الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
وحينئذ فهذا وجه تاسع مستقل بكسر هذا الطاغوت ، وهو أن تقديم العقل على الشرع يتضمن القدح في العقل والشرع ; لأن العقل قد شهد الشرع والوحي بأنه أعلم منه ، وأنه لا نسبة له إليه ، وأن نسبة علومه ومعارفه إلى الوحي أقل من خردلة بالإضافة إلى جبل ، فلو قدم حكم العقل عليه لكان ذلك قدحا في شهادته ، وإذا بطلت شهادته بطل قبول قوله ، فتقديم العقل على الوحي يتضمن القدح فيه وفي الشرع ، وهذا ظاهر لا خفاء به ، يوضحه :

الوجه العاشر : وهو أن الشرع مأخوذ عن الله بواسطة الرسولين والبشر بينه وبين عباده ، مؤيدا بشهادة الآيات وظهور البراهين على ما يوجبه العقل ويقتضيه تارة ويستحسنه تارة ويجوزه تارة ويضعف عن دركه تارة ، فلا سبيل له إلى الإحاطة به ، ولا بد له من التسليم له والانقياد لحكمه والإذعان والقبول وهناك يسقط ( لم ) ويبطل ( كيف ) وتزول ( هلا ) وتذهب ( لو ، وليت ) في الريح ، لأن اعتراض المعترض عليه مردود ، واقتراح المقترح ما ظن أنه أولى منه سفه ، وجملة الشريعة مشتملة على أنواع الحكمة علما وعملا ، حتى لو جمعت حكم جميع الأمم ونسبت إليها لم تكن لها إليها نسبة ، وهي متضمنة لأعلى المطالب بأقرب الطرق وأتم البيان فهي متكفلة بتعريف [ ص: 114 ] الخليقة ربها وفاطرهم المحسن إليها بأنواع الإحسان بأسمائه وصفاته وأفعاله ، وتعريف الطريق الموصل إلى رضاه .

ويقابل ذلك تعريف حال الداعي إلى الباطل والطرق الموصلة إليه ، وحال السالكين تلك الطريق وإلى أين تنتهي بهم ، ولهذا تقبلها العقول الكاملة أحسن تقبل بالتسليم والإذعان ، وتستدير حولها بحماية حوزتها والذب عن سلطانها ، فمن ناصر باللغة الشايعة ، وحام بالعقل الصريح ، وذاب عنه بالبرهان ، ومجاهد بالسيف والرمح والسنان ومتفقه في الحلال والحرام ، ومعتن بتفسير القرآن وحافظ المتون والسنة وأسانيدها ومفتش عن أحوال رواتها وناقد لصحيحها من سقيمها ومعلولها من سليمها .

فهذه الشريعة ابتداؤها من الله وانتهاؤها إليه ليس فيها حديث المنجم في تأثيرات الكواكب وحركات الأفلاك وهيئاتها ومقادير الأجرام ولا حديث التربيع والتثليث والتسديس والمقارنة ، ولا حديث صاحب الطبيعة الناظر في آثارها ، واشتباك الاستفاضات وامتزاجها وقوامها ، وما يتعلق بالحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة ، وما الفاعل منها وما المنفعل ، ولا فيها حديث لمهندس ولا لباحث عن مقادير الأشياء ونقطها وخطوطها ، وسطوحها وأجسامها وأضلاعها وزواياها ومعاطفها ، وما الكرة وما الدائرة والخط المستقيم والمنحنى ، ولا فيها هذيان المنطقيين ونحوهم في النوع والجنس والفصل والخاصة والعرض العام ، والمقولات العشر ، والمختلطات والموجهات الصادر عن رجل مشرك من يونان كان يعبد الأوثان ولا يعرف الرحمن ، ولا يصدق بمعاد الأبدان ، ولا أن الله يرسل رسولا بكلامه إلى نوع الإنسان .

فجعل هؤلاء المعارضون بين العقل والنقل ، عقل هذا الرجل معيارا على كتب الله المنزلة وما أرسل به رسله ، فما زكاه منطقه وآلته وقانونه الذي وضعه بعقله قبلوه ، وما لم يزكه تركوه .

ولو كانت هذه الأدلة التي أفسدت عقول هؤلاء صحيحة لكان صاحب الشريعة يقوم شريعته بها ويكملها باستعوالها ، وكان الله تعالى ينبه عليها ويحض على التمسك بها .

فيا للعقول أين الدين من الفلسفة ؟ وأين كلام رب العالمين من آراء اليونان والمجوس وعباد الأصنام والصابئين ؟ والوحي حاكم والعقل محكوم عليه .

[ ص: 115 ] فإن قالوا : إنما نقدم العقل الصريح الذي لم يختلف فيه اثنان على نصوص الأنبياء ، فقد رموا الأنبياء بما هم أبعد الخلق منه ، وهو أنهم جاءوا بما يخالف العقل الصريح ، هذا وقد شهد الله وكفى بالله شهيدا بشهادته والملائكة وأولو العلم أن طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم هي الطريقة البرهانية للحكمة ، كما قال تعالى : ( ياأيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم ) ، وقال تعالى : ( وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم ) فالطريقة البرهانية هي الواردة بالوحي الناظمة للرشد ، الداعية إلى الخير ، الواعدة لحسن المآب المبينة لحقائق الأنباء ، المعرفة بصفات رب الأرض والسماء ، وأن الطريقة التقليدية التخمينية هي المأخوذة من المقدمتين والنتيجة والدعوى التي ليس مع أصحابها إلا الرجوع إلى رجل من يونان وضع بعقله قانونا يصحح بزعمه علوم الخلائق وعقولهم ، فلم يستفد به عاقل تصحيح مسألة واحدة في شيء من علوم بني آدم ، بل ما وزن به علم إلا أفسده ، وما برع فيه أحد إلا انسلخ من حقائق الإيمان كانسلاخ القميص عن الإنسان .

التالي السابق


الخدمات العلمية