتؤمنون بالكتاب أي جنسه كله لما أنتم عليه من التوحيد المقتضي لذلك وهم لا يؤمنون بذلك للاحتجاب بما هم عليه .

                                                                                                                                                                                                                                      وإذا لقوكم قالوا آمنا لما فيهم من النفاق المستجلب للأغراض العاجلة وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ الكامن في صدورهم إن تمسسكم حسنة كآثار تجلي الجمال تسؤهم ويحزنوا لها وإن تصبكم سيئة أي ما يظنون أنه سيئة كآثار تجلي الجلال يفرحوا بها وإن تصبروا على ما ابتليتم به وتثبتوا على التوحيد وتتقوا الاستعانة بالسوي لا يضركم كيدهم شيئا لأن الصابر على البلاء المتوكل على الله تعالى المستعين به المعرض [ ص: 54 ] عمن سواه ظافر بطلبته ، غالب على خصمه محفوف محفوظ بعناية الله تعالى ، والمخذول من استعان بغيره وقصد سواه ، كما قيل :


                                                                                                                                                                                                                                      من استعان بغير الله في طلب     فإن ناصره عجز وخذلان



                                                                                                                                                                                                                                      إن الله بما يعملون من المكايد محيط فيبطلها ويطفئ نارها .

                                                                                                                                                                                                                                      ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة لله تعالى تحت ظل الكبرياء والعظمة لعلكم تشكرون ذلك وبالشكر تزاد النعم إذ تقول للمؤمنين لما رأيت من حالهم ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين على صيغة اسم الفاعل السكينة عليكم ، أو (منزلين) على صيغة اسم المفعول من جانب الملكوت إليكم بلى إن تصبروا على صدمات تجليه سبحانه وتتقوا من سواه ويأتوكم من فورهم هذا أي بلا بطء يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين على صيغة الفاعل أي معلمين أرواحكم بعلائم الطمأنينة أو مسومين على صيغة المفعول بعمائم بيض ، وهي إشارة إلى الأنوار الإلهية الظاهرة عليهم ، وتخصيص الخمسة آلاف بالذكر لعله إشارة إلى إمداد كل لطيفة من اللطائف الخمس بألف ، والألف إشارة إلى الإمداد الكامل حيث إنها نهاية مراتب الأعداد ، وشرط ذلك بالصبر والتقوى لأن النصر على الأعداء - وأعدى أعدائك نفسك التي بين جنبيك - لا يكون إلا عند تقوى القلب ، وكذا سائر جنود الروح ، بل والروح نفسها أيضا بتأييد الحق والتنور بنور اليقين ، فتحصل المناسبة بين القلب مثلا وبين ملكوت السماء ، وبذلك التناسب يستنزل قواها وأوصافها في أفعاله ، وربما يستمد من قوى قهرها على من يغضب عليه ، وذلك عبارة عن نزول الملائكة ، وهذا لا يكون إلا بالصبر على تحمل المكروه طلبا لرضا الله تعالى والتقوى من مخالفة أمر الحق والميل إلى نحو النفع الدنيوي واللذات الفانية .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما إذا جزع وهلع ومال إلى الدنيا فلا يحصل له ذلك ؛ لأن النفس حينئذ تستولي عليه وتحجبه بظلمة صفاتها عن النور ، فلم تبق تلك المناسبة وانقطع المدد ولم تنزل الملائكة ، وما جعله الله إلا بشرى لكم أي إلا لتستبشروا به فيزداد نشاطكم في التوجه إلى الحق ولتطمئن به قلوبكم فيتحقق الفيض بقدر التصفية وما النصر إلا من عند الله لا من الملائكة فلا تحتجبوا بالكثرة عن الوحدة ، وبالخلق عن الحق ، فالكل منه تعالى وإليه العزيز فلا يعجزه الظهور بما شاء وكيف شاء الحكيم الذي ستر نصره بصور الملائكة لحكمة ليقطع أي يهلك طرفا من الذين كفروا وهم أعداء الله تعالى أو يكبتهم يخزيهم ويذلهم فينقلبوا خائبين فيرجعوا غير ظافرين بما أملوا .

                                                                                                                                                                                                                                      ليس لك من حيث أنت من الأمر شيء وكله لك من حيثية أخرى أو يتوب عليهم إذا أسلموا فتفرح لأنك المظهر للرحمة الواسعة وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين . أو يعذبهم لأجلك فتشتفي بهم من حيث إنهم خالفوا الأمر الذي بعثت به إلى الناس كافة فإنهم ظالمون بتلك المخالفة .

                                                                                                                                                                                                                                      ولله ما في السماوات من عالم الأرواح وما في الأرض من عالم الطبيعيات يتصرف فيهما كيفما يشاء ويختار يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء لأن له التصرف المطلق في الملك والملكوت والله غفور رحيم كثير المغفرة والرحمة .

                                                                                                                                                                                                                                      نسأل الله تعالى أن يغفر لنا ويرحمنا .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية