الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            [ ص: 109 ] مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " فإذا كان أمرد غسل بشرة وجهه كلها ، وإن نبتت لحيته وعارضاه أفاض الماء على لحيته وعارضيه ، وإن لم يصل الماء إلى بشرة وجهه التي تحت الشعر أجزأه إذا كان شعره كثيفا " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا صحيح ، وجملته أن وجه المتوضئ لا يخلو من أربعة أحوال :

                                                                                                                                            أحدها : أن يكون أمردا لا شعر عليه فيلزمه أن يوصل الماء إلى جميع البشرة ، فإن أخل بشيء منه وإن قل لم يجزه حتى يستوعب جميعه .

                                                                                                                                            والحالة الثانية : أن يكون ذا لحية كثيفة قد سترت البشرة فيلزمه غسل ما ظهر من البشرة وإمرار الماء على الشعر الساتر للبشرة ، وليس عليه إيصال الماء إلى البشرة التي تحت الشعر . وقال أبو ثور وأشار إليه المزني في مسائله المنثورة أن عليه إيصال الماء إلى البشرة التي تحت الشعر كالجنابة لأمرين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن غسل الوجه مستحق في الوضوء كاستحقاقه في الجنابة ، فوجب أن يلزمه إيصال الماء إلى البشرة في الوضوء كما يلزمه في الجنابة .

                                                                                                                                            والثاني : أنه لما لزم إيصال الماء إلى ما تحت الحاجبين والشارب لزمه إيصاله إلى ما تحت اللحية ؛ لأن كل ذلك من بشرة الوجه .

                                                                                                                                            ودليلنا قوله تعالى : فاغسلوا وجوهكم [ المائدة : 6 ] . واسم الوجه يتناول ما يقع به المواجهة ، وما تحت الشعر الكثيف لا تقع به المواجهة فلم يتناوله الاسم ، وإذا لم يتناوله لم يتعلق به الحكم ؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان كثيف اللحية وغسل وجهه مرة ، والمرة الواحدة لا يصل فيها الماء إلى ما تحت الشعر والبشرة ولأنه شعر يستر ما تحته في العادة فوجب أن ينتقل الفرض إليه قياسا على شعر الرأس ، وبالعادة فرقنا بين شعر اللحية وبين شعر الحاجبين والذراعين ؛ لأن شعر اللحية يستر ما تحته في العادة فلم يلزم غسل ما تحته وشعر الذراعين والحاجبين لا يستر ما تحته في العادة فلزم إذا صار كثيفا في النادر أن يغسل ما تحته ، وأما الغسل من الجنابة فالفرق بينه وبين الوضوء أن إيصال الماء إلى جميع الشعر والبشرة مستحق في الجنابة لقوله صلى الله عليه وسلم : " فإن تحت كل شعرة جنابة " ، وفي الوضوء إنما يلزمه غسل ما ظهر لقوله : فاغسلوا وجوهكم [ المائدة : 16 ] فإذا ثبت أن ما تحت البشرة لا يلزم إيصال الماء إليه فعليه أن يمر الماء على جميع الشعر الظاهر ، وإن ترك منه شيئا وإن قل لم يجزه .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة : يلزمه أن يغسل الربع من شعر اللحية في أشهر الروايتين عنه بناء على أصله في مسح الرأس والخفين ولا يلزمه في الرواية الثانية أن يغسل شيئا منهما وهذا خطأ . [ ص: 110 ] لقوله تعالى : فاغسلوا وجوهكم [ المائدة : 6 ] . ولأنه شعر نابت على بشرة الوجه فوجب أن يلزمه غسله كالحاجبين ، فإذا تقرر أن استيعاب غسله واجب ففرض الغسل ينتقل عن البشرة إلى الشعر على سبيل الأصل لا على سبيل البدل ، فعلى هذا لو غسل الشعر ثم ذهب شعره ، فظهرت البشرة لم يجب غسلها . وقال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري : فرض الغسل ينتقل إلى الشعر على سبيل البدل ، فإن ظهرت البشرة بعد زوال الشعر لزمه غسلها كظهور القدمين بعد المسح على الخفين ؛ وهذا خطأ لأن فرض الغسل يتعلق بالشعر دون البشرة بدليل أنه لو غسل البشرة دون الشعر لم يجزه ، وخالف مسح الخفين لأنه لو غسل الرجلين ولم يمسح على الخفين أجزأه ، فدل على أن الفرض ينتقل إلى الخفين على سبيل البدل وإلى شعر اللحية على سبيل الأصل .

                                                                                                                                            فأما البياض الذي بين الوجه والعذار فهو من الوجه يجب غسله من الملتحي وغيره ، وقال مالك : لا يلزمه غسله من الملتحي لأن شعر العذار حائل بينه وبين الوجه وهذا خطأ ؛ لأن علي بن أبي طالب حين وصف وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع إبهاميه في أصول أذنيه لأنه محل من الوجه لم يستره شعر اللحية فوجب أن يبقى فرض غسله كالوجنة والجبهة .

                                                                                                                                            فصل : والحال الثالثة : من أحوال المتوضئ أن يكون خفيف اللحية لا يستره شعر البشرة ، فهذا يلزمه غسل الشعر والبشرة ، ولا يجوز أن يقتصر على غسل أحدهما دون الآخر لأنه مواجه بهما جميعا فلو غسل الشعر دون البشرة ، أو البشرة دون الشعر لم يجزه الاقتصار على غسل بعض الوجه ، وقال أبو حنيفة : ليس عليه إيصال الماء إلى البشرة وإن كان الشعر خفيفا ؛ لأن البشرة باطنة كما لو كان الشعر كثيفا وهذا خطأ لرواية أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ كفا من ماء فأدخله تحت حنكه فخلل به لحيته وقال : " هكذا أمرني ربي " ولأنها بشرة ظاهرة من وجهه فوجب أن يلزمه إيصال الماء إليها كالتي لا شعر عليها ولأنه حائل له يستر جميع المحل ، فوجب أن يسقط به فرض المحل قياسا على لبس خف مخرق .

                                                                                                                                            [ ص: 111 ] فصل : والحالة الرابعة : أن يكون بعض شعره خفيفا لا يستر البشرة وبعضه كثيفا يستر البشرة وهذا على ضربين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن يكون الكثيف متفرقا بين أثناء الخفيف لا يمتاز منه ولا ينفرد عنه ، فهذا يلزمه إيصال الماء إلى جميع الشعر والبشرة معا ؛ لأن إفراد الكثيف بالغسل يشق وإمراره على الخفيف لا يجزئ .

                                                                                                                                            والضرب الثاني : أن يكون الخفيف متميزا منفردا عن الكثيف ، فالواجب عليه أن يغسل ما تحت الخفيف دون الكثيف اعتبارا بما يقع به المواجهة ولو غسل بشرة جميعه كان أولى .

                                                                                                                                            فأما شعر الحاجبين وأهداب العينين والشارب والعنفقة فهذه المواضع الأربعة يلزمه إيصال الماء إلى ما تحتها من البشرة سواء كان شعرها خفيفا أو كثيفا .

                                                                                                                                            لما روي عن أبي بكر رضي الله عنه موقوفا وبعضهم يصله بالنبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا تنسوا المغفلة والمنشلة " ، فالمغفلة : العنفقة . والمنشلة ما تحت الخاتم ، ولأن هذه مواضع يخف شعرها في الغالب فإن كثفت كان نادرا فلم يسقط فرض الغسل عن البشرة كشعر الذراعين ولأنه شعر بين مغسولين فاعتبر حكمه بما بينهما .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية