الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
[ ص: 242 ] النوع السادس

علم المبهمات

وقد صنف فيه أبو القاسم السهيلي كتابه المسمى بـ " التعريف والإعلام " ، وتلاه تلميذه ابن عساكر [ ص: 243 ] في كتابه المسمى بـ " التكميل والإتمام " .

[ ص: 244 ] وهو نحو المبهمات المصنفة في علوم الحديث ، وكان في السلف من يعتني به ; قال عكرمة : " طلبت الذي خرج في بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم أدركه الموت أربع عشرة سنة " .

إلا أنه لا يبحث فيما أخبر الله باستئثاره بعلمه ; كقوله : ( وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم ) ( الآية : 60 ) ، والعجب ممن تجرأ وقال : قيل : إنهم قريظة ، وقيل : من الجن .

وله أسباب :

الأول : أن يكون أبهم في موضع استغنى ببيانه في آخر في سياق الآية ; كقوله تعالى : ( مالك يوم الدين ) ( الفاتحة : 4 ) ، بينه بقوله : ( وما أدراك ما يوم الدين ) ( الانفطار : 17 ) الآية .

وقوله : ( الذين أنعمت عليهم ) ( الفاتحة : 7 ) ، وبينه بقوله : ( من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ) ( النساء : 69 ) .

وقوله : ( وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة ) ( البقرة : 30 ) ، والمراد آدم ، والسياق بينه .

وقوله : ( ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ) ( التوبة : 119 ) ، والمراد بهم [ ص: 245 ] " المهاجرين " ; لقوله في " الحشر " : ( للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم ) ( الآية : 8 ) ، وقد احتج بها الصديق على الأنصار يوم السقيفة ، فقال : نحن الصادقون ، وقد أمركم الله أن تكونوا معنا . أي : تبعا لنا ، وإنما استحقها دونهم ; لأنه الصديق الأكبر .

وقوله تعالى : ( وجعلنا ابن مريم وأمه آية ) ( المؤمنون :

) يعني مريم وعيسى ، وقال : ( آية ) ولم يقل آيتين ، وهما آيتان ; لأنها قضية واحدة ، وهي ولادتها له من غير ذكر .

والثاني : أن يتعين لاشتهاره ; كقوله : ( اسكن أنت وزوجك الجنة ) ( البقرة : 35 ) ، ولم يقل : " حواء " ; لأنه ليس غيرها .

وكقوله : ( ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه ) ( البقرة : 258 ) ، والمراد النمروذ ; لأنه المرسل إليه .

وقوله : ( وقال الذي اشتراه من مصر ) ( يوسف : 21 ) ، والمراد العزيز .

وقوله : ( واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق ) ( المائدة : 27 ) ، والمراد قابيل وهابيل .

[ ص: 246 ] وقوله : ( يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين ) ( الأنعام : 25 ) .

قالوا : وحيثما جاء في القرآن : ( أساطير الأولين ) فقائلها النضر بن الحارث بن كلدة ، وإنما كان يقولها لأنه دخل بلاد فارس ، وتعلم الأخبار ثم جاء ، وكان يقول : أنا أحدثكم أحسن مما يحدثكم محمد ، وإنما يحدثكم أساطير الأولين . وفيه نزل : ( ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله ) ( الأنعام : 93 ) ، وقتله النبي صلى الله عليه وسلم صبرا يوم بدر .

وقوله : ( لمسجد أسس على التقوى ) ( التوبة : 108 ) ، فإنه ترجح كونه مسجد قباء بقوله : ( من أول يوم ) ; لأنه أسس قبل مسجد المدينة ، وحدس هذا بأن اليوم قد يراد به المدة والوقت ، وكلاهما أسس على هذا من أول يوم ، أي : من أول عام من الهجرة ، وجاء في الحديث تفسيره بمسجد المدينة ، وجمع بينهما بأن كليهما مراد الآية .

الثالث : قصد الستر عليه ; ليكون أبلغ في استعطافه ، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بلغه عن قوم شيء خطب فقال : ما بال رجال قالوا كذا وهو غالب ما في القرآن ، كقوله تعالى : ( أوكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم ) ( البقرة : 100 ) ، قيل : هو مالك بن الصيف .

[ ص: 247 ] وقوله : ( أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى ) ( البقرة : 108 ) ، والمراد هو رافع بن حريملة ، ووهب بن زيد .

وقوله : ( ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ) ( البقرة : 204 ) .

وقوله : ( ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب ) ( النساء : 44 ) .

وقوله : ( وقالت طائفة من أهل الكتاب ) ( آل عمران : 72 ) . الرابع : ألا يكون في تعيينه كثير فائدة ; كقوله تعالى : ( أو كالذي مر على قرية ) ( البقرة : 259 ) ، والمراد بها بيت المقدس .

( واسألهم عن القرية ) ( الأعراف : 163 ) ، والمراد أيلة ، وقيل : طبرية .

[ ص: 248 ] ( فلولا كانت قرية ) ( يونس : 98 ) ، والمراد نينوى .

( أتيا أهل قرية ) ( الكهف : 77 ) ، قيل : برقة .

فإن قيل : ما الفائدة في قوله : ( وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر ) ( الأنعام : 74 ) ؟ قيل : آزر اسم صنم ، وفي الكلام حذف ; أي : دع آزر ، وقيل : كلمة زجر ، وقيل : بل هو اسم أبيه . وعلى هذا فالفائدة أن الأب يطلق على الجد ، فقال " آزر " لرفع المجاز .

الخامس : التنبيه على التعميم ، وهو غير خاص بخلاف ما لو عين ; كقوله تعالى : ( ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ) ( النساء : 100 ) ، قال عكرمة : أقمت أربع عشرة سنة أسأل عنه حتى عرفته ; هو ضمرة بن العيص ، وكان من المستضعفين بمكة ، وكان مريضا ، فلما نزلت آية الهجرة خرج منها ، فمات بالتنعيم .

وقوله : ( الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية ) ( البقرة : 274 ) ، قيل : نزلت في علي رضي الله عنه ; كان معه أربعة دوانق ، فتصدق بواحد بالنهار ، وآخر بالليل ، وآخر سرا ، وآخر علانية .

وقوله : ( وما علمتم من الجوارح مكلبين ) ( المائدة : 4 ) ، قيل : نزلت في عدي بن حاتم ; كان له كلاب قد سماها بأسماء أعلام .

السادس : تعظيمه بالوصف الكامل دون الاسم ; كقوله : ( ولا يأتل أولو الفضل منكم ) ( النور : 22 ) ، والمراد الصديق .

[ ص: 249 ] وكذلك : ( والذي جاء بالصدق ) ( الزمر : 33 ) ، يعني محمدا ، ، والذي ( وصدق به ) ( الزمر : 33 ) ، يعني أبا بكر ، ودخل في الآية كل مصدق ، ولذلك قال : ( أولئك هم المتقون ) ( الزمر : 33 ) .

السابع : تحقيره بالوصف الناقص ، كقوله : ( إن الذين كفروا بآياتنا ) ( النساء : 56 ) ، وقوله : ( إن شانئك هو الأبتر ) ( الكوثر : 3 ) ، والمراد فيها العاصي بن وائل .

وقوله : ( إن جاءكم فاسق بنبإ ) ( الحجرات : 6 ) ، والمراد الوليد بن عقبة بن أبي معيط .

وأما قوله : ( تبت يدا أبي لهب ) ( المسد : 1 ) ، فذكره هنالك للتنبيه على أن مآله للنار ذات اللهب .

التالي السابق


الخدمات العلمية