الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          [ ص: 3 ] بسم الله الرحمن الرحيم

                          والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة إن الله كان عليما حكيما ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ذلك لمن خشي العنت منكم وأن تصبروا خير لكم والله غفور رحيم .

                          في هاتين الآيتين بيان بقية ما يحرم من نكاح النساء وحل ما عداه ، وحكم نكاح الإماء ، وما فصلناهما عما قبلهما إلا لأن من قسموا القرآن إلى ثلاثين جزءا جعلوهما في أول الجزء الخامس ، وقد راعوا في هذا التقسيم من اللفظ دون المعنى ، وكان المناسب للمعنى [ ص: 4 ] أن يجعلوا أول الجزء الخامس قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ( 4 : 29 ) ، كما هو ظاهر .

                          فقوله تعالى : والمحصنات من النساء عطف على ما قبله من المحرمات ، أي : وحرمت عليكم المحصنات من النساء أن تنكحوهن ، والمحصنات : جمع محصنة بفتح الصاد ، اسم مفعول من أحصن عند جميع القراء ، وروي عن الكسائي كسرها في غير هذا الموضع فقط ، وقيل : لا يصح الفتح عنه ، والإحصان من الحصن وهو المكان المنيع المحمي ، ففيه معنى المنع الشديد ، ويقال : حصنت المرأة ـ بضم الصاد ـ حصنا وحصانة ، أي : عفت فهي حاصن وحاصنة وحصان وحصناء ـ بالفتح فيهما ـ قال الشاعر :


                          حصان رزان ما تزن بريبة وتصبح غرثى من لحوم الغوافل

                          ويقال : أحصنت المرأة إذا تزوجت ; لأنها تكون في حصن الرجل وحمايته ، ويقال : أحصنها أهلها إذا زوجوها ، ومن شأن المتزوجة أن تحصن نفسها فتكتفي بزوجها عن التطلع إلى الرجال لأجل حاجة الطبيعة ، وتحصن زوجها عن التطلع إلى غيرها من النساء ، فعلى المرأة المعول في الإحصان ، حتى قيل : إن لفظ المحصنة ـ بفتح الصاد ـ اسم فاعل نطقت به العرب على خلاف عادتها ، فقد روي عن ابن الأعرابي أنه قال : كل أفعل اسم فاعله بالكسر إلا ثلاثة أحرف : أحصن ، ألفج إذا ذهب ماله ، وأسهب إذا كثر كلامه ، وروي مثله عن الأزهري ، وعن ثعلب أن المرأة العفيفة يقال لها : محصنة - بفتح الصاد - ومحصنة - بكسرها - وأما المرأة المتزوجة فيقال لها : محصنة - بالفتح - لا غير ، وجماهير السلف والخلف - ومنهم أئمة الفقه المشهورون - على أن المراد بالمحصنات هاهنا المتزوجات ، وقيل : هن الحرائر ، وقيل : عام في الحرائر والعفائف والمتزوجات ، وقد يقال : هن الحرائر المتزوجات ، وسيأتي عن الأستاذ الإمام ما يرجحه ، ولماذا قال : من النساء وصيغة الجمع مغنية عن هذا القيد ؟ قال بعضهم : النكتة في ذلك : تأكيد العموم ، ولم ير قوله كافيا وافيا ، وصرح بعضهم بغموض النكتة في ذلك ، قال الأستاذ الإمام : قد استشكل ذلك المفسرون حتى روي عن مجاهد أنه قال : لو كنت أعلم من يفسرها لي لضربت إليه أكباد الإبل ، أي : لسافر إليه وإن بعد مكانه ، وعندي أن هذا القيد يكاد يكون بديهيا ; فإن لفظ المحصنات قد يراد به العفيفات ، أو المسلمات ، فلو لم يقل هنا : من النساء ، لتوهم أن ( المحصنات ) إنما يحرم نكاحهن إذا كن مسلمات ، فأفاد هذا القيد العموم والإطلاق ، أي أن عقد الزوجية محترم مطلقا لا فرق فيه بين المؤمنات والكافرات والحرائر والمملوكات ، فيحرم تزوج أية امرأة في عصمة رجل وحصنه .

                          وأما قوله تعالى : إلا ما ملكت أيمانكم ، فالجمهور على أنه استثناء من المحصنات [ ص: 5 ] أي : إلا ما سبيتم منهن في حرب دينية تدافعون فيها عن حقيقتكم ، أو تؤمنون بها دعوة دينكم ، ورأيتم من المصلحة ألا تعاد السبايا إلى أزواجهن الكفار في دار الحرب ، فعند ذلك ينحل عقد زوجيتهن ويكن حلالا لكم بالشروط المعروفة في الشريعة ، فقد روى مسلم من حديث أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ أنه كان سبب نزول هذه الآية تحرج الصحابة من الاستمتاع بسبايا ( أوطاس ) وأخرج الحديث أيضا أحمد ، وأصحاب السنن ، وفي هذه الروايات التصريح باشتراط الاستبراء بوضع الحامل لحملها وحيض غيرها ، ثم طهرها ، وقد صرح بعض العلماء كالحنفية وبعض الحنابلة بأن من سبي معها زوجها لا تحل لغيره ، فاعتبروا في الحل اختلاف الدار : دار الإسلام ودار الحرب ، وبعضهم يقول : إن اختلاف الدار لا دخل في حل السبايا ، وإنما سببه أن من سبيت دون زوجها ، فإنها إنما تحل للسابي بعد استبراء رحمها للشك في حياة زوجها ، أي : وعدم الطمع في لحوقه بها إن فرض أنه بقي حيا إلا على سبيل الندور الذي لا حكم له ، وهذا ينطبق على الحكمة العامة في حل الاستمتاع بالمملوكات ، وهي أنه لما كان الشأن الغالب أن يقتل بعض أزواجهن ويفر بعضهم الآخر حتى لا يعود إلى بلاد المسلمين ، وكان من الواجب على المسلمين كفالة هؤلاء السبايا بالإنفاق عليهن ، ومنعهن من الفسق ، كان من المصلحة لهن وللهيئة الاجتماعية أن يكون لكل واحدة منهن ـ أو أكثرـ كافل يكفيها هم الرزق وبذل العرض لكل طالب ، ولا يخفى ما في هذا الأخير من الشقاء على النساء ، فإن قيل : أليس الخير لهن أن يرجعن إلى بلادهن فمن كان زوجها حيا عادت إليه ، ومن كان زوجها مفقودا تزوجت غيره أو كان شر فسقها على قومها ؟ نقول : إن الإسلام ما فرض السبي ولا أوجبه ولا حرمه أيضا ; لأنه قد يكون فيه المصلحة حتى للسبايا أنفسهن في بعض الأوقات والأحوال ، ومنها أن تستأصل الحرب جميع الرجال من قبيلة محدودة العدد مثلا ، فإن رأى المسلمون أن الخير والمصلحة في بعض الأحوال أن ترد السبايا إلى قومهن جاز لهم ذلك ، أو وجب عملا بقاعدة جلب المصالح ودرء المفاسد ، وكل هذا إذا كانت الحرب دينية - كما قيدنا - فإن كانت الحرب لمطامع الدنيا وحظوظ الملوك فلا يباح فيها السبي ، وقد نبه على ذلك الأستاذ الإمام ، وهذه عبارته في تفسير الآية :

                          المحصنات : المتزوجات ، وما ملكت الأيمان بالسبي في حرب دينية وأزواجهن كفار في دار الحرب ينفسخ نكاحهن ، ويحل الاستمتاع بهن بعد الاستبراء ، فإذا قيل : إن ما ملكت الأيمان يشمل المملوكة المتزوجة في دار الإسلام وهي محرمة على سيدها أن يفترشها بالإجماع ! فالجواب أن العموم هنا مخصوص بالمسببات ، وسكت عن المملوكات المتزوجات ; لأن التزوج بالمملوكات خلاف الأصل وهو مكروه في الشرع ، والذوق والعقل ، فهو كالتنبيه إلى أنه لا ينبغي أن يكون ; ولذلك شدد فيه - كما يأتي - ويزاد على هذا أنه أمر لم يكن معروفا عند التنزيل اهـ .

                          [ ص: 6 ] أقول : والذي تبادر إلى فهمي أن المراد بـ ما ملكت أيمانكم هنا نشوء الملك وحدوثه على الزوجية ؛ لأن الفعل الماضي في مقام التشريع لا يراد به الإخبار ، وإنما يراد به الإنشاء ، فالمعنى : وحرمت عليكم المحصنات أي المتزوجات إلا من طرأ عليهن الملك ، وإنما يطرأ الملك على المتزوجة بالسبي بشرطه الذي أشرنا إليه ، وأما المملوكة التي زوجها سيدها فالزواج فيها هو الذي طرأ على الملك بجعل الملك ما له من حق الاستمتاع للزوج ، فإذا أخرجها المالك الذي زوجها من ملكه بنحو بيع ، أو هبة كان بائعا أو واهبا ما يملكه ، وهو ما عدا الاستمتاع الذي صار حق الزوج ، وروي عن بعض الصحابة ، ومنهم ابن مسعود أن الملك الجديد يبطل نكاحها فتطلق على زوجها وتحل لمالكها الجديد عملا بعموم الآية ، ويقال : إن عليه جمهور الإمامية ، ولولا ما اختاره الأستاذ الإمام من عدم الاعتداد بزواج الأمة حتى كأنه غير موجود ، وما بيناه من كون البائع أو الواهب إنما باع أو وهب ما يملك ، لكان هذا القول أرجح من مذهب جمهور أهل السنة إلا من قال : إن المحصنات هنا يعم ذوات الأزواج والعفيفات والحرائر ، وملك اليمين يعم ملك الاستمتاع بالنكاح والاستمتاع بالتسري ، والمعنى حينئذ : وحرمت عليكم كل أجنبية إلا بعقد النكاح ، وهو ملك الاستمتاع ، أو بملك العين الذي يتبعه حل الاستمتاع ، وروي هذا عن سعيد بن جبير ، وعطاء ، والسدي من مفسري التابعين ، وفقهائهم وعن بعض الصحابة أيضا واختاره مالك في الموطأ وفيه من التكلف ما ترى ، وأما إذا كانت الأمة المتزوجة كافرة وسباها المسلمون بالشروط المتقدمة فبطلان نكاحها بالسبي أولى من بطلان نكاح الحرة به .

                          ثم قال تعالى : كتاب الله عليكم أي : كتب الله عليكم تحريم هذه الأنواع من النساء كتابا مؤكدا ; أي : فرضه فرضا ثابتا محكما لا هوادة فيه ؛ لأن مصلحتكم فيه ثابتة لا تتغير ، وسيأتي بيان ذلك في تفسير قوله تعالى : يريد الله ليبين لكم ( 4 : 26 ) .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية